
الهجرة بين أبواب المستقبل وغرف الماضي

منذ أن بدأ الإنسان رحلته على وجه الأرض، كانت الهجرة جزءًا من وجوده وسعيه نحو الأمن والكرامة والرزق. وقد تناول القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة هذا المعنى بشمولية وواقعية، فلم تكن الهجرة مجرد حركة جغرافية، بل كانت تعبيرًا عن تحولات نفسية وإيمانية، وتحقيقًا لمعاني النهوض والابتلاء والبناء.
واليوم تقف المجتمعات الإسلامية على عتبات المستقبل، وتواجه تحديات الهجرة الحديثة بأشكالها المتنوعة: اللجوء، الغربة، الاندماج، وصراع الهوية.
فكيف نستلهم من الماضي وحيًا يقودنا في الحاضر، ويضيء لنا الطريق إلى المستقبل دون أن نفقد جذورنا أو نذوب في التيارات؟
أولاً: الهجرة في ضوء الكتاب والسنة
الهجرة كمبدأ عقائدي في القرآن الكريم، وردت الهجرة مرتبطة بالإيمان، فقال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ''البقرة: 218 فهي لم تكن هروبًا من الضيق، بل انتقالًا من الضعف إلى التمكين، ومن الاضطهاد إلى إقامة الدين.
والنبي ﷺ هاجر من مكة إلى المدينة لا طلبًا للراحة، بل تأسيسًا لحضارة الإسلام على قواعد الحرية والعدل والمساواة، مع الحفاظ التام على المبادئ التي جاء بها الوحي ومواقف النبي ﷺ مع المهاجرين في المدينة، لم تكن الهجرة نهاية الرحلة، بل بداية التفاعل والبناء. آخى النبي ﷺ بين المهاجرين والأنصار، فكانت "وثيقة المدينة" نموذجًا للتعايش، واحترام التعدد، وتنظيم الحقوق والواجبات.
ثانيا: أصول الماضي وقيمه في التعامل مع الهجرة
1. الهوية أولًا: في تجربة الصحابة، لم تكن الهجرة تعني التفريط في الهوية أو الذوبان في المجتمعات الجديدة، بل كانت تأكيدًا على الانتماء للإسلام، مع احترام المجتمعات المضيفة.
2. الاندماج الواعي: في الحبشة، كان الصحابة يحسنون التعامل مع النجاشي، ويوضحون قضيتهم بلغة مفهومة، كما في حديث جعفر بن أبي طالب، دون أن يخفوا إيمانهم أو يتنازلوا عن ثوابتهم.
3. التوازن بين المصلحة والمبدأ: كانت الهجرة وسيلة لحماية الدين والنفس، لكن دون ارتكاب الحرام أو التفريط في القيم، مما يعلّمنا أن المصلحة لا تبرر التخلي عن الثوابت.
ثالثًا: الهجرة في المستقبل التحديات والفرص
تحديات المستقبل :
• صراع الهوية في بلاد المهجر.
• تحديات التربية الدينية في بيئة علمانية أو متعددة الثقافات.
• محاولات دمج المسلمين بطريقة تمس خصوصيتهم العقدية أو الثقافية.
• تصاعد ظاهرة الإسلاموفوبيا وتقييد حرية العبادة.
فرص المستقبل:
• نشر القيم الإسلامية من خلال النموذج والسلوك.
• الانفتاح على المجتمعات الأخرى دون تفريط.
• المساهمة في إصلاح المجتمعات الجديدة من موقع الإيمان والعمل.
• بناء أجيال تعتز بدينها وتفهم واقعها وتشارك في مستقبله.
رابعًا: نحو استراتيجية للهجرة تحفظ المبادئ وتستثمر الفرص
1. ترسيخ القيم في نفوس الجيل الناشئ: بتعليم العقيدة، وتعزيز الانتماء للإسلام، مع فتح آفاق الوعي بالواقع المعاصر.
2. تأسيس مؤسسات فاعلة في المجتمعات الجديدة: مدارس، مساجد، مراكز ثقافية، إعلام، تساهم في الحفاظ على الهوية وتقديم الإسلام بصورته الحضارية.
3. الانفتاح المدروس والتفاعل الإيجابي: مع المجتمعات المضيفة، من خلال الحوار والمشاركة في القضايا الإنسانية والمجتمعية، دون تنازل عن الخصوصية الإسلامية.
الهجرة ليست مجرد انتقال فيزيائي، بل هي اختبار لقوة الإيمان، وصبر النفس، ووعي العقل، والمستقبل يفتح أبوابه لمن يحمل جذور الماضي وقيمه دون أن يتجمد فيه، ويشق طريقه نحو البناء والنهضة بأقدام ثابتة على الأرض، وقلوب معلقة بالسماء.
فلنكن مهاجرين إلى الله ورسوله، مهاجرين بالقيم لا بالأجساد فقط، صُنّاعًا لمستقبلنا، لا أسرى لماضينا، حاملي رسالة لا عابري سبيل.
وبالتوفيق والسداد
...
بقلم : الدكتور يونس صالح
- الكلمات الدلالية
- الهجرة
إدارة الإعلام