
علامة استفهام (؟) تساؤلات الإنسان المسلم في أوروبا بين الهوية والواقع

في قلب الحياة الأوروبية النابضة، حيث تتقاطع الحضارات وتُصاغ السياسات وتتشكل المفاهيم، يقف المسلمُ اليوم بين علامتي استفهام: واحدة تُطرَح عليه من الخارج، والثانية ينبثق عنها من داخله. الأولى تتساءل: من أنتم؟ وما موقعكم في هذا المجتمع؟ والثانية أكثر حدةً وألماً: من نحن؟ وكيف نعيش إسلامنا دون اغتراب؟
إنها ليست مجرد علامات استفهام لغوية، بل هي إشكالات وجودية وسياسية واجتماعية واقتصادية ودينية تمسّ عمق هوية المسلم في الغرب، وتدفعه إلى مراجعة مستمرة لموقعه ولرسالته.
فيما يلي أبرز هذه الإشكالات:
أولاً: علامة استفهام سياسية – هل نحن مواطنون أم مُراقبون؟
رغم أن ملايين المسلمين يحملون جنسيات أوروبية، فإن الشعور الكامل بالمواطنة كثيرًا ما يُخدَش بفعل السياسات الأمنية والإعلامية التي تنظر إليهم بريبة. كلما وقعت حادثة متطرفة، ارتفعت الأصوات المتطرفة تتساءل: "أين أنتم من هذا؟"، وكأن المسلم الأوروبي متهمٌ حتى يثبت العكس.
يبقى التساؤل قائمًا: هل الدولة تحتضننا كمواطنين شركاء، أم تُبقي علينا صفة "الآخر" المشكوك فيه؟ وهل التعددية التي تتغنى بها دساتير أوروبا تطبق فعلاً حين يتعلق الأمر بالمسلمين؟
ثانيًا: علامة استفهام اجتماعية – هل نحن جزء من النسيج الاجتماعي؟
الاندماج الاجتماعي يُطرح دائمًا كشرط، لكنه غالبًا ما يُفهم كذوبان. المسلم المحافظ في سلوكه، في لباسه، في نمط أسرته، يشعر أحيانًا أنه غير مرحّب به إلا إذا تخلى عن ملامحه الإسلامية.
نُسائل أنفسنا: هل يُطلب منا أن نندمج أم أن نتماهى؟ وهل يمكن أن نحيا بقيمنا الإسلامية مع احترامنا للقانون دون أن نشعر بأننا غرباء في وطننا الأوروبي؟
ثالثًا: علامة استفهام اقتصادية – هل نُمنح فرصًا متكافئة؟
أظهرت دراسات عديدة أن التمييز في سوق العمل ضد المسلمين – خاصة المحجبات والشباب ذوي الأسماء العربية أو الإسلامية – لا يزال قائمًا، وأن الفقر والتهميش يتركزان أكثر في الأحياء التي يقطنها الموطن مسلم.
يبقى السؤال الصعب: هل المشكلة في المسلمين أنفسهم، أم في النظام الذي يعيق صعودهم؟ وهل هناك إرادة حقيقية لكسر الحواجز الاقتصادية، أم أن الفجوة تتسع يومًا بعد يوم؟
رابعًا: علامة استفهام دينية – كيف نُمارس إسلامنا بحرية؟
رغم أن حرية الدين مكفولة دستوريًا، فإن التدخلات في الممارسات الدينية – من الحجاب، إلى الأذان، إلى بناء المساجد – تثير قلقًا حقيقيًا. في بعض الدول، يتحول الإسلام من دين إلى ملف أمني، وتُفرض عليه قيود لا تُفرض على سواه.
هنا يبقى السؤال الأصعب: هل يُراد من المسلم أن يُمارس إسلامًا خاصًا "معلبًا"، خاليًا من روحه وعمقه؟ أم أن حرية الاعتقاد ما تزال مبدأً حيًّا في الضمير الأوروبي؟
خامسًا: علامة استفهام تربوية وثقافية – كيف نربي أبناءنا؟
بين المدارس التي تُعلمهم رؤية علمانية خالصة للحياة، والإعلام الذي يُطبعهم بقيم لا تنسجم دومًا مع الإسلام، يجد الأبوان المسلمان أنفسهما في حيرة: كيف يُنشئون أبناءهم على الاعتزاز بدينهم دون أن يعزلوهم عن محيطهم؟ وكيف يُصنع التوازن بين الانفتاح والتأصيل؟
سادسًا: علامة استفهام داخلية – من نحن في العمق؟
أحيانًا لا تأتي علامات الاستفهام من الخارج، بل من داخل النفس المسلمة نفسها. هل إيماننا قوي كفاية لنواجه التحديات؟ هل وعينا الإسلامي متجذر أم موسمي؟ هل نملك مؤسسات فاعلة، رؤية جماعية، خطابًا راشدًا؟ أم أننا نعيش في ردّ فعل دائم، ونفتقر للمبادرة والتجديد؟
هذه الأسئلة لا تحتاج فقط إلى أجوبة، بل إلى رؤية عميقة، وصبر، وعمل متواصل.
إن "علامة (؟) الاستفهام" التي نضعها على واقعنا كمسلمين في أوروبا ليست دليل ضعف، بل مؤشر على حياة فكرية ونفسية واعية، فالمجتمع الذي يتوقف عن التساؤل يتوقف عن النمو.
نحن لسنا فقط أناسًا يسألون، بل أيضًا أناسٌ يصنعون الجواب. والجواب لن يكون في الصدام، ولا في الذوبان، بل في الثبات على القيم، والانفتاح على الخير، والعمل المشترك لبناء مجتمع يَسع الجميع بعدلٍ وإنصاف.
ما زالت علامات الاستفهام قائمة، لكنها قد تتحول يومًا إلى علامات تعجّب، إذا أحسَنّا الفهم وأخلصنا العمل.
ونأمل من علمائنا ومشايخنا ودعاتنا ومرشدينا ومرشداتنا الأجلّاء أن يعملوا على بسط القول في الإجابة عن هذه الاستفهامات، كلٌّ حسب تخصّصه، وأن يوضّحوا الرؤية من خلال المقالات، والمضامين الإعلامية، ووسائل التواصل، وبجميع اللغات الممكنة.
سدد الله طريقكم ووفقكم لله لكل ما يحبه ويرضاه.
وإلى مقال آخر..
د. يونس محمد صالح
- الكلمات الدلالية
- أوروبا
- الإسلام والغرب
- المسلم الأوروبي
د. يونس محمد صالح الزلاوي