
خذلانٌ ولا أبا بكر له!

صرخةٌ في وجه التاريخ حين يغيب الصدّيق، وتتكاثر الوجوه الخاذلة في غزّة. لا جديد سوى الدم. في غزّة، تتكثف القرون في لحظة، وتمشي الأمة القهقرى إلى زمنٍ ما قبل الهجرة، ما قبل بدر، ما قبل الفتح. هناك، يُذبح الأطفال على مرأى ومسمع من الكرة الأرضية، وتُقتلع الأرحام من أحضان الأمهات. ثم لا تجد صديقًا يربّت على كتفك، أو قائدًا يخرج من صمته، أو جيشًا يتحرك بغير بيانات الإدانة.
خذلانٌ ولا أبا بكر له! صرخةٌ من قلب الجرح، لا تصف مجرد غياب الدعم، بل انهيار منظومة كاملة كانت تدّعي الأخوّة، وتتغنّى بالعروبة، وتصدّع المنابر بخطاب الممانعة!
أولاً: خذلانٌ دينيّ
أين صوت الفتوى؟ أين مقام النصرة؟ خذلها بعض من يرتقون المنابر، ويبررون الصمت تحت لافتات السياسة الشرعية أو فقه المصالح، وكأن الدين نزل ليُسكت عن المظلوم لا لينصره.
سقطت بعض المنابر، وتراجعت بعض العمائم، حين صار الصمت باسم الحكمة، والتقاعس فقهًا جديدًا. قال رسول الله ﷺ: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته) [متفق عليه].
فأين من منع الظلم ولبّى الحاجة؟! صمتت أصواتٌ كانت تصدع بالحق في قضايا أقل شأنًا، لكنها خافت من حاكم، أو أرضت ممولًا، أو وجدت العار أهون من المسؤولية.
ثانيًا: خذلانٌ سياسيّ
صمت الدول، ونفاق القمم، حين يغيب القرار، وتُخنق الكلمات.
غزّة لم تُخذل بالسلاح فقط، بل خُذلت بالبيانات الرخوة، والقمم الطارئة التي لا تُسعف، والحياد المخزي الذي هو شراكة فعلية في الجريمة.
خذلوها حين اعتبروا القضية عبئًا يجب التخلص منه، لا شرفًا يُحمل على الرماح. وجلسوا على طاولات المفاوضات وكأنّها موائد عشاء، تاركين وراءهم جثث الأطفال وأشلاء الأمل.
لم يُخذل أهل غزّة بالرصاص وحده، بل خُذلوا بمؤتمرات النجدة العاجلة، وبيانات القلق الشديد، ووساطات مشبوهة تزيد الحصار حصارًا.
فهل استُجيب لنداء الاستنصار؟ أم أُغلق باب النصرة بالتقاعس والتأجيل؟
وصدق الشاعر:
سيُسألُ الناسُ عن غزّةَ إن سكنوا
وعن صراخِ اليتامى كيف ما سمعوا
ثالثًا: خذلانٌ اجتماعيّ
حين يتبلّد الضمير، خذلها من اعتبروا القضية مجرد "ترند" رقمي، من مرّوا على صور الشهداء كمن يتصفح فيلمًا سينمائيًا، ثم عادوا إلى قهوتهم ورفقتهم وضحكاتهم.
خذلها اللاهثون خلف الموضة، والتفاهة، والتيك توك، بينما يُذبح إخوتهم في بث حيّ.
صور الموت لا تُوقظ شعورًا، والمجازر تُمرر بين فواصل الإعلانات.
خذلها من استبدلوا الدم بالهشتاغ، وتركوا دموع الأمهات تتبخر في هواء اللامبالاة.
فهل خرّ قلبك باكيًا أم كنت من الصمّ العميان؟!
قال تعالى:
{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا}
[الفرقان: 73]
رابعًا: خذلانٌ اقتصاديّ
سُدّت الأبواب، وأُحكمت الحصارات، حين يُربَط الخبزُ بولاءِ القاتل.
خذلها من يملكون المال ولم يفتحوا أبواب الزكاة ولا النفقات، من تجّار الحروب الذين رفعوا الأسعار على معابر الموت، ومن صُنّاع القرار الاقتصادي الذين ربطوا خبز غزة بإرادة الاحتلال.
غزّة تموت بين الحصار والتجويع، وأموال الأمة نائمة في أرصدة الخارج، أو تُنفق على حفلات الترف وقصور الوجاهة.
قال تعالى:
{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ؟ فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ}
[الماعون: 1-3]
وكم من مسلم اليوم يدّعي الإيمان، ثم يمنع الغذاء والدواء عن إخوة له في الدين؟
قال المتنبي:
ومن نكدِ الدنيا على الحرِّ أن يرى
عدوًّا له ما من صداقته بُدّ!
خامسًا: خذلانٌ عسكريّ
جيوشنا صامتة، ونشيدنا بلا معنى، وجراحنا مستيقظة.
لكن خذلها من يملكون الجيوش والدبابات والطائرات، من يُقيمون المناورات ويشترون السلاح ولا يوجّهونه إلا للشعوب، أو لاستعراض القوة أمام أعداء غير موجودين.
خذلها القادة الذين حفظوا "تحرير فلسطين" شعارًا لا عقيدة، و"القدس لنا" لحنًا لا هدفًا.
أين جيوش العروبة؟ أين رايات الإسلام؟ أين أسود التحرير؟ كلهم صامتون، بل وربما بعضهم يُنسّق، في مناورات مصطنعة لتدريب القاتل ودعمه.
أين الجيوش التي أقسمت أن تحمي الحدود؟ أين من قالوا: "القدس خطٌ أحمر"، ثم صمتوا عند أول قطرة دم من غزة؟
كأنهم لم يسمعوا قوله ﷺ:
{من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتل دون دينه فهو شهيد} [رواه أحمد وأبو داود].
قال نزار قباني:
أطفالُ غزةَ علّمونا أن نموتَ ببسالةٍ
وأن نُقاومَ رغمَ أنفِ المرحلة!
سادسًا: خذلانٌ علميّ وثقافيّ
حين يموت الوعي، تُقتل الكلمة، وتَسكت القصيدة.
هنا خذلها المثقف الذي ارتدى رداء الحياد، والمفكر الذي آثر الصمت، والجامعات التي لم تجعل فلسطين مركزًا لوعيها، ولا بوابة لنقاشها.
خذلها الإعلام الرسمي حين نقل المعركة إلى هامش النشرات، وركّز على نتائج مباريات كرة القدم، بينما كانت البيوت تُهدم على ساكنيها.
خذلها صانعو المحتوى، وكُتّاب الروايات، ومُنتجو الأفلام، حين تركوا غزة خارج المشهد.
خذلها أصحاب القلم حين خافوا أن يُمنعوا من النشر.
خذلها كُتّاب المقال حين انشغلوا بتحليل نتائج الانتخابات والطقس، وغابت غزة عن سطورهم.
{كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ}
[آل عمران: 79]
فأين الربانيون من قضية فلسطين؟!
قال إيليا أبو ماضي:
إذا غصبتك يدُ الطغاةِ فكن لها
مثل الحديدِ، ولا تكن كالزبدِ!
سابعًا: خذلان جماعيّ… خيانة الصمت المطبق
من المعلم إلى التلميذ، ومن المثقف إلى الفلاح، ومن الرئيس إلى المواطن… الكل مسؤول.
{وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}
[الصافات: 24]
مسؤولون عن الصمت، عن الخذلان، عن التبرير.
قال رسول الله ﷺ:
"ما من امرئٍ يَخذُلُ امرأً مسلمًا في موضعٍ تُنتهكُ فيه حُرمتُه ويُنقَصُ فيه من عرضِه، إلا خذله اللهُ في موطنٍ يحبُّ فيه نُصرتَه" [رواه أبو داود].
فمن خذل غزة اليوم، سيُخذل غدًا.
وفي الختام: لا أبا بكر لهم… ولكن أملهم في الله لا يخيب
كان أبو بكر إذا خذل الناس، وقف وحده.
كان أول من صدّق، وأول من دفع، وأول من بادر، وأول من بكى.
اليوم، لا أبا بكر هناك، لكن في غزة ألف صدّيق، وألف عمر، وألف خنساء.
في غزة أملٌ لا يُخذل، ونور لا يُطفأ، وحقٌّ لا يُدفن.
فمهما خذلتم… غزة ستبقى.
فمن لم يكن أبا بكرها، فلا أقل من أن يعتذر!
ولا أكثر من أن يعود إلى الموقف، قبل أن يُحشر على عتبة الخذلان الأبدي.
وأخيرًا: لا أبا بكر لهم… ولكن عندهم الله
في غياب أبي بكر، وغروب عمر، وسكوت عليّ…
يبقى الله معهم.
{إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ}
[التوبة: 40]
وسينصرهم كما نصر نبيّه ﷺ في الغار، ومعه صدّيقٌ واحد.
قالت الخنساء حين استُشهد أبناؤها الأربعة:
"الحمد لله الذي شرّفني بقتلهم في سبيله، وأرجو أن يجمعني بهم في مستقر رحمته."
وفي غزة اليوم… ألف خنساء، وألف صلاح الدين، وألف شهيد.
فيا أمة محمد… اعتذروا قبل أن تُسألوا
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}
[آل عمران: 142]
الوقت لم ينتهِ بعد.
فمن لم يكن أبا بكرهم اليوم، فلا أقل من أن يعود نصيرًا، قبل أن يُبعث غدًا مع الخاذلين!
- الكلمات الدلالية
- غزة
د. يونس محمد صالح الزلاوي