
هندسة المجاعة: حرب التجويع المعاصرة

لم تعد المجاعة كارثة طبيعية أو نتيجة عرضية لحروب، بل تحوّلت في العصر الحديث إلى أداة هندسية محكمة تُوظف بوعي وسبق إصرار، لضرب المجتمعات في أعماقها. وفي غزة اليوم، تتجلّى ملامح هندسة المجاعة بأبشع صورها، حيث يختلط الجوع بالحسابات الجيوسياسية، وتُطوّع السياسات الاقتصادية والقرارات الدولية لخدمة آلة التجويع لا لوقفها.
قال الله تعالى: { وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ } إبراهيم:42 وقال صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أحرّج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة. رواه أحمد وابن ماجه من حديث أبي هريرة وحسنه الألباني.
أولاً: ما المقصود بهندسة المجاعة ؟
الهندسة هنا تعني: التركيب المنظَّم والمدروس لمجموعة من السياسات والإجراءات، بهدف استخدام الجوع كأداة حرب وضغط وابتزاز وإخضاع، وليست المجاعة، في هذا السياق، نتيجة طبيعية للحرب، بل هي أداة استراتيجية تُستخدم عمدًا، بعد دراسة البيئة السكانية، وطرق الإمداد، والتأثيرات النفسية والاجتماعية للجوع. فالمجاعة هنا قرارٌ عسكري–سياسي–اقتصادي، لا كارثة إنسانية فُجائية.
الأركان الخمسة لهندسة المجاعة
أولا : ركن التصميم السياسي: يتضمن إغلاق المعابر، تقنين أو منع المساعدات، منع دخول الوقود، تجميد الدعم الخارجي، والتدخل في سياسات المنظمات الإنسانية، إدارة الدول المجاورة من وراء الستار، إنها خرائط للعزل الغذائي، تُرسم على طاولات القرار.
البعد السياسي يتمثل في الجوع كسلاح استراتيجي: تمارس إسرائيل منذ أكتوبر 2023 سياسة حصار مطبق على قطاع غزة، متجاوزة كل القوانين الدولية التي تمنع استهداف المدنيين وتجويعهم كوسيلة حرب. المعابر مغلقة، والإغاثة مقيّدة، والضغط متعمد.
أرقام صادمة أكثر من 38,000 شهيد، غالبيتهم من الأطفال والنساء، وأكثر 69% من سكان غزة يواجهون نقصًا حادًا في الغذاء، وأكثر 30% من أطفال غزة تحت سن الخامسة يعانون من سوء تغذية حاد، قال رسول الله ﷺ: إن امرأة دخلت النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض" متفق عليه، فكيف بمن يمنع الطعام عن مليون طفل؟
قتل امرئٍ في غابةٍ جريمةٌ لا تُغتفرْ وقتل شعبٍ آمنٍ مسألةٌ فيها نظرْ
ثانيا: ركن الهندسة اللوجستية: تشمل تدمير الطرق، قصف المخابز، منع الوقود، واستهداف المزارع، إنها محاولة لعزل الجائع عن أدوات الإنقاذ.
البعد الاجتماعي يتمثل في تمزيق النسيج الداخلي، الجوع ليس فقط فقدان الطعام، بل تفكك الأسرة، وتآكل الكرامة، وانهيار المعنويات، ازدياد العنف الأسري، تصاعد حالات الانتحار، تفشي الإدمان والتسول. قال الله تعالى: { فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) } البلد:14، وقال ﷺ: من لا يرحم لا يُرحم . رواه البخاري.
إن الجياع إذا صرخوا بأوجاعِ سقطت قصورُ الظلمِ بالأضلاعِ
ثالثا: ركن البرمجة النفسية: الجوع يُستخدم لزرع الانكسار والذل، وتوليد صراعات داخلية، فالجائع ينسى حقه، ويطلب فقط النجاة، هذه سياسة القهر الباردة.
البعد النفسي يتمثل في تدمير الثقة وزعزعة اليقين، فعندما ينظر الإنسان العادي في غزة إلى عظم هذا الهوان الذي حصل بهذه الأمة ذات المليار وهي لا تستطيع أن تحرك ساكنا لنجدته ولا لنجدت أبناءه وأسرته، يشعر فعلا بعز الثقة وجلد الفاجر هذه العبارة التي استعاذ منها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه، ولهذا كان يستعيذ الحبيب ﷺ اللهم إني أعوذ بك من الهمِّ والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدَّين، وغلبة الرِّجال، هذا الحديث أخرجه البخاري وقد قال القائل عندا لم يجد عونا من قومه الذين هم أهل عدد ولكنهم غثاء .
لكنَّ قومِي وإِنْ كانوا ذَوِي حسب ليسوا مِن الشَّرِّ في شيءٍ وإِنْ هَانَا
يَجْزُونَ مِن ظُلْمِ أَهْلِ الظَّلْمِ مَغْفِرَةً ومِن إِساءَةِ أَهْلِ السَّــــوءِ إِحْسَــــانَا
كــــأَنَّ رَبّــَك لم يَخْــلُقْ لِخَــشْيــَتِهِ ســـواهمُ مِن جمـــيعِ الناسِ إِنســانَا
فليــت لي بهــم قومًـــا إذا رَكِبُــوا شَـــدُّوا الإِغَــــارَةَ فُرْسَــــانًا ورُكْبَانَا
رابعا: ركن الهندسة الاقتصادية: تشمل تحطيم الزراعة، شلّ الأسواق، رفع الأسعار، تجفيف الموارد، وتعطيل سلاسل الإمداد، إنه تفكيك مقصود للاقتصاد المقاوم.
البعد الاقتصادي يتمثل في تدمير ممنهج للبنية الإنتاجية: أُبيدت أكثر من 70% من مزارع غزة، وقُصفت موانئ الصيد، وشُلّت الصناعات الغذائية، وتضاعفت أسعار السلع، الوقائع: 200 مخبز متوقف، و500% ارتفاع في أسعار المواد الأساسية، والاعتماد الكامل على مساعدات شحيحة.
قال النبي ﷺ: إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها. رواه أحمد. أين هذا التوجيه النبوي ممن يُبيد الزرع والضرع؟
نقلوا عن الإمام الشوكاني عليه رحمة الله:
إِذا خَــانَ الأميـرُ وكاتبـاهُ وقاضِ الأَرْضِ داهَنَ في القَضاءِ
فَوَيْــلٌ ثُــمَّ وَيْـلٌ ثُـمَّ وَيْـلُ لِقاضِ الأَرْضِ منْ قَاضِي السَّماءِ
خامسا: ركن الإعلام والدين: يُطبع الجوع في الإعلام، ويُغلف بالصمت في الخطاب الديني، فيُصبح الجائع منسيًا، أو متّهمًا، أو مادةً للصورة فقط. قال الله تعالى: {...وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ۚ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} المائدة:64
البعد الديني يتمثل في صمت في زمن الحصار: في وقت يُفترض فيه أن تتضافر الأمة كالجسد الواحد، نجد صمتًا رسميًا، وخذلانًا مؤسسيًا، وتقصيرًا روحيًا.قال النبي ﷺ: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قيل: كيف أنصره ظالماً؟ قال: تأخذ فوق يديه. رواه البخاري. وقال تعالى: {وَإِنِ ٱسْتَنصَرُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيْكُمُ ٱلنَّصْرُ} (الأنفال:72)
المجاعة جريمة دولية، وتجويع السكان يُعد جريمة حرب وفق اتفاقيات جنيف، لكنه لم يُقابل حتى الآن بأي إجراء دولي حقيقي.، لم يُفتح تحقيق جاد، فُعل الفيتو الأمريكي خمس مرات، غاب الرد الأوروبي والإسلامي الجاد.
المجاعة لا تصنع السلام، الهندسة المعاصرة للمجاعة ليست كارثة، بل جريمة مدروسة. الجوع يُستخدم كسكينٍ في بطن أمة، وكسقف يُخنق تحته الإنسان حتى ينهار.
علينا التحرك كعلماء وأئمة ودعاة لبيان حرمة الصمت وخطورة التخاذل، وقيام حملة إعلامية توعوية عالمية بعنوان: (أوقفوا هندسة الجوع، عن أهلنا في غزة).
نسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد.
- الكلمات الدلالية
- غزة
د. يونس محمد صالح الزلاوي