path

التنمّر الدولي | حين تتحوّل الدول إلى متنمّرين!

article title

اعتاد العالم أن يُدين التنمّر حين يقع بين الأفراد، في المدارس وأماكن العمل والفضاءات الرقمية، لكنّ أخطر أشكال التنمّر هو ذاك الذي يُمارَس باسم القانون والسيادة والأمن القومي؛ حيث تتحوّل الدول نفسها إلى متنمّرين على رعاياها، وتتحوّل المؤسسات إلى أدوات إقصاء، ويصبح الإنسان هو الضحية الصامتة.

التنمّر الدولي هو ممارسة منهجية للضغط والإقصاء والعقاب ضد أفراد أو جماعات في الدولة، لا بسبب جرمٍ ثابت أو مخالفةٍ قانونية واضحة، بل لمجرد الهوية: هوية دينية، أو قومية، أو فكرية، أو سياسية، أو حتى لونية وثقافية. هو تنمّر لا يُمارَس باللفظ فقط، بل بالقرارات والإجراءات التي تهدم حياة الإنسان قطعةً قطعةً.

أشكال التنمّر الدولي:

يتخذ هذا النوع من التنمّر صورًا متعددة، تختلف في الشكل لكنها تتشابه في الجوهر:

• الحجر والإقصاء: عزل أشخاص أو جماعات عن المجتمع، ومنعهم من المشاركة العامة، أو محاصرتهم اجتماعيًا بذريعة “الشك” أو “الاشتباه”.
• السجن والتوقيف التعسفي: احتجاز أفراد دون محاكمة عادلة، أو بناءً على قوانين فضفاضة تُفصَّل على مقاس الفئات المستهدفة.
• سحب الجنسية أو التهديد بها: وقد صار هذا الإجراء سلاحًا سياسيًا وأخلاقيًا خطيرًا، يُستخدم لكسر الإنسان في انتمائه القانوني والنفسي.
• المنع من العمل أو النشاط: حرمان الشخص من حقه في مزاولة مهنته أو نشاطه المدني أو الخيري أو الفكري، لا لفسادٍ أو إخلال، بل لانتمائه أو رأيه.
• التضييق الإداري والاقتصادي: إغلاق الحسابات، تعطيل التراخيص، تشويه السمعة، وكلها وسائل “ناعمة” لكنها مدمّرة.

الهوية: الجريمة التي لا تُغفَر

في التنمّر الدولي لا يُعاقَب الإنسان على ما فعل، بل على ما هو عليه: اسمه، مظهره، صلاته، لغته، بلده الأصلي، أو أفكاره المعلنة؛ كلها تصبح أدلة إدانة. وهنا ينتقل القانون من كونه أداة عدل إلى أداة قمع، وتتحوّل العدالة من ميزان إلى عصا. الأخطر من ذلك أن هذا النمط من التنمّر يُغلَّف بخطاب حضاري: الدفاع عن القيم، محاربة التطرّف، حماية المجتمع؛ بينما الواقع يقول إن الانتقائية هي الحاكمة، وإن المعايير تتبدّل بحسب المستهدف، لا بحسب الفعل.

الآثار الإنسانية العميقة

لا تقف نتائج التنمّر الدولي عند حدود الفرد، بل تتجاوزها إلى: تفكيك الأسر وحرمان الأطفال من الاستقرار، تدمير الثقة بين الإنسان والدولة التي يعيش في ظلها وينتمي إليها، نشر الخوف والصمت القسري داخل الأقليات والجاليات، إعادة إنتاج الظلم عبر أجيال تشعر بأنها غير مرحّب بها مهما التزمت بالقانون.
وهنا يتحوّل الشعور بالانتماء إلى عبء، ويصبح الاندماج المطلوب مستحيلًا؛ لأن أساسه – وهو العدل – غائب.

مفارقة القيم

المفارقة المؤلمة أن كثيرًا من الدول التي تمارس هذا التنمّر هي ذاتها التي ترفع راية حقوق الإنسان، وتُصدّر خطاب الحرية والمساواة، لكنها حين يختلف الإنسان عن النموذج المقبول سياسيًا أو ثقافيًا، يُسحب منه حقه في أن يكون إنسانًا كاملًا.

التنمّر الدولي ليس قدرًا، لكنه نتيجة صمت طويل وتطبيع مع الظلم حين يُمارَس ضد الآخر، ومقاومته لا تبدأ بالصدام، بل بكشفه وتسميته باسمه الحقيقي، والدفاع عن مبدأ بسيط: أن الإنسان لا يُحاسَب على هويته، ولا يُعاقَب على انتمائه، ولا يُقصى لأنه مختلف.

فحين تقبل الدول بالتنمّر، تفقد أخلاقها قبل أن تفقد مصداقيتها، ويخسر العالم إنسانيته خطوةً خطوةً بصمت رسمي.

د. يونس محمد صالح الزلاوي د. يونس محمد صالح الزلاوي

أرشيف الكاتب

المقالات التالية:

في مواجهة الإرهاب: مواقف بطولية لمسلمين في الغرب

feather د. علي فتيني

الكلمات الأربع: هندسة الشخصية الإيجابية النافعة

feather الشيخ ياسين بن ثابت اليافعي

اقرأ أيضا للإمام

article title

تراجيديا العقل في زمن الفوضى والتشابه

article title

اغرس فسيلتك.. وإن قامت القيامة

article title

من لم يخذلونا زمزية بين شواظ وسهم ومجاهد

banner title

مقالات مرتبطة

د. علي فتيني

في مواجهة الإرهاب: مواقف بطولية لمسلمين في الغرب

الشيخ ياسين بن ثابت اليافعي

الكلمات الأربع: هندسة الشخصية الإيجابية النافعة

د. يونس محمد صالح الزلاوي

تراجيديا العقل في زمن الفوضى والتشابه