شهر رمضان ثورة على أَسْر العادة
ليس سهلاً على المرء أن يُمسي على حالة ثم يستيقظ على ضدها، ذلك لأنَّ النَّفس تألف ما تجد، ويشق عليها أن تُبَدِّل أحوالها، فالعادة تُكتسب بالتكرار ولها على الأنفس سلطان. كانت العقبة الأكبر في طريق دعوة المرسلين عليهم السلام، هيمنة العادات على أخلاق وأفكار أقوامهم، وترفَّقَ الإسلام بالناس في التغيير، فتدرج بهم في تشريع الواجبات والمحرمات، ففُرضت الصلاة في البدء ركعتين ركعتين، ولم تُفرض الزكاة بشكل مفصل، إنما جاءت النصوص تحض على الصدقة بوجه عام. وتأخر تشريع الصيام للسنة الثانية من الهجرة، وكذلك واجبات أخرى.
والتدرج في تحريم الخمر والربا مشهور.
ما أريدُ قولَه هنا أن الصوم هو ثورة على مألوف العادات وعلى القيود التي يَسجن بعض الناس أنفسهم داخلها، وتأهيل الإنسان ليواجه ذاته فيغدو حراً ولا تتحكم فيه عادة لا يستطيع الفكاك منها.
لقد خلقنا الله أحراراً، وأوجد فينا القدرة والإرادة، وأعطانا الفرص الواسعة لنختار طريقة حياتنا بعد أن بيَّنَ لنا سبيلنا، وأرشدنا ودلنا على طريق الهداية، ورغَّبنا في سلوكه والثبات عليه، ووضع على طريق الحق علامات، بها السالكون يهتدون، وحذرنا من ركوب طرق الغواية والضلال وبين لنا عواقبها والمآل، ووضع على شِعابه علامات،
{لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) سورة الأنفال}.
والقصد منه أن يستطيع المرء أن يدير نفسه دون أن تُهدَر قدراته رغما عنه.
إننا نلحظ ذلك في الصوم، فحينما يَحرم المسلم نفسه مما يشتهي من الطعام والشراب والشهوة تقرباً إلى الله تعالى يغدو أمير نفسه، قادراً على ضبطها والتحكم فيها وقيادتها، عصياً على الاستسلام لشهوة أو عادة تأسره وتضعف إرادته وتطفىء همته.
لا تعطها كل ما تريد
يعلمنا الصيام ترك بعض المباحات تقويةً للإرادة وتعزيراً لهيمنة الروح على الجسد وترقية لمطالب النفس.
عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار، فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل، فشفعني فيه، فيشفعان) رواه أحمد.
فإذا كنتَ قادراً على الامتناع على مألوف طعامك وشرابك اختياراً، بل إنك تفرح بذلك، فمن باب أولى أن تقوى على ترك مطالبها والحد من الغرق في المباحات.
حينما رأى عمر بن الخطاب رضىَ الله عنه ولده قد اشترى لحماً فسأله ما هذا؟ قال: لحماً اشتهيتُه، فسأل مستنكراً: أَوَكل شيء اشتهيتَه اشتريتَه؟! في إشارة حاسمة لضرورة ضبط الاستهلاك.
وعن يحيى بن سعيد: أن عمر بن الخطاب أدرك جابر بن عبد الله ومعه حامل لحم فقال: ما هذا فقال: يا أمير المؤمنين فهنا إلى اللحم فاشتريت بدرهم لحما فقال عمر: أما يريد أحدكم أن يطوي بطنه لجاره وابن عمه فأين يذهب عنكم هذه الآية:
"..أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا...(20) سورة الأحقاف
إن أخطر ما يتعرض له الإنسان في أي عصر ومكان أن يكون أسيراً للأشياء من حوله، فينتقل مِقوَد التحكم من يده، وبعد أن كان سيد نفسه يصبح ترساً في ماكينة تحركه كما تشاء، لا كما يشاء.
أليس من العجيب أن يدافع المرء عن حريته واختياره ثم إذا هو يرسف في أغلال المادة باختياره أيضا؟!
إنه جنون الاستهلاك بعد أن أصبح الشراء من أجل الشراء والتملك من أجل التملك.
وتساهم آلات الدعاية ومعها بعض علوم النفس لتزيين الجديد من السلع والمنتجات مع تلازمية شرطية بين السلعة والقوة والمتعة والرفاهية والحرية والجودة والجمال،....إلخ
.
قال لى بعض الأصدقاء: لقد تحولت إلى مستهلك فقط، ولم أعد أصبر على شيء أراه يعجبني إلا اشتريته.
يقول د. عبد الكريم بكار: "ونتيجة للإفلاس الروحي الذي لم يسبق له مثيل أيضا، قام الناس بإحلال الشهوات وأصناف المتع محل السعادة القلبية والإشراق الروحي، فحينما شعر الإنسان باليتم العقدي والانتمائي، تحول إلى مستهلك، وصار رفع مستوى المعيشة هدف الحياة الأكبر، كما صار التقدم الاقتصادي كبير أصنام العصر".
{العيش في الزمان الصعب ص59}
حينما تحوز عدداً كبيراً من السلع والمنتجات للاستهلاك الشخصي فإن ذلك يعطيك شعوراً بالتفوق على الآخرين والتفرد عنهم، مما يفتح لك المجال واسعاً للشهرة، والقدرة على الاستعراض.
إنه فخ الوفرة وفتنة الثروة وداء الترف، وهو بَعدُ مظهرٌ من مظاهر الفراغ النفسي والجفاف الروحي والخفة العقلية، والشعور بالنقص، فيحاول صاحبه أن يستره بتلك المظاهر الخادعة، كأنه يركض ركض الوحوش في الفلاة باحثاً عن السراب، وهيهات أن يلقى غايته.
تتملكني الدهشة مع شعور بالمقت لفنان أو رجل أعمال أو ثري سفيه يختال بأسطول سيارات فارهة، وآخر يركب سيارة مذهبة، وغيره يشتري لوحة فنية بعشرات الملايين وهو لا يميز بين الألوان، ولا يَنظم جملة صحيحة باللغة العربية...ولا بغيرها.
أليس هذا هو السفه بعينه؟
هذا ما يصنعه الفراغ
اتصل بي رجل كريم ذات يوم وطلب مني أن أبحث عن أحد الشباب ليقف في صف طويل لساعات نظير مبلغ 100 يورو، فقلت: وما طبيعة تلك المهمة؟
قال: هناك نسخة جديدة من هاتف سينزل الأسواق قريبًا، لكن سيباع منه بعد يومين عدد محدود.
والعجيب في الأمر أنَّ هناك شباباً ينامون ليلاً أمام منافذ البيع ليظفروا بتلك النسخة. وهذا الرجل يريد شراء هذه النسخة هدية لابنته.
فوقفتُ لحظة وقلت: لماذا يقف مئات من الشباب ساعاتٍ وساعاتٍ في البرد أو الحر للحصول على هذا الهاتف؟
إنهم لا يقفون للحصول على وظيفة يشقون بها طريق حياتهم! ولا يعانون طول الوقوف أمام إحدى السفارات لبعض الدول لتحقيق حلم السفر من أوطان تعمها البطالة ويسودها الجهل والفقر والحرمان!
ولا يقفون في طوابير طويلة للحصول على رغيف خبز يسدون به جوعة أولادهم!
لماذا إذاً؟... لماذا؟
ما هذا الجنوح الذي أصاب نفراً من الخلق؟!
لقد قص علينا القرآن الكريم قصص عاد وثمود وفرعون ذي الأوتاد، هؤلاء الأقوام طاولوا الجبال في العمارة والبناء غير أنهم كانوا أقزاماً في الروح والصلة بالله رب العالمين، فما أغنت عنهم علومهم وتطورهم من الله شيئا.
بقلم الشيخ: طه عامر.
- الكلمات الدلالية
- رمضان
الشيخ طه عامر