path

الكلمات الأربع: هندسة الشخصية الإيجابية النافعة

article title

في تاريخ الرسالات، لا يوجد تحوُّلٌ أعظم من ذلك الذي أحدثه الوحي الإلهي الأول في شخصية النبي محمد ﷺ، ومن ثم في الأمة بأسرها. لم يكن الوحي مجرد تعاليم دينية، بل كان برنامجًا متكاملًا لهندسة الشخصية، يبدأ بالبناء الداخلي وينتهي بالتأثير الخارجي. يمكن تلخيص هذا البرنامج في أربع كلمات/آيات محورية، تمثل كل واحدةٍ منها ركيزةً أساسيةً في صناعة "الشخصية الإيجابية النافعة" التي أرادها الله لرسوله ولأتباعه. هذه الكلمات هي: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ» (العلق: ١)، و«يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا» (المزمل: ١-٢)، و«يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ» (المدثر: ١-٢)، و«وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (القلم: ٤). وهي من أوائل ما نزل على محمد ﷺ من قرآنٍ يهدي إلى الخير وإلى التي هي أقوم..

وفي هذه الخواطر التدبرية التي نرجو أن ينفع الله بها، نسلط الضوء على الأبعاد التربوية والاجتماعية لهذه الكلمات الأربع، وكيف تشكل خارطة طريق متكاملة لبناء الفرد القادر على تحقيق النفع والإيجابية في محيطه، مقدمًا نموذجًا فريدًا للشخصية المتكاملة التي تجمع بين العلم والروحانية والعمل والأخلاق.


الركيزة الأولى: المعرفة والوعي (اقرأ باسم ربك الذي خلق)

الكلمة الأولى التي انطلقت بها الرسالة هي «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ» [1]. هذه الآية ليست مجرد دعوة للقراءة والكتابة، بل هي إعلان عن المنهج المعرفي الذي يقوم عليه بناء الشخصية.
إن القراءة عبادة فكرية تُنمّي وعي الإنسان، وتوسّع مداركه، وتجعله أكثر وعيًا بربه وبنفسه وبالكون من حوله.
إن بناء الشخصية الإيجابية يبدأ من القراءة؛ فهي مفتاح الفهم، وأساس الوعي، وجسر يربط بين الفكر والإيمان، وبين المعرفة والعمل.

أبعاد هذه الركيزة وأثرها في الشخصية الإيجابية النافعة:
• القراءة كفعل وجودي: «اقْرَأْ» هي مفتاح الوعي والإدراك. تشمل قراءة الكون، وقراءة الذات، وقراءة الوحي. وهذا يبني شخصية واعية لا تعيش في غفلة أو جهل، قادرة على فهم الواقع.
• الربط بالخالق سبحانه: توسيع دائرة المعرفة في كل مجال، ولكن القيد في القراءة أن تكون بـ «بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ»، يوجه المعرفة نحو الهدف الأسمى. وهذا يمنح المعرفة أساسًا روحيًا متينًا، ويحوّل طلب العلم إلى عبادة.
• الإيجابية في التعلم: وضع التعلم في مقدمة الأولويات، وجعل طلب العلم عبادة. وهذا يزوّد الفرد بالأدوات المعرفية اللازمة لفهم المشكلات وتقديم الحلول المبتكرة، والأمم التي تقرأ تسود.

المعرفة هي القوة الدافعة للإيجابية؛ فالفرد الذي يقرأ ويفهم هو القادر على اتخاذ قرارات صائبة، والمساهمة بفاعلية في مجتمعه، وتحويل التحديات إلى فرص. إنها دعوة لتأسيس العقل المستنير الذي يسبق كل عمل.


الركيزة الثانية: البناء الروحي والداخلي (يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا)

بعد تأسيس الركيزة المعرفية، تأتي مرحلة البناء الداخلي والروحي، والتي تتجسد في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا» [2]. هذه المرحلة هي مرحلة التزود بالطاقة الروحية اللازمة لتحمل أعباء الرسالة.
قيام الليل هو مصنع الرجال وصانع العزائم. إنه فترة الخلوة والصفاء التي يتم فيها شحن الروح وتطهير القلب من شوائب الحياة اليومية. وقد أشارت الآيات التي تلت هذه الدعوة إلى ثقل الرسالة: «إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا» (المزمل: ٥). هذا يعني أن الشخصية الإيجابية النافعة تحتاج إلى قوة داخلية هائلة لمواجهة التحديات، وهذه القوة لا تأتي إلا من التزود الروحي العميق بأداء الفرائض والاستزادة من النوافل، وأشرفها قيام الليل وقراءة القرآن وذكر الله كثيرًا...
فالشخصية المتزنة لا تُبنى بالعقل وحده، بل تحتاج إلى روح متصلة بالله، تستمد منه السكينة والبصيرة والصفاء والثبات.
ثم هنا لفتة للتوازن والاعتدال: التعبير بـ «إِلَّا قَلِيلًا» يعلمنا التوازن بين العبادة والحياة؛ فالإيجابية لا تعني الانقطاع، بل تعني الانتظام والاستدامة في العمل الروحي.
إن الشخصية الإيجابية النافعة هي شخصية متوازنة، لا تستهلكها ضغوط العمل الخارجي؛ فالبناء الروحي يمنحها الصبر والثبات والقدرة على تحمل المسؤولية، ويجعلها منبعًا للطاقة الإيجابية لا مستهلكًا لها. هذه الركيزة تؤسس القلب المطمئن الذي لا يضطرب أمام الصعاب.


الركيزة الثالثة: الحركة والتأثير (يا أيها المدثر قم فأنذر)

بعد التزود بالمعرفة (اقرأ) والقوة الروحية (قم الليل)، تأتي مرحلة الانطلاق والعمل، التي يمثلها النداء الحاسم: «يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ» [3]. هذا هو التحول من البناء الذاتي إلى التأثير الاجتماعي.

"المدثر" هو المتغطي بثيابه، في إشارة إلى حالة الراحة أو الانعزال المؤقت. الأمر الإلهي هنا بإنهاء هذه الحالة والانتقال إلى العمل الجاد. الإيجابية ليست شعورًا داخليًا فحسب، بل هي فعل خارجي وتأثير ملموس في المحيط القريب والعالم أجمع.
الدلالات في صناعة الشخصية النافعة:

• الخروج من العزلة / (يا أيها المدثر): ترك حالة السكون والراحة والانتقال إلى الفعل والحركة.
• المسؤولية الاجتماعية/ (قم فأنذر): تحمل مسؤولية التغيير، وعدم الاكتفاء بالصلاح الذاتي.
• المبادرة والفاعلية/ (قم): الحث على المبادرة وعدم التأجيل، وتحويل المعرفة إلى عمل.

الشخصية النافعة هي شخصية فاعلة ومؤثرة. هي التي تحول المعرفة إلى عمل، والقوة الروحية إلى حركة إصلاحية. هي التي تخرج من دائرة الذات لتبدأ في خدمة الآخرين، وتؤسس اليد العاملة التي تبني وتغير. وهذا من معالي معاني قوله تعالى: «وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ» (الرعد: ١٧).


الركيزة الرابعة: القدوة والأخلاق (وإنك لعلى خلق عظيم)

الركائز الثلاث الأولى (المعرفة، الروح، الحركة) لا تكتمل إلا بإطارها الجامع، وهو الأخلاق، الذي لخصه الله تعالى في قوله: «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» [4]. هذه الآية هي شهادة إلهية على أن الخلق هو جوهر الرسالة.
فالخلق هو الثمرة النهائية التي تتوج العقل المفكر، والروح الذاكرة، والنفس الداعية. من دون الأخلاق، يضيع أثر العلم، وتبهت عبادة الروح، وتتعثر الدعوة. لقد كان النبي ﷺ يجسد هذه المعاني جميعًا، حتى شهد له ربه بعلوّ الخلق، فصار نموذجًا خالدًا للشخصية الإنسانية المتكاملة.
وصف النبي ﷺ بأنه "على خلق عظيم" يعني أن الأخلاق ليست صفة عارضة، بل هي المنهاج الذي يسير عليه، وهي السمة الثابتة التي يقوم عليها كيانه. الخلق العظيم هو الضمان لاستدامة الإيجابية وقبول الدعوة. لا يمكن للشخصية النافعة أن تؤثر في الآخرين دون أن تكون قدوة حسنة في تعاملاتها وسلوكها.

الخلق العظيم يشمل كل جوانب الحياة: الصدق، والأمانة، والرحمة، والعدل، والتواضع، والوفاء. وهو الذي يضفي المصداقية على المعرفة، ويجعل القوة الروحية محبوبة ومقبولة، ويضمن أن تكون الحركة والتأثير في الاتجاه الصحيح والبنّاء. هذه الركيزة تؤسس السلوك القويم الذي يمثل الغلاف الخارجي المتين للشخصية النافعة، والشاهد العملي على واقعية المنهج وصدق الداعي وتسنم مقام القدوة والخروج من دائرة المقت.. «كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ» (الصف: ٣).


خلاصة المنهج الرباعي لصناعة الشخصية النافعة:

يمكن النظر إلى هذه الكلمات الأربع كمنهج متكامل يغطي أبعاد الإنسان الأربعة: العقل، والروح، والعمل، والسلوك.

• الكلمة/الآية: اقرأ باسم ربك

  • البعد الإنساني: العقل (المعرفة)

  • المطلب الأساسي: طلب العلم والوعي

  • النتيجة في الشخصية النافعة: الرؤية الواضحة والقدرة على اتخاذ القرار.

• الكلمة/الآية: قم الليل

  • البعد الإنساني: الروح (التزكية)

  • المطلب الأساسي: التزود الروحي والعبادة

  • النتيجة في الشخصية النافعة: القوة الداخلية والقدرة على التحمل والثبات.

• الكلمة/الآية: قم فأنذر

  • البعد الإنساني: العمل (الحركة)

  • المطلب الأساسي: المبادرة والتأثير الاجتماعي.

  • النتيجة في الشخصية النافعة: الفاعلية والإنجاز وتحقيق النفع للآخرين.

• الكلمة/الآية: خلق عظيم

  • البعد الإنساني: السلوك (القدوة)

  • المطلب الأساسي: التحلي بمكارم الأخلاق ومطابقة القول العمل.

  • النتيجة في الشخصية النافعة: المصداقية والقبول وضمان استدامة التأثير.

وعليه:
فإن هذه الكلمات الأربع: "اقرأ"، و"قم الليل"، و"قم فأنذر"، و"خلق عظيم"، تمثل برنامجًا إلهيًا متكاملًا لصناعة الإنسان الفاعل والمؤثر. هي رحلة تبدأ من العقل المستنير، مرورًا بـ القلب المطمئن، وصولًا إلى الحركة الفاعلة والنخبة العاملة، وتتوج بـ السلوك القويم.
وبهذا التدرج البديع من «اقرأ» إلى «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ»، يرسم لنا الوحي طريق صناعة الإنسان الإيجابي النافع: فكرٌ واعٍ بالعلم، وروحٌ زكية بالعبادة، وحركةٌ مخلصة في خدمة المجتمع، وسلوكٌ راقٍ بالأخلاق.
إنها كلمات قليلة، لكنها تختصر فلسفة كاملة لبناء الذات والمجتمع. فمن سار على هديها، صنع من نفسه إنسانًا فاعلًا يحمل نور الوحي إلى العالمين.
ومن أراد أن يكون شخصية إيجابية نافعة، فعليه أن يتبنى هذا المنهج الرباعي: علم متجذر، روح متزودة، حركة فاعلة، وخلق قويم. هذا هو الإرث النبوي الذي يضمن للفرد النجاح في مهمته، وللمجتمع التقدم والازدهار وبقاء البصمات والأثر النافع.

  • الكلمات الدلالية
  • قرآن

الشيخ ياسين بن ثابت اليافعي الشيخ ياسين بن ثابت اليافعي

أرشيف الكاتب

المقالات التالية:

التنمّر الدولي | حين تتحوّل الدول إلى متنمّرين!

feather د. يونس محمد صالح الزلاوي

في مواجهة الإرهاب: مواقف بطولية لمسلمين في الغرب

feather د. علي فتيني

banner title

مقالات مرتبطة

د. يونس محمد صالح الزلاوي

التنمّر الدولي | حين تتحوّل الدول إلى متنمّرين!

د. علي فتيني

في مواجهة الإرهاب: مواقف بطولية لمسلمين في الغرب

د. يونس محمد صالح الزلاوي

تراجيديا العقل في زمن الفوضى والتشابه