path

متى يُشق صدر الأمة؟

article title

شهد التاريخ النبوي حادثةً عجيبة عظيمة، هي حادثة شق صدر النبي ﷺ، حيث روى أنس بن مالك رضي الله عنه:

أن رسولَ الله ﷺ أتاه جبريلُ عليه السلام وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فأخرج منه علقةً، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طِسْت من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه. وجاء الغلمان يسعون إلى أمِّه – يعني ظِئره – فقالوا: إن محمدًا قد قُتل. فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره.
(أخرجه مسلم في صحيحه)

لم تكن تلك جراحةً جسديةً فحسب، بل كانت إعدادًا ربانيًّا لقلبٍ سيحمل أعظم رسالة للبشرية.

هذه الحادثة ليست قصة من الماضي، بل هي رمزٌ لإعداد القلوب والعقول قبل حمل الأمانة. فكما شُق صدر النبي ﷺ لتطهيره وتقويته، فإن للأمة اليوم حاجةً ماسّةً إلى أن يُشق صدرها المعنوي، ليُستخرج ما فيه من أمراض الوهن، ويُغسل قلبها بماء الإيمان، ويُملأ صدرها بحب الحق، وعزيمة العمل، وشجاعة المواجهة.


مصادر النجاح في قلب الأمة

تمتلك الأمة مصادر متعددة ومتنوعة في قيمتها وقوتها لا تضاهيها فيها أمة من الأمم، ومن أهمها:

1- القرآن الكريم

مصدر الهداية والتوجيه والتخطيط الحضاري، قال تعالى:
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ}
النحل: 89

وقال سبحانه:
{المص (1) كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُون}
الأعراف: 1 – 3

وقال تعالى:
{لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيد}
فصلت: 42

2- القدوة النبوية

في كل أزمة نجد في سيرة النبي ﷺ مخرجًا وحلًّا؛ من صبره في مكة، إلى حكمته في المدينة، إلى صلابته في بدر وأحد، وفي جميع مجالات الحياة. قال تعالى:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}
الأحزاب: 21

3- الوحدة على القيم

فالاختلاف سنة، لكن الاجتماع على الأصول قوة، قال تعالى:
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}
آل عمران: 103


مناطق الأمل في واقع الأمة

رغم ما تمر به الأمة من ضعف وتحديات، فإن في صدرها مواطن أمل متجددة:

  • أولًا: الإيمان الصافي: ما زال في الأمة رجال ونساء يحملون القرآن في صدورهم ويعيشونه واقعًا. قال تعالى:
    {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
    الحجر: 9

وقال ﷺ: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»
(أخرجه أبو داود).

  • ثانيًا: الشباب الوافي: جيل متعطش للعلم والحرية والعدل، مستعد للتضحية إذا وُجِّه الوجهة الصحيحة. قال تعالى في وصف عباد الرحمن:
    {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا...} إلى قوله {وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا}
    الفرقان: 63 – 67

  • ثالثًا: الإرث الباقي: حضارة امتدت قرونًا، علّمت البشرية العدل والنور، وما زال أثرها باقيًا من عدل عمر بن الخطاب، إلى صلاح الدين، إلى محمد الفاتح.

قال الشاعر:
مَلكْـــنا فكان العَفْو منَّا سَجــيَّةً
فلمَّــا ملكْتُمْ ســـالَ بالــدَّمِ أبْطَــحُ

وحَلَّلْتُمُ قتلَ الأســارى وطالَمـا
غَدوْنا عن الأسْرى نَعفُّ ونصفَح

فحسْــبُكُمُ هـــذا التَّفــاوتُ بيْنَنا
وكــلُّ إِنـــاءٍ بالــذي فـيهِ يَنْضَـح


عوامل القوة الممكنة

لقد حبا الله هذه الأمة عوامل قوة كامنة، تعود بها إلى الصدارة متى ما استُنهِضت:

  • الوعي بالواقع: إدراك الواقع وتشخيص الداء قبل وصف الدواء، وفق ميزان الكتاب والسنة.

  • الإرادة الجمعية: إرادة مبنية على فهم عميق وعمل دقيق وهمّة متقدة لا تنطفئ.

قال الشاعر:
إِذا غامَرتَ في شَرَفٍ مَرومٍ
فَــلا تَقنَع بِما دونَ النُجــومِ

فَطَعمُ المَوتِ في أَمرٍ صَغيرٍ
كَطَعمِ المَوتِ في أَمرٍ عَظيمِ

  • العمل المؤسسي: تحويل الجهود الفردية إلى مشاريع جماعية مستمرة. قال الله تعالى:
    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}
    محمد: 7

وقال تعالى:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ...}
النور: 55


الخاتمة

فحين يُشق صدر الأمة بالتوبة، وتُستخرج منه أمراض القلوب، ويُملأ بحب الله ويقين وعده، والجرأة على الباطل، يبدأ عهد النور.

فالأمة كالقلب: إذا صفا نبض، وإذا امتلأ بالشوائب ضعف، وإذا نُقّي بالإيمان عاد إليه النور. وشق الصدر المعنوي للأمة اليوم هو إصلاح فكرها، وتطهير نياتها، وتوحيد كلمتها، حتى تصبح جديرة بالنصر والتمكين.

اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر.

د. يونس محمد صالح الزلاوي د. يونس محمد صالح الزلاوي

أرشيف الكاتب

المقالات التالية:

جدل المواسم

feather د. ونيس المبروك

إن غزة أمة وحدها

feather د. يونس محمد صالح الزلاوي

اقرأ أيضا للإمام

article title

إن غزة أمة وحدها

article title

بَيْنَ الأَقْصَى وَالقَصِيّ: رِحْلَةٌ فِي أَعْمَاقِ التَّغْيِير

article title

بين الروضة والرياض مسافة من الحقوق والواجبات

banner title

مقالات مرتبطة

د. ونيس المبروك

جدل المواسم

د. يونس محمد صالح الزلاوي

إن غزة أمة وحدها

د. يونس محمد صالح الزلاوي

بَيْنَ الأَقْصَى وَالقَصِيّ: رِحْلَةٌ فِي أَعْمَاقِ التَّغْيِير