path

وجهان لعملة واحدة.. خيانة المبادئ وتقلب الولاءات

article title

في عالمٍ يعجُّ بالتناقضات، لا يصعب أن ترى أولئك الذين يغيرون جلودهم كما يغيرون ملابسهم، يتقمصون الشخصيات، ويعيدون ترتيب أقوالهم بحسب اتجاه الرياح. أشخاصٌ يتصرفون كما لو أن المبادئ أشياءٌ مائعة يمكن تشكيلها حسب الطلب، وأن الولاء قيمة قابلة للبيع في سوق المصالح. تراهم في كل مجلسٍ بوجه، وفي كل مرحلةٍ بلون، وكأنهم وجهان لعملة واحدة لا تعرف الثبات.

كذبٌ بلا تصريح، وخيانةٌ بلا مبرر، فإذا طيّرتَ هذه العملة في السماء ووقعتْ على الأرض، لوَّنوا لك الوجه الذي ظهر منها! يتقنون الكذب دون أن يعترفوا به، ويمارسون الخيانة دون أن يبرروها، ويحتمون خلف شعارات "المصلحة العليا"، ويتحدثون بلسان "الحكمة الزائفة". يبررون التلون بأنه "مرونة"، ويدّعون أن الخداع "ضرورة سياسية"، بينما هم في الحقيقة يفرّون من كلفة الصدق، ويلجؤون إلى دهاءٍ رخيص.

هل التلون اضطراب أم خيار؟ يُعدّ التلون المفرط علامةً على أحد اضطرابات الشخصية، حيث يرى الفرد نفسه مركزًا لكل شيء، ويبرر كل تقلب بأنه "تكتيك ذكي"، وهو في حقيقته تمحورٌ حول الذات، وانعدامٌ للثبات القيمي، وغيابٌ للهوية الذاتية، إذ يفتقر الشخص إلى إحساسٍ متماسكٍ بمن يكون، فيتشكل وفق البيئة المحيطة، دون مرجعيةٍ أخلاقية داخلية.

لكنّ كثيرًا من هؤلاء ليسوا مرضى، بل هم أصحاب انحرافٍ أخلاقيٍّ اختياري، اتخذوا من التلون وسيلةً لتحقيق مصالحهم على حساب المبادئ، وفضّلوا السلامة الفردية على المواقف القويمة. يعيشون في حالة من "النفاق العملي"، حيث يعتقدون أن الذكاء يعني خداع الآخرين، وأن البقاء للأدهى لا للأتقى.

هل يدمر التلون النسيج الاجتماعي؟ حين يكثر المتلونون، يصبح من الصعب الوثوق بأي شخصٍ أو كلمة، مما يؤدي إلى انتشار الشك وانهيار العلاقات الاجتماعية. فالمتلون لا يمكن أن يكون عنصر استقرار في مؤسسة أو جماعة، بل هو مصدر تمزيقٍ داخلي دائم، لأنه يتبنى المواقف بحسب مصلحته الشخصية، لا المصلحة الجماعية.

بتكرار الأكاذيب وتزييف المواقف، يساهم المتلون في تغيير المفاهيم لدى الناس، فيختلط الصدق بالكذب، والمبادئ بالمصالح، وتضيع المعايير، ويتسمم الوعي العام. قال صلى الله عليه وسلم:"سيأتي على الناس سنواتٌ خدّاعات، يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن، ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة". قيل: وما الرويبضة؟ قال: "الرجل التافه يتكلم في أمر العامة" رواه ابن ماجه وأحمد.حين يرى الناس أن الوصول لا يتحقق إلا بالخداع، يضعف احترامهم لأصحاب المبادئ، وتصبح القدوة الأخلاقية سلعةً نادرة وعزيزة، في مجتمعٍ انحدرتْ فيه القِيَم والقدوات.

المتلونون ينجحون أحيانًا في تزوير الحقائق وتضليل المحيط، مما يؤدي إلى ضياع الحقوق، وانتشار الظلم المغلف باللباقة.

دعوة إلى الثبات وسط التلون مع اختلاف العملات، فإن أخطر ما تواجهه المجتمعات اليوم ليس فقط الفساد الظاهر، بل الازدواجية المُقنَّعة، والنفاق المتقن، والولاءات المتقلبة التي تخفي خيانةً صامتة خلف الكمامات.

هؤلاء المتلونون هم قنابل صامتة في جسد الأمة، ومهما أجادوا التمويه، فإن التاريخ لا يرحم، والحق لا يموت.

فليكن شعارك: إن لم تكن وجهًا واحدًا للعملة، فلا تكن وجهًا أبدًا، فالثبات على المبدأ ليس جمودًا، بل هو عمق، والصدق في زمن التلون بطولة، لا ضعف. 

...

بقلم: د. يونس الزلاوي

  • الكلمات الدلالية
  • وعي

د. يونس محمد صالح الزلاوي د. يونس محمد صالح الزلاوي

أرشيف الكاتب

المقالات التالية:

يغشاها الجلال ويكسوها الجمال

feather الشيخ طه عامر

علامة استفهام (؟) تساؤلات الإنسان المسلم في أوروبا بين الهوية والواقع

feather د. يونس محمد صالح الزلاوي

اقرأ أيضا للإمام

article title

علامة استفهام (؟) تساؤلات الإنسان المسلم في أوروبا بين الهوية والواقع

article title

عاشوراء.. والأولوية لمن؟

article title

الهجرة بين أبواب المستقبل وغرف الماضي

banner title

مقالات مرتبطة

الشيخ طه عامر

يغشاها الجلال ويكسوها الجمال

د. يونس محمد صالح الزلاوي

علامة استفهام (؟) تساؤلات الإنسان المسلم في أوروبا بين الهوية والواقع

د. علي فتيني

إضاءات حول النوازل الكبرى في حياة الأمة