path

غزة ...سوق الجنة ودركات الجحيم

article title

إنّ غزة تعيش مأساةً لا مثيل لها في العصر الحديث، بل تفوق كل العصور، وذلك لأنّ الكوارث والمذابح التي وقعت قديمًا كانت تصل إلى مسامع الناس بعد أيام أو شهور أو سنوات، وربما لا يعلمون عنها شيئًا. أمّا الآن، فهناك أكثر من مليوني إنسان محاصرين في غزة؛ حربُ إبادةٍ جماعية بلا توقف، حربُ تهجير، حربُ تجويعٍ وحصارٍ كامل.

‎أهلُنا في غزة يفترسهم الجوع والمرض، يتساقطون أمام أعين العالم، ونرى الأطفال الصغار يبكون بدموع بريئة ويصرخون صرخة المستغيث:

‎لماذا لا يجد الطفل البريء كسرة خبز؟ لماذا لا يجد شربة ماء؟

‎لعلّه يسأل بائسًا: ماذا فعلنا حتى أصابنا ما نرى؟ بأيّ ذنبٍ اقترفناه؟

‎كم هو شديد على النفس أن يتلوى ابنك جوعًا، ونفسك تتقطّع ولا تملك له شيئًا… كم هو قاسٍ على النفس أن ترى ولدك ووالديك وأحبابك قد صاروا خلقًا آخر لا تعرفهم من الهزال!

‎لِمثلِ هذا يذوبُ القلبُ من كمدٍ .:. ‎إن كان في القلبِ إسلامٌ وإيمانُ

‎كيف نشعر بالراحة وأهلنا لا يجدون قوتًا ولا يهتدون سبيلًا؟

‎كيف نهنأ بالعيش، وإخوانُنا فقدوا جميع مقومات الحياة؟

‎كيف ننام ملء أجفاننا، وأهل غزة فارقهم النوم من الجوع والخوف والألم؟

‎كيف نستريح، والحصار يفتك بمن يدافعون عن مقدساتنا وكرامتنا؟!

‎إن كثيرًا من غير المسلمين خرجوا في مظاهرات رافضة لهذا الحصار الوحشي حول العالم، بل الأعجب أن تخرج مظاهرات في الكيان نفسه دون أن تخرج مظاهرات في كثير من الدول العربية!

‎ما هذا الهوان الذي وصلنا إليه؟

‎كيف يموت مليونا إنسان جوعًا وسط ٣٠٠ مليون عربي مسلم؟!

‎إنّ النبي ﷺ أخبرنا عن امرأة استحقّت النار لأنها حبست قطة حتى ماتت جوعًا، فكيف بالإنسان؟!

‎لقد عظّم الله حفظ النفس الإنسانيّة، وجعلت الشريعة حفظ النفس من أهمّ مقاصدها، ومن عظمة تلك النفس أن الخلق جميعًا لو اشتركوا في قتلها لاستحقوا عذاب النار.

‎فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال:

‎“لو أنَّ أهلَ السَّماءِ وأهلَ الأرضِ اشتركوا في دمٍ لأكبَّهم اللهُ في النَّارِ”. ‎صحيح الترغيب، المنذري.

‎ما أعظم الكعبة في نفوسنا! لكن دم المسلم أعظم منها. فإن فزعنا لانتهاك حرمة الكعبة المشرفة، فيجب أن نفزع أكثر لحرمة دم المسلم.

‎عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:

‎“رأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يَطوفُ بالكعبةِ وهوَ يقولُ: ما أطيبَكِ وأطيبَ ريحَكِ، ما أعظمَكِ وأعظمَ حرمتَكِ، والذي نفسُ محمدٍ بيدِهِ، لَحرمةُ المؤمنِ أعظمُ عندَ اللهِ مِنكِ: مالُهُ، ودمُهُ، وأنْ يُظَنَّ بهِ إلا خيرًا”. ‎رواه ابن ماجه.

‎هناك كثير من الواجبات تجاه أهلنا في غزة في ظل الحصار الكارثي، منها:

‎أوّلًا: النجدة والإغاثة

‎بعد حصار الشعب الذي دام ثلاث سنوات على رسول الله ﷺ حتى أكل الصحابة ورقَ الشجر، قام عددٌ من المشركين أصحاب النخوة والمروءة – في مقدمتهم هشام بن عمرو – حتى اجتمع معه أربعة آخرون.

‎فقام زهير بن أبي أميّة، وطاف بالبيت سبعًا، ثم وقف وقال:

‎“يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب، وبنو هاشمٍ هَلْكَى لا يُبتاع منهم ولا يُبتاع لهم! والله لا أقعد حتّى تُشَقّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة”. ‎فكسروا الحصار.

‎أهل غزة لا يجدون ورق الشجر، فقد أحرق الاحتلال الأخضر واليابس، ودمّر غزة وجميع مقومات الحياة.

‎إنّ غزة اختبار إيماني وأخلاقي عظيم، ‎كيف يموت أهلُنا جوعًا، وما زال فينا من يُنفق ماله دون أن يوقن أن لأطفال غزة نصيبًا منه؟

‎كيف يتجول أحدنا في رحلاته ثم ينشر لقطات من الطعام والشراب والأماكن التي يقضي فيها عطلته، دون أن يحسّ بألم الضمير؟

‎هل فقدَ الشعورَ لهذه الدرجة؟

‎من لم يرَ أطفال غزة شركاء في ماله، فليراجع أخلاقه وإيمانه، ‎ومن لم يحزن ويتألّم ويبكِ حُرقةً لغزة، فليراجع إيمانه!

‎غزة سوقُ الجنة والنار

‎لقد جعل الله غزة سوقًا للجنة وسوقًا للنار،

‎سوقًا للجنة: تنافس فيها الشهداء، والجرحى، والصابرون، والثابتون، والصامدون، والمناصرون، والمغيثون، والراكعون الساجدون، والمنفقون.

‎وسوقًا للنار يتساقط فيها القتلة، والمحاصرون، والخائنون، والصامتون، والشامتون، والداعمون للاحتلال الباغي.

‎والخوف كلّ الخوف أن يصيبنا شرَرٌ من الخذلان!

‎إن كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخشى على نفسه من النفاق، فيسأل حذيفة بن اليمان:

‎“هل سمّاني لك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين؟”،

‎فكيف لا نخشى نحن على أنفسنا أن نكون ممن خذل غزة وأهلها؟!

‎روى الإمام أحمد وأبو داود عن جابر بن عبد الله وأبي طلحة رضي الله عنهما، قالا: قال رسول الله ﷺ:

‎“ما من امرئٍ يخذل امرأً مسلمًا في موضعٍ تُنتهك فيه حرمته، ويُنتقص فيه من عرضه، إلّا خذله الله في موطنٍ يحبّ فيه نصرته، وما من امرئٍ ينصر مسلمًا في موضعٍ يُنتقص فيه من عرضه ويُنتهك من حرمته إلا نصره الله في موطن يحبّ نصرته”.

‎في عام الرمادة، كان عمر بن الخطاب يأكل الزيت والخل، تضامنًا مع الجائعين.

‎لا نقول: نجوع لنشعر بغزة، لكن لا يجوز أن تجري حياتُنا بشكلها المعتاد.

‎يجب أن نتألّم ونشعر بمعاناة أهلنا، ونمتنع عن رفاهيةٍ اعتاد البعض عليها حتى يشبع أطفال غزة ويُكسر الحصار.

‎دخلوا على بشر الحافي –أحد أئمة السلف– وهو متخففٌ من ثيابه في يومٍ شديد البرد، فقالوا له: لمَ فعلتَ هذا بنفسك؟

‎قال: “تذكّرتُ الجائع والعاري، ولم أجد ما أواسيهم به إلا هذا”.

‎حين نتضامن بهذا المستوى، سنشعر بأنّنا بشر، ولسنا حجرًا، ‎سنشعر بآدميّتنا، وروحِنا، وقلوبِنا، وسنفوز بالشرف والكرامة. ‎﴿ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ ﴾ المائدة: 52

‎ثانيًا: المبادرات الدائمة لكسر الحصار

‎لا يجوز أبدًا أن نتحرك ثم نسكن!

‎بل يجب أن تدوم حركتنا وتتنوّع وسائلنا التي تضغط على العالم كله لكسر الحصار ورفع الظلم عن أهلنا.

‎ومن تلك الوسائل:

•    المشاركة في الوقفات والمظاهرات أمام السفارات المهمّة، الرافضة لهذا الظلم والتجويع الممنهج.

•    فضح جرائم الاحتلال في وسائل التواصل المتاحة.

•    التواصل مع النخب السياسية والبرلمانيين في أوروبا والغرب عمومًا، لرفع الحصار ووقف الحرب.

•    المشاركة في مبادرات الإضراب عن الطعام، ومساندة قوافل كسر الحصار عن غزة.

‎على أن نكون أصحاب نفسٍ طويل، لا نكلّ ولا نملّ، حتى يُرفع هذا الحصار الظالم، ويشبع الجوعى، ويأمن الخائفون.

‎وإننا على يقينٍ من وعد الله لنا بالتأييد، وعلى ثقةٍ بهلاك الظالمين ولو بعد حين.

ثالثًا: الصلاح والإصلاح

‎وقف مطرّف بن عبد الله وبكر المزني بعرفة، فقال أحدُهما: “اللهم لا تردّ أهل الموقف من أجلي”،

‎وقال الآخر: “ما أشرفه من موقف وأرجاه لأهله، لولا أنّي فيهم”.

‎يا الله! مع ما هما عليه من فضل وسبق وصلاح، لكنّ الخشية سابغةٌ على قلبيهما، حتى أنهما يخافان على الناس من تقصيرهما!

‎وهنا علينا أن نسأل أنفسنا:

•    هل قطيعتنا للأرحام سببٌ من أسباب تأخّر النصر؟

•    هل أكل الحرام، والغش، والتدليس، الذي يقع فيه كثير من الناس، عامل من عوامل الفشل الذي تمنى به الأمّة؟

•    هل التنازع والتفرّق، والبحث عن المصالح الضيّقة، أفضى إلى حالة الوهن والضعف التي نراها؟

•    هل أكل مال اليتيم، وأكل الميراث، الحاصل بين المسلمين في الشرق والغرب، سببٌ في الحرمان من التوفيق الإلهي؟

•    هل ذنوبُنا وتقصيرُنا سببٌ فيما يجري لنا؟!

‎لذلك كلّه، علينا إصلاح ما بيننا وبين الله، وتجديد التوبة، وردّ المظالم، وكثرة التضرع إلى الله تعالى، وقيام الليل، والدعوة إلى الصيام الجماعي، والتواصي به بين أفراد الأسرة.

‎إن دماء الشهداء في غزة لن تذهب سُدى، ولن تضيع هدرًا، فهي تسطّر مستقبل المجد والكرامة للأمة والإنسانيّة، وترسم طريق النور للأحرار، وستكون لعنة على الظالمين.

‎وإنّ تلك الآهات والأوجاع والآلام لتسكن قلب كلّ مؤمن وحرّ في هذا العالم،

‎والله يسمع ويرى، ولسوف يرى الظالمون أيّ منقلب ينقلبون.

‎اللهم كن مع أهلنا في غزة ناصرًا ومعينًا، واهلك الظالمين المحتلين يا رب العالمين.

‎﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ يوسف: 21

  • الكلمات الدلالية
  • غزة

الشيخ طه عامر الشيخ طه عامر

أرشيف الكاتب

المقالات التالية:

هندسة المجاعة: حرب التجويع المعاصرة

feather د. يونس محمد صالح الزلاوي

وجهان لعملة واحدة.. خيانة المبادئ وتقلب الولاءات

feather د. يونس محمد صالح الزلاوي

اقرأ أيضا للإمام

article title

يغشاها الجلال ويكسوها الجمال

article title

ظاهرة الخوف... من يصنعها؟ وكيف نحاصرها؟

article title

كيف نحقق الآمال ونتجاوز العقبات؟

banner title

مقالات مرتبطة

د. يونس محمد صالح الزلاوي

هندسة المجاعة: حرب التجويع المعاصرة

د. يونس محمد صالح الزلاوي

وجهان لعملة واحدة.. خيانة المبادئ وتقلب الولاءات

الشيخ طه عامر

يغشاها الجلال ويكسوها الجمال