أولادنا في الواقع الأوروبي بين التحديات والفرص
أولادنا في الواقع الأوروبي بين التحديات والفرص إن مهمة التربية من أَجَلِّ المهام التي يتشرف بها المسلم، ذلك لأنها تتمحور حول صناعة الإنسان الذي يقوم ببناء الحضارات وتشييد الدول والأمم، وهى رسالة السادة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.
إن مهمة التربية من أَجَلِّ المهام التي يتشرف بها المسلم، ذلك لأنها تتمحور حول صناعة الإنسان الذي يقوم ببناء الحضارات وتشييد الدول والأمم، وهى رسالة السادة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.
وتأمل قوله تعالى مُبينا غاية بعثة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2) {الجمعة}
إذاً فصناعة القلب العامر بحب الله تعالى ومعرفته، وإجلاله وخشيته، والنفس المزكَّاة الطاهرة والعقل المنير بالعلم – هو محور رسالة الإسلام وهدى القرآن وتعاليم خير الأنام.
على المربي أن يستحضر هذه الرسالة وتلك الغاية، كما عليه أن يدرك التغيرات الكثيرة التي يتسم بها طبيعة العصر عن الأزمنة الماضية، مما أفضى إلى صعوبات مضاعَفة أمام الأسرة المسلمة حول العالم. فلم تعد الأسرة في زماننا وحدها المنفردة بالتأثير والتوجيه وبناء النموذج المبتغَى في تربية النشء، بل هناك شركاء كثر: الإعلام/ المدرسة / النظام الثقافي المهيمن/ الرفقاء / وسائل التواصل إلخ.
وليست المشكلة في وجود شركاء يساعدون الآباء في تربية وتوجيه الأبناء، فهو مطلوب ومقصود، فالأسرة لا تستطيع بمفردها أن تبني وتربي وتغرس دون ظهير ومُعين يسير معها نحو غاية واحدة، لكنَّ المشكلة أنَّ كثيراً من الشركاء في عصرنا متشاكسون، ذلك لأن فلسفتهم في الحياة مغايرة لفلسفة الإسلام في الفكر والسلوك والمفاهيم في جوانب عديدة. وهنا التحدي الكبير، إذ كيف تُفيد منهم في جانب وتتجنب ما لا يوافق أصول الدين وقواعد الشريعة في جوانب أخرى؟ وكيف تُمَلك أولادك موازين هادية ومعايير دقيقة يحاكمون بها ما يسمعون ويبصرون، فيقبلون منها ويرفضون، ويأخذون ويتركون؟
وتلكم هي المعادلة الصعبة الدقيقة التي لا وصول إليها إلا بتوفيق من الله تعالى أولاً، ثم بذل الجهد البصير والعمل الدائم ثانيا.
ولذلك تتطلب مهمة التربية إمكانات ومهارات جديدة ملائمة لمستجدات الزمان وخصوصية المجتمع، وصفات نفسية عَصية على الفشل والتراجع، وغلبة المشاعر والعواطف على الحكمة ونظر العقول.
من هم شركاؤنا في التربية؟
تأمَّل أيها القارئ الكريم معي قليلا، لبيتٍ جميل، أو سيارةٍ فارهة، أو جهاز تليفون حديث، أو ساعة يدوية، أو غير ذلك من المنتجات المتنوعة الرائجة في الأسواق، وسل نفسك: كم شركة ويد عاملة تعاونت وتشاركت حتى خرج المنتج بهذه المواصفات؟ ستجد في صناعتها شركاء كثر.
كذلك الحال، فلا ينفرد بتربية الأولاد في عصرنا {الأسرة} فقط، بل يشارك كثيرون في صناعة عقولهم وقلوبهم وتنمية قدراتهم وتوجيههم في الحياة، وإنْ بأقدارٍ متفاوتة، أذكر من هؤلاء الشركاء ما يلي:
- الجار/ صاحب الأخلاق الحسنة يمكن أن يقدم قدوة لأطفال جيرانه، فإن كان صاحب خبرة تربوية أو فطرة سوية، أو سلوك نبيل أو شعور دقيق، وأجاد فنون التعامل مع الأولاد سيترك بصمة كبيرة في نفوسهم.
- المعلم والمعلمة/ بداية من الروضة إلى المراحل التي تليها يمكن بكلمة واحدة أن يغير حياة الطفل، ويبني فيهم الثقة بالنفس والانضباط والنجاح في الحياة. وكم من معلم حَبَّب لتلاميذه الدرس والعلم بحسن خلقه واهتمامه ومودته وجهده الذي يبذله من لأجلهم.
وكم من معلم كان سببا في نفور الطلاب من الدراسة وتحطيم مستقبلهم وآمالهم.
ولطالما سمعت من أولياء أمور قبل التحاق أبنائهم بالمدرسة، أنهم كانوا يرجون الله تعالى أن يرزق أبناءهم مُعلما يفهم أولادهم ويقدرون مواهبهم إن كانوا متميزين، ويقدرون ظروفهم إن كانوا يعانون من مشكلة نفسية أو سلوكية.
إنني أدعو الآباء في أوروبا أن يعقدوا صلات جيدة واعية مع إدارة الروضات والمدارس والمعلمين والمعلمات ويكون لهم دور في مجالس الآباء وتسييرها وتقديم الخدمات المتاحة والمساهمة في حل المشكلات.
ولا ريب أن حضور المسلم والمسلمة الأوروبية في هذه الدوائر ومبادرته وإيجابيته لها أثر كبير على جميع المستويات.
- الأسرة الكبيرة/ وأعني بها الجد والجدة والأعمام والعمات والأخوال والخالات:
للأسرة المسلمة بأوروبا خصوصية تختلف عن الأسرة في العالم العربي والإسلامي، فمعظم الأسر في أوروبا قلية العدد، قاصرة على الزوج والزوجة والأولاد باعتبار أصولها المهاجرة، خاصة في الأقطار الأوروبية ذات الوجود الإسلامي الجديد.
الأسرة الكبيرة يمكن أن تترك بصمة أخلاقية وروحية في قلوب الأولاد، ومن الضروري أن تحافظ الأسرة المسلمة على الصلة الوثيقة مع الأقارب داخل وخارج أوروبا، وتربيهم على صلة الأرحام والإحسان إليهم، عبر الزيارات المباشرة، والتواصل بالوسائل المتاحة، ولا تخفى الآثار التربوية والثقافية التي ترتد على أولادنا إن أحسنا الاستفادة من العطلة وتوجيهها اجتماعياً وإنسانياً وثقافياً.
- الداعية/ إن عموم المسلمين في أوروبا وخاصة الأطفال والشباب بحاجة من الدعاة إلى بشاشة الوجه وإبداء الاهتمام والسؤال عن أحوالهم وتشجيعهم بالكلمة والهدية والدعاء، وما أجمل الداعية حينما يبادر الأطفالَ والشبابَ بالتحية والسلام ويقترب منهم، وقدوتنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقيت دعاة بالمساجد يحملون معهم دوما هدايا للأطفال كلما دخل عليهم طفل بالمسجد أهدوه قطعة من الحلوى أو غيرها، تلك اللمسات تترك أثرا في القلوب لا تزول.
ولعلى أذكر في هذا المقام رجلا نادرا رحل عن عالمنا منذ عدة أشهر، وقد ترك مكانا فارغا لا يسده غيره، إنه المشهور ب {عمو بديع} رحمه الله رحمة واسعة ورفع درجاته في جنات النعيم.
عرفته منذ أكثر من عشر سنوات، ومن أهم ما كان يميزه: أنه لا يلقى طفلا في المسجد أو خارج المسجد إلا أهداه قطعة من الحلوى، ويوم وفاته سمعت شبابا يقولون: كان عمو بديع السبب في تعلقنا بالمسجد.
تكفل عمو بديع – رحمه الله – بإدارة مدرسة اللغة العربية بالمركز الإسلامي بفرانكفورت سنوات طويلة محتسبا جهده ووقته وماله عند الله تعالى.
والحقيقة أن الحديث عنه يطول كثيرا لكثرة مآثره وفضائله. هذا الرجل نموذج من الرجال الذي كان يجذب القلوب ويأسر النفوس ويبشر بالخير والأمل كل من يلقاه ..... نرجو أن نرى أمثاله من الرجال والنساء في مساجدنا بأوروبا .
- المراكز الإسلامية والمؤسسات الإسلامية على الساحة الأوروبية.
جهود كبيرة متميز متطورة تقوم بها المؤسسات الإسلامية على مستويات متعددة، لكن الغاية أكبر بكثير من الواقع، والمأمول المرتجَى أعظم من المنظور، ولذلك فإن مساجدنا ومؤسساتنا تتحمل مسؤولية ضخمة في ملف التربية، فمن الغفلة والتقصير أن نَقيم أداء المساجد والمؤسسات بانتظام خطبة الجمعة أو عدد المحاضرات أو عدد أعضاء الجمعية العمومية – على أهمية ما سبق وتقديره وأثره.
لكن يجب العناية بالتكوين والتربية والتزكية من خلال الدورات المتخصصة للمربين، وتفعيل الوسائل التربوية المتعددة. {والحديث في هذا الباب طويل لا يناسبه المقام الموجز هنا}.
حاصل القول: أن كل مسلم - أيا كان تخصصه أو مهنته أو موقعه - يمكن أن يُسهم - بقدر وسعه ومواهبه - في صناعة شخصية جيل مسلم، راجح العقل، موفور الخلق، بعيد الهمة، قوي العزيمة، راسخ الإيمان، مطمئن القلب، صُلب الإرادة، مستقل الشخصية، عفيف النفس، وصُول الرحم، سخىَّ اليد.
وللحديث بقية إن شاء الله في المقال القادم.
طه سليمان عامر
رئيس هيئة العلماء والدعاة بألمانيا
عضو المكتب التنفيذي للمجلس الأوروبي للأئمة
- الكلمات الدلالية
- بأقلام الأئمة
الشيخ طه عامر