path

تراجيديا العقل في زمن الفوضى والتشابه

article title

نافذة رمزية: الجمل الذي أفزعه الشَّبه

يُروى أن جمال عبد الناصر أمر ذات يوم بجمع الحمير من الشوارع، فجُمع ما جُمع، وفي أثناء ذلك شوهد جمل يعدو مذعورًا، فلما أمسكوه وسألوه عن سبب هروبه، قال:
"أنا جمل ولست حمارًا، ولكن هل تنتظرونهم حتى يفهموا؟".

ليست هذه النكتة الطريفة إلا مرآةً لواقعٍ مُرٍّ نعيشه حين يُصبح العقل عبئًا، والتمييز خطرًا، والتفكير جريمة.
في زمننا الحاضر، صار الشَّبه كافيًا لإدانة، والاختلاف جريمة، والتمايز لعنة، وكأننا نعيش عصرًا جديدًا من طمس البصائر وتداخل الهويّات، تُطارد فيه الإبل لأن لها من ملامح الحُمُر ما يُقلق أهل السلطة والهوى.


ميزان مائل: حين يتساوى العالم والجاهل

من دلائل سقوط المجتمعات أن تختلط الأقدار والمراتب، فلا يُعرَف للعالِم حقُّه، ولا يُنكَر على الجاهل جهله.
قال تعالى:

{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ }
الزمر: 9

بيد أن واقعنا يُكذّب هذا البيان الإلهي، إذ نرى أصحاب الفكر يُقصَون، وأصحاب الصدى يُكرَّمون.
كم من حكيمٍ يُتَّهَم اليوم بالجمود؟ وكم من مصلحٍ يُصنَّف متطرّفًا لأنه قال: "لا"؟

وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ
فهي الشهادة لي بأني كاملُ


خوف التصنيف: العقل في قبضة الرعب

الهروب من التصنيف أصبح فقه النجاة الجديد؛ فالجميع خائف من أن يُشبه من يُطارد، ولو في ملامح عابرة.
الجمل في الحكاية لم يرتكب جرمًا، لكنه يعلم أن السلطة العمياء لا تُفرّق، والمجتمع التابع لا يُسائل.

وفي الحديث:

"إن من أشدِّ الناس عذابًا يوم القيامة المصوّرون"
رواه البخاري

وهم الذين يُحرّفون الصورة ويطمسون الحقيقة؛ فكيف بمن يُصوّر الناس في غير ما هم عليه، ويُلبس البراءة ثوب التهمة؟

وظلمُ ذوي القُربى أشدُّ مضاضةً
على النفس من وقعِ الحُسامِ المهندِ


حكم الهوى: لا ميزان للحق

قال تعالى:

{ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ }
الأنعام: 116

وهكذا حال من يسير خلف الجماعة لمجرد أنهم الأكثر.
في بيئةٍ تحكمها المصالح لا المبادئ، والولاء لا الكفاءة، يصبح العقل عبئًا، والحق شبهةً.

ويصدق فينا قول أمير المؤمنين عليٍّ رضي الله عنه:

"الناس ثلاثة: فعالِمٌ ربّاني، ومتعلمٌ على سبيل نجاة، وهمجٌ رِعاعٌ أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح."


منطق الريبة: الكل مذنب حتى يثبت العكس

تسود اليوم ثقافة الشك المطلق؛ لا يُبرَّأ أحد إلا بعد إذلال، ولا يُصدَّق أحد إلا بعد تشويه، كأن الأصل في البشر التهمة، والاستثناء البراءة.
هذه فوضى منهجية تهدم المجتمعات من جذورها.

وقد نهانا الله عن هذا المنطق فقال:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا }
الحجرات: 6

ولكن أين التبيُّن في زمنٍ تُصدر فيه الأحكام عبر الشبهات؟


بين جِمالٍ تُطارَد وعقولٍ تُنفى

نحن بحاجةٍ إلى نهضة بصيرةٍ لا مجرد نهضة ظاهر، إلى وعيٍ يُفرّق لا جهلٍ يُعمّم، إلى مجتمعاتٍ تُكرّم الفكر لا الشكل، تُحاور المختلف ولا تُقصيه.

لقد آن الأوان أن نراجع مناهجنا، ومقاييسنا، وأولوياتنا، أن نعيد للعقل مكانته، وللعدل سُلطته، وللدين مهابته.

اللهم ارزقنا نور البصيرة، وثبات الفكرة، وعدل الكلمة،
ولا تجعلنا ممن يُطاردون الجمال لأنهم ظنّوهم حميرًا،
ولا ممن يسكتون لأنهم يخشون الشبه.

اللهم اجعلنا من أهل الفهم لا من أهل التبعية،
ومن أهل التمييز لا من أتباع كل ناعق.

د. يونس محمد صالح الزلاوي د. يونس محمد صالح الزلاوي

أرشيف الكاتب

المقالات التالية:

اغرس فسيلتك.. وإن قامت القيامة

feather د. يونس محمد صالح الزلاوي

ماذا قدَّم الإمام القرضاوي – رحمه الله تعالى – لمسلمي الغرب؟

feather الشيخ طه عامر

اقرأ أيضا للإمام

article title

اغرس فسيلتك.. وإن قامت القيامة

article title

من لم يخذلونا زمزية بين شواظ وسهم ومجاهد

article title

متى يُشق صدر الأمة؟

banner title

مقالات مرتبطة

د. يونس محمد صالح الزلاوي

اغرس فسيلتك.. وإن قامت القيامة

الشيخ طه عامر

ماذا قدَّم الإمام القرضاوي – رحمه الله تعالى – لمسلمي الغرب؟

د. يونس محمد صالح الزلاوي

من لم يخذلونا زمزية بين شواظ وسهم ومجاهد