path

يغشاها الجلال ويكسوها الجمال

article title

خواطر من أرض السعادة والنور

بسم الله الرحمن الرحيم

تلك خواطر كانت من بركات زيارة بيت الله الحرام وزيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والبقاع الطاهرة. رأيتُ نشرَها عبر عدة حلقات، والقصد أن نجدد ولاءنا وانتماءنا إلى قبلتنا ووجهتنا في الحياة، ومصدر إلهامنا لصلاح دنيانا وآخرتنا.

ولعلنا نظفر بدعوة ممن يقرأها إذا حداه الشوق وحركه الحنين، وجال بقلبه وطاف بروحه ببقاع النور وأرض السعادة ومهوى الأفئدة.

ورجاؤنا من الله تعالى ألا يقطعنا عن بيته الحرام، ولا يمنع عنا فضله، وأن يعفو عنا بكرمه ورحمته.

وما كان من توفيق في حرف كتبناه أو معنى أشرنا إليه، فمن رحمة الله، وما كان غير ذلك فمن نفسي، والخيرَ أردت، والله حسبنا.

[الخاطرة الأولى]

يغشاها الجلال ويكسوها الجمال

نظرةٌ إلى الكعبة تنسيك الهموم وتداوي قلبك... فما سر ذلك؟

ربما يستطيع الإجابة عن سؤالي مَن ذاق وسُعِد بالزيارة وغمر قلبه النور والسرور، وقد قيل: من ذاق عَرَف.

تالله لو وُضِعت الدنيا في كفة ونظرة واحدة للكعبة البهية في كفة، لرجحت تلك النظرة السعيدة.

حينما تُمتع عينيك برؤية البيت العتيق وتبدو الكعبة المشرفة أمامك، وقد بلغ منك الجَهد، وطال انتظارك أياماً أو أشهراً أو أعواماً حتى وصلت إليها وشفيت منها قلبك وروحك، ساعتها ستوقن أن في الدنيا جنة ونعيماً وروحاً وريحاناً.

ما السر في هذه الجاذبية التي تغشى الكعبة الشريفة، وهي بناء من حجر لا من ذهب ولا فضة؟

قلت:

لأن الدنيا وما فيها لا تبلغ من نفس ابن آدم الحد الذي يملأ عينه وقلبه. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كانَ لِابْنِ آدَمَ وادِيانِ مِن مالٍ لَابْتَغَى وادِيًا ثالِثًا، ولا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرابُ، ويَتُوبُ اللَّهُ على مَن تابَ". رواه مسلم.

أما الكعبة المشرفة فتملأ القلب، وتغذي الروح، وتسلب الأحزان.

إن أنوار الحق عليها ظاهرة، تتجلى للناظرين، وكيف لا وقد تعطرت بأنفاس الأنبياء والمرسلين وأتباعهم من الصالحين والعارفين والعابدين، ولا يزال صالحو المسلمين يأتون إليها من فج عميق، ويتردد في رحابها نشيد التوحيد، ونداء التلبية، وجؤار الزوار والعمار بالذكر والدعاء.

ولعل الهيبة والجلال التي تغشاها بعض أثر دعاء ضيوف الرحمن حينما يرفعون أيديهم: "اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابة، وزد من شرَّفه وكرَّمه ممن حجه واعتمره تشريفاً وتعظيماً وتكريماً وبراً".

أما الدنيا وزينتها فقد نُهينا أن نُحدِّق فيها، فلنمُرَّ عليها كراماً.

﴿لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الحجر: 88].

واللاهثون خلف متاعها الفاني، الخاطفون لأنصبتهم منها دون قناعة، ولا غاية لهم منها إلا الجمع والمنع، هؤلاء يتركون عليها مسحة من الحزن والكآبة.

سألت مجموعة من الشباب ونحن في العمرة ممن لم يسبق لهم الزيارة: كيف كان شعورك حينما اقتربت من الكعبة المشرفة؟

قال أحدهم: كلما اقتربتُ منها تصاعدت ضربات قلبي بشكل عجيب، حتى وقفت أمامها فاطمأن وسكن.

وقد رأيت من فاضت دموعهم بمجرد رؤيتها، ومنهم من احتبس عنه الكلام رهبة ومهابة.

سمعت من كثيرين أن هناك مغناطيسًا يجذبهم للكعبة الشريفة، ويجدون قلوبهم تهوي دون إرادة منهم. قلت: ألم يقل الله تعالى:

﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [البقرة: 125].

ومعنى مثابة كما نقل الإمام الطبري: "لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطراً. فكلما رجعوا منه عادوا إليه، ولم تشبع أعينهم من النظر ولا الصلاة ولا الدعاء".

ويا سبحان الله....

عجيبة تلك الكعبة، لو جلست أمامها ساعات وساعات فلا تود أن تطرف عينك عن النظر إليها.

إن تعلق القلوب بالبيت العتيق، وانطلاق الحجاج والعمار من أصقاع الأرض ما هو إلا أثر النداء القديم الذي أطلقه خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام حينما أمره الله أن يؤذن في الناس بالحج، فكانت تلك الوفود المنبعثة صدى لهذا النداء:

﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ [الحج: 27].

إن التعلق هنا تعلق القلب قبل كل شيء؛ لذلك كان دعاء الخليل إبراهيم عليه السلام:

﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم: 37].

فكم من حاج وليس بحاج، وكم من قاعد في بيته على فراشه وهو يطوف حول الكعبة بقلبه وروحه.

فالأمر كما قال القائل:

يا سائرين إلى البيت العتيق

لقد سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحاً

إنا أقمنا على عذر وقد رحلوا

ومن أقام على عذر فقد راحا

ما الذي يجعل امرأة تجاوزت الثمانين من عمرها تطوف بالبيت وهي في هيئة تشبه حالة الركوع في الصلاة، بعد أن دار عليها الزمان دورته فتقوَّس ظهرها..؟!

إنه الشوق يحدو.... والغايةُ الله.

خرجت معنا سيدة طاعنة في العمر، وقال الأطباء لها: قد تكون السفرة الأخيرة، فاختارت أن تكون في رحاب مكة والمدينة، وكتب الله لها إكمال العمرة رغم دخولها المستشفى، ثم عادت بعد ذلك إلى وطنها وقد تحسنت صحتها.

كنت أتعجب حينما كانت تحكي لي والدتي - أكرمها الله وأطال في الخير بقاءها - كيف أن جدي وخالي رحمهما الله قد حجا على الجمل، والطريق مسيرة ثلاثة أشهر ذهاباً ومثلها في العودة.

وكان حجاج المغرب العربي - قديماً - يقضون عاماً كاملاً لأداء فريضة الله جل جلاله.

ما الذي يجعل هؤلاء يجتازون تلك الصعاب ويحتملون تلك المشقات سوى تعظيم أمر الله تعالى، وطلب مرضاته، والطمع في مغفرته ورحمته.

سألت شاباً يجلس بجواري ونحن أمام الكعبة المشرفة:

كم تعدل جلستك هذه وبين يديك الكعبة المشرفة؟

فأجابني وهو ينظر إليَّ بنظرة جادة حادة: ولا الدنيا بأسرها، ذلك لأن الدنيا كلها لا تكتب لك هذه النظرة... بل هو توفيق الله تعالى.

قلت: نعم... إنه توفيق الله وفضله ورحمته أن أذن لنا بزيارة بيته الحرام، ونسأله ألا يقطعنا عنه ما دام فينا عرق ينبض، وعقل يدرك، وقلب يعي.

تلك لذة النظرة إلى الكعبة تنسيك كل هم وتمسح عن قلبك كل حزن، وتقذف في روحك سكينة وفي قلبك طمأنينة، فما بالنا بالنظر إلى وجه الله الكريم في الجنة؟

اللهم كما أذقتنا النظر إلى الكعبة المشرفة، نسألك أن ترزقنا النظر إلى وجهك الكريم في جنتك ودار مقامتك.

....

من مكة المكرمة حرسها الله تعالى

طه سليمان عامر

الشيخ طه عامر الشيخ طه عامر

أرشيف الكاتب

المقالات التالية:

وجهان لعملة واحدة.. خيانة المبادئ وتقلب الولاءات

feather د. يونس محمد صالح الزلاوي

علامة استفهام (؟) تساؤلات الإنسان المسلم في أوروبا بين الهوية والواقع

feather د. يونس محمد صالح الزلاوي

اقرأ أيضا للإمام

article title

ظاهرة الخوف... من يصنعها؟ وكيف نحاصرها؟

article title

كيف نحقق الآمال ونتجاوز العقبات؟

article title

المساجد في الغرب ضرورة ومسؤولية.. فكيف نطورها؟

banner title

مقالات مرتبطة

د. يونس محمد صالح الزلاوي

وجهان لعملة واحدة.. خيانة المبادئ وتقلب الولاءات

د. يونس محمد صالح الزلاوي

علامة استفهام (؟) تساؤلات الإنسان المسلم في أوروبا بين الهوية والواقع

د. علي فتيني

إضاءات حول النوازل الكبرى في حياة الأمة