
إن غزة أمة وحدها

حين يتأمل المرء قوله تعالى:
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } (النحل: 120)،
يدرك أن الأمة ليست دائمًا جماعة كبيرة من البشر، وإنما قد تكون صفةً تُمنح لشخص واحد اجتمعت فيه معاني الخير والهداية والقدوة، فكان في ذاته بمثابة أمة كاملة.
واليوم، ونحن ننظر إلى غزة وما تعيشه من محنة وابتلاءات، يخطر بالبال سؤالٌ ملحّ: أليست غزة – رغم صغر مساحتها، ورغم حصارها – أمة وحدها؟ أليست هي التجسيد المعاصر لمعنى الأمة في ثباتها وصمودها وإلهامها للعالم؟
الأمة في القرآن
ورد لفظ (الأمة) في القرآن على سبعة معانٍ:
1- الجماعة من الناس: وهو الاستعمال الغالب في القرآن، من ذلك قوله تعالى:
{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ } (البقرة: 141)، أي: الجماعة من الناس؛ ومثله قوله سبحانه: { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ } (آل عمران: 104).
2- الشريعة والطريقة والمنهج: وعلى هذا المعنى جاء قوله تعالى:
{ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ } (الزخرف: 22)، أي: على طريقة ومنهج من الدين.
3- الرجل المقتدى به: ومنه قوله سبحانه:
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } (النحل: 120)، أي: كان إمامًا وقدوة للناس.
4- الفترة من الزمن: ومنه قوله تعالى:
{ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } (يوسف: 45)، أي: بعد فترة من الزمن؛ ومثله: { وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ } (هود: 8).
5- الخلق عمومًا: من إنسان وغيره، كما في قوله تعالى:
{ وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } (الأنعام: 38).
6- أمة محمد ﷺ وأهل الإسلام خاصة: كما في قوله تعالى:
{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } (آل عمران: 110)، وقوله: { وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } (البقرة: 143).
7- الكفار خاصة: كما في قوله سبحانه: { كَذَٰلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ } (الرعد: 30)، أي: الكفار.
أما في وصف إبراهيم بالأمة، فقد اتفق المفسرون على أن المعنى: اجتمع فيه من صفات الخير ما لا يجتمع عادة إلا في جماعة كبيرة، فصار في نفسه وحده أمة كاملة.
لماذا كان إبراهيم عليه السلام أمة؟
-
لأنه كان وحيدًا في مواجهة أمة مشركة، فقام مقامها في الدعوة والتوحيد.
-
لأنه صبر على البلاء؛ أُلقي في النار فلم يتزحزح عن إيمانه.
-
لأنه ضحّى بنفسه وولده ابتغاء مرضاة الله.
-
لأنه صار قدوة خالدة للأجيال، لا يزال الناس يقتدون به حتى اليوم.
إذن، فالأمة ليست بكثرة الأتباع، وإنما بقوة الرسالة وصدق الثبات على المبدأ.
غزة كأنها أمة وحدها
غزة، في واقعها المعاصر، تشبه هذا المعنى العظيم؛ فهي – رغم الحصار والجراح – قد غدت أمة:
-
أمة في الصبر: صبرت على الحصار والجوع سنوات طويلة.
-
أمة في التضحية: قدّمت الشهداء والجرحى والأسرى، فغدت نموذجًا للفداء.
-
أمة في الثبات: لم تتنازل عن حقوقها رغم ضغوط العالم كله.
-
أمة في الإلهام: ألهبت مشاعر الشعوب وأيقظت الضمائر النائمة.
-
أمة في المعنى والرمز: بينما تفرّقت أوطان المسلمين، اجتمعت في غزة معاني التضحية والإيمان والكرامة.
وجوه الشبه بين إبراهيم وغزة
-
الاغتراب: كان إبراهيم غريبًا في قومه، وغزة غريبة في عالم متخاذل؛ جيرانها والعالم تخلوا عنها، بل دعموا من يسوم أهلها سوء العذاب. قال الشاعر:
لكن قوم وإن كانوا ذوي عددٍ
فليسوا من الشر في شيءٍ وإن لانا
-
الابتلاء: أُلقي إبراهيم في النار، وأُلقيت غزة في نار الحرب والحصار؛ قُصفت مساحتها الصغيرة (360 كم²) بما يفوق ما أُلقي على هيروشيما وناغازاكي أضعافًا. ومع ذلك يخرج أهلها من النار مردّدين: وعجِلتُ إليكَ ربِّ لترضى.
-
الثبات: ثبت إبراهيم على التوحيد، وثبتت غزة على الحق رغم مفاوضات التخلي عن حقوقها وحتى محاولات تهجيرها.
-
القدوة: إبراهيم صار أمة، وغزة صارت رمزًا للأمة؛ من أراد أن يتعلم الرجولة أو الصبر أو العزة، فليتأمل في غزة.
الخلاصة
إن غزة ليست مجرد بقعة جغرافية صغيرة، وليست مجرد مدينة محاصرة؛ بل هي معنى وقيمة ورسالة. إنها أمة لأنها جمعت في ذاتها من قيم التضحية والصبر والثبات ما غاب عن كثير من الأمة الإسلامية.
وكما كان إبراهيم عليه السلام أمة وحده، فإن غزة – في زماننا – هي أمة وحدها، تُعلّمنا أن الأمة لا تُقاس بالعدد ولا بالقوة المادية، وإنما تُقاس بقوة المبدأ، وصدق العقيدة، وعظمة التضحية.
لهذا استحقت غزة أن تُشبَّه بإبراهيم في قوله تعالى:
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } (النحل: 120).
- الكلمات الدلالية
- بأقلام الأئمة
د. يونس محمد صالح الزلاوي