نَشْلُ العِلمِ
غير مستنكر أن يؤلِفَ المرءُ بين ما تفرّقَ من خُلاصاتِ ما قرأ، ويجمع بينها، بل هذا أحد مقاصد التأليف والتصنيف، ولا يمكن أن يَنْسِبَ المرء كلَ ما تعلمه، لمن تَعلمَ منه،
العلم أمٌر مشاع، وليس مالاً في حِرْز، حتى يُسرَق!
لكن هناك ثلاثة أنواع من النشْالين:
النوع الأول: هم أولئك الرجال، يتصفحون ما كتب المعاصرون من مؤلفات، وما خطّه الباحثون في المراكز والجامعات، فيلتقطون نوادر الأفكار والسوانح، وخلاصة الفصول والمباحث، ثم "يتعمدون" حجب أصحابها، تارة بتغيير العبارات وإبقاء الفكرة، وتارة بوضع النص دون نسبته لقائله.
ونوعٌ ثان: أكثر كسلا، فهو لا يقوى على مطالعة الكتب وسَبْرِ أغوارها، ولا التأمل والسهر لتجلية خَفيِّها، وكشف أسرارها؛ فتجده يجالس أهل العلم، ويتتبع جديدهم، ويؤم ساحات البحث فيلتقط النوادر والخلاصات من أفواه الرجال، ثم يُحدِّث بها في المجالس، وكأنها بناتُ أفكاره، وحصادُ جهده وكده. فصاحبنا كَلابسِ ثَوبِ زورٍ، يتَشَبّع بما لم يُعْط.
ونوع ثالث: يعاملون بعض طلبة العلم معاملة "السُخرة" فيستكتبونهم بحوثا كاملة؛ بنصها، وعزوها، ومطالبها، نظيرَ خِدمةٍ بجاهٍ، أو فُتاتٍ من مال، ثم لا يستنكِف الرجلُ منهم أن يضع اسمه على الكتاب، ورَسْمَه في كل ناد، دون إشارةٍ في الغلاف أو المقدمة لجهود أولئك!
وهناك ألمعي آخر؛ يتربص بالكادحين من أقرانه، والمغمورين من الحُذّاق الذين لا يعرف الناس أسماءهم، ولا يتابعون إنتاجهم، فهم يعملون في خفاء؛ يلتقطون بذور المعرفة من بطون الكتب، ثم يغرسونها في أرضية من البحث والنظر، ويتعهدونها بالنظائر، ويسقونها بالشواهد، حتى إذا استوت على سوقها، وأينع ثمرها، جاء ذاك النشال فالتقطها قبل أن تغادر فرعها، وزين بها مائدته، كي يقال عنه عالم.
غير مستنكر أن يؤلِفَ المرءُ بين ما تفرّقَ من خُلاصاتِ ما قرأ، ويجمع بينها، بل هذا أحد مقاصد التأليف والتصنيف، ولا يمكن أن يَنْسِبَ المرء كلَ ما تعلمه، لمن تَعلمَ منه، ولا يمكن أن يتذكرَ في كل حين، مِنْ أين وردت تلك الفكرةُ، وسَنَحت تلك الإشراقة، هذا أمرٌ لا يستطيعه الناس ولو حرصوا، اشتراطه تكلف وتعسف! وقد يُقبل أن يستعينَ المؤلف - بخاصة المكثرين منهم - بمن يُدقق العبارة، أو يُحسِّن الصياغة، أو يُخرِّج الحديث، أو يشير لبعض النُقُول، أو يُذكِّر بشاهد، .. فلا قطع في ربع دينار! لكن أن يسطو على جهد الآخرين وأفكارهم ومصنفاتهم ثم يتعمّد نسبتها إليه، بالكتابة أو العبارة، فهذا مما ينزع بركة العلم، وإن كان كثيرا، ويحجب أنوار الحكمة، وفيض العطاء الرباني.
كتبه: د. ونيس المبروك
- الكلمات الدلالية
د. ونيس المبروك