
عاشوراء.. والأولوية لمن؟

في خضمّ الأحداث المتلاحقة التي تعصف بعالمنا الإسلامي، تبقى بعض الأيام تحمل في طياتها رمزية خاصة، تعيد ضبط البوصلة وتُذَكِّر القلوب بموازين الحقّ والثبات، ومن تلك الأيام: عاشوراء. فماذا تعني عاشوراء؟ ولمن تكون الأولوية في هذا اليوم؟ وكيف نفهمها في ظل صراع المفاهيم والانتماءات؟
عاشوراء في الميزان النبوي
عاشوراء ليست مجرد مناسبة دينية للتوسّع في الطعام أو طقسًا شعائريًا عابرًا، بل هي ذكرى نجاة، ودرس في الانتصار الإيماني، وعلامة فارقة في تاريخ الصراع بين التوحيد والطغيان. يَروي عبْدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هاجَرَ إلى المَدِينةِ مِن مكَّةَ، وفي العامِ التَّالي وَجَدَ يَهُودَ المدينةِ يَصُومُون يَومَ عاشُورَاءَ، وهو يومُ العاشرِ مِن شَهرِ اللهِ المُحرَّمِ، فسَأَلَهم عن سَببِ ذلك، فذَكَروا أنَّ هذا يَومٌ صالِحٌ وَقَعَ فيه خَيرٌ وصَلاحٌ، حيثُ نَجَّى اللهُ فيه بَنِي إسْرائِيلَ مِن عَدُوِّهِم فِرْعونَ بإغراقِه وجُنودِه في البحْرِ، فَصامَه نَبيُّ اللهِ مُوسَى عليه السَّلامُ، فلَمَّا عَلِمَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذلك، أخبَرَ أنَّه أحَقُّ بمُوسَى مِنهم، حيثُ إنَّهما أخَوانِ في النُّبوَّةِ، ولأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أطوَعُ وأتْبَعُ للحقِّ منهم، فهو أحَقُّ أنْ يَشكُرَ اللهَ تعالَى على نَجاةِ مُوسى عليه السَّلامُ، ولذلك صامَهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأَمَرَ المسلِمينَ بصِيَامِه؛ لأنَّنا -نَحنُ المسلِمينَ- أوْلَى بِحبِّ مُوسى عليه السَّلامُ ومُوافقَتِه مِنَ اليهودِ، حيثُ إنَّهم بَدَّلوا شَريعتَه وحَرَّفوها، ونحنُ أتْباعُ الإسلامِ الَّذي هو دِينُ كلِّ الأنبياءِ، وقدْ روَى ابنُ عبَّاسٍ أيضًا أنَّ السُّنَّةَ أنْ يَصومَ المُسلِمُ اليومَ التَّاسعَ معه؛ مُخالفةً لليهودِ، كما في صَحيحِ مُسلِمٍ، فصامه وأمر بصيامه. في هذا الحديث القصير تتجلّى أولوية الهوية الإيمانية على الهويات القومية أو العرقية. ليست القرابة النسبية، ولا الانتماء الجغرافي، وإنما صلة الإيمان والاتباع هي ما يعطي الإنسان الأولوية في التمثل والاقتداء.
الولاء لله والرسل لا للأسماء والرموز
حين يُعلن النبي ﷺ أن أتباعه أولى بموسى من بني إسرائيل أنفسهم، فهو يُرسّخ منهجًا قرآنيًا متماسكًا، ينطلق من أن الرسل جميعهم جاءوا بدين واحد هو الإسلام: "إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ" [آل عمران: 19] "مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا" [آل عمران: 67] فمن تمسّك بالإيمان الذي جاء به محمد ﷺ، فهو على طريق موسى وعيسى وإبراهيم وسائر الأنبياء، ومن تنكّب ذلك الطريق، فقد انقطع عن تلك السلسلة المباركة وإن زعم الانتساب إليهم.
الانتصار الحقيقي ثبات موسى لا غرق فرعون
عاشوراء ليست فرحة بغرق طاغية، بل فرح بنجاة مؤمن وثباته على الحق، وفرح بانتصار المظلوم على الظالم، وانتصار العقيدة على السلاح. إنها رسالة لكل مستضعف، أن طريق التوحيد مليء بالمحن، لكنه ينتهي إلى النجاة والتمكين، وهنا نقول أيضا مهما طال الظلام فلابد من ظهور الفجر ، ولكن نحتاج إلى الصبر وانتظار الفرج والأمل .قال تعال: ﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ الحج: 40.
عاشوراء ليست للتنازع الطائفي
في الزمن المعاصر، تحوّل عاشوراء عند البعض إلى مناسبة للبكاء على مآسي الأمة، أو استحضار صراعات التاريخ بشكل يعيد تمزيق الأمة بدل أن يوحدها، لكن عاشوراء في الأصل دعوة للتوحيد، والتعاضد، والاقتداء بالأنبياء، والتضامن مع كل مظلوم، يوم شكر للرب على نصره ودعم وتأييده للمظلومين والضعفاء والمساكين ، ولكن لا يكون ذلك إلا بإظهار الصبر والولاء لله وحده ، والعلم بأن نصر الله قريب مهما طالت الخطوب ، وتباعدت الدروب .
الأولوية لمن؟
أستطيع هنا أن أجيب وأقول بكل وضوح.. الأولوية:
- لمن تمسّك بالعقيدة لا بالشعارات، وهذا ظاهر وبين ونلمسه اليوم في الواقع لما نراه من ثبات غير مسبوق وتمسك منقطع النظير بالإيمان والإسلام لأهلنا في فلسطين وغزة العزة حماهم الله ونصرهم .
- لمن صام شكرًا لله لا تقليدًا لأعراف مجتمعه فقط، واعترافا لقدرته وتمكنه من تغيير وتبديل الأحول من حال إلى حال ، فهو الخالق ، والرازق ، والمعز ، والمذل والقوي والقهار والخافض والرافع وهو على كل شيء قدير .
- لمن جعل عاشوراء محطة إيمانية يتزوّد فيها من سيرة الأنبياء، ويقتفي أثرهم ويصبر صبرهم ، فهم خير مثال ، وأكبر داعم للإنسان المؤمن كما قال تعالى لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم في قوله : ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ كُلًّا هَدَيْنَا ۚ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ ۖ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا ۚ وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ ۖ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (87) ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ۚ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ۗ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ (90) ﴾.
- لمن انحاز لموسى في ثباته، لا لفرعون في سطوته، نعم لابد للمؤمن أن يكون له رأي وقول في دفع الظلم وردعه والوقوف ضده ، وإلى نصرة الحق والدفاع عنه وتأيده بكل ما يملك من نفس ومال وغير ذلك قال تعالى : ﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) ﴾ سورة النساء .
- لمن كان فعله عبادة لا عادة، وقصده وجه الله لا رضا الناس، هذا المبدأ العظيم هو قلب الأمور إلى المعايير الصحيحة والثابتة والخالدة والحديث في ذلك صحيح وصريح عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عنه يقول : إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ وإنَّما لِكلِّ امرئٍ ما نوى فمن كانت هجرتُهُ إلى اللَّهِ ورسولِهِ فَهجرتُهُ إلى اللَّهِ ورسولِهِ ومن كانت هجرتُهُ إلى دنيا يصيبُها أو امرأةٍ ينْكحُها فَهجرتُهُ إلى ما هاجرَ إليْهِ " رواه البخاري . هذا الحديثُ العَظيمُ قاعدةٌ مِن قواعدِ الإسلامِ، وأصلٌ مِن أُصولِ الشَّريعةِ، حتَّى قِيلَ فيه: إنَّه ثُلثُ العِلمِ، حيثُ قال فيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «الأعمالُ بِالنِّيَّةِ»، فلا تصِحُّ جَميعُ العِباداتِ الشَّرعيَّةِ إلَّا بوُجودِ النِّيَّةِ فيها، «ولِكلِّ امرِئٍ ما نَوى»، فإنَّما يَعودُ على المسلمِ مِن عَملِه ما قصَدَه منه، وهذا الحُكمُ عامٌّ في جَميعِ الأعمالِ مِنَ العباداتِ والمعاملاتِ والأعمالِ العاديَّةِ، فمَنْ قصَدَ بعَملِه مَنفعةً دُنيويَّةً لم يَنلْ إلَّا تلكَ المَنفعةَ ولو كان عِبادةً، فَلا ثَوابَ له عليها، ومَن قصَدَ بعَملِه التَّقرُّبَ إلى اللهِ تعالَى وابتغاءَ مَرضاتِه، نالَ مِن عَملِه المَثوبةَ والأجرَ ولو كان عمَلًا عاديًّا، كالأكلِ والشُّربِ، ثُمَّ ضرَبَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الأمثلةَ العمليَّةَ لِبيانِ تَأثيرِ النِّيَّاتِ في الأعمالِ فبيَّنَ أنَّ مَن قصَدَ بِهجرتِه امتثالَ أمْرِ ربِّهِ، وابتغاءَ مَرضاتِه، والفرارَ بِدِينِه مِنَ الفتنِ؛ فهِجرتُه هِجرةٌ شرعيَّةٌ مَقبولةٌ عندَ اللهِ تعالَى ويُثابُ عليها لصِدقِ نيِّتِه، وأنَّ مَن قصَدَ بِهِجرتِه مَنفعةً دُنيويَّةً وغرَضًا شخصيًّا، مِن مالٍ، أو تجارةٍ، أو زَوجةٍ حَسناءَ؛ «فهِجرتُه إلى ما هاجَرَ إليه»، فلا يَنالُ مِن هِجرتِه إلَّا تلك المنفعةَ الَّتي نَواها، ولا نَصيبَ له مِنَ الأجرِ والثَّوابِ.
عاشوراء ليست فقط يوماً نصومه، بل موقفًا نُحييه، وراية نرفعها في وجه الطغيان، وتأكيدًا لهويتنا الإيمانية الخالدة.
فليكن صيامنا فيها تجديدًا لعهدنا مع الله، وتأكيدًا لانتمائنا إلى موكب الأنبياء والصالحين.
وبالتوفيق والسداد ، وإلى لقاء في مقال آخر .
- الكلمات الدلالية
- عاشوراء
د. يونس محمد صالح الزلاوي