خطبة جمعة | غزة حركت ضمير العالم
.. أمّا بعد،،
فقد قال تعالى في محكم التنزيل .. (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [سورة الإسراء 70].
إنّه تكريم صريحٌ من الخالق تبارك وتعالى للبشر .. تكريمٌ للإنسان .. حصانةٌ لحقِّه في الحياة .. وعصمةٌ لدمه وروحه .. وتقديرٌ لمكانتهِ وكرامته ..
نقف مع هذا المعنى العظيم .. ونحن نشهدُ كيف يُسحَق الإنسانُ في غزّة وتُهْدَرُ كرامته .. بآلةِ القتل والفتكِ والتدمير .. التي تعملُ على مدار الساعة دون رادعٍ من قانون أو ضمير ..
كان هذا هو ما حرّك قضاةً من أقصى الأرض .. من جنوب أفريقيا .. حملوا نداءَ الضمير .. وصيحةَ العدالة .. وتوجّهوا بها إلى محكمة العدل الدولية .. لعلّ العالمُ يتحرّك لوقف المقتلة الرهيبة .. وكبحِ الإبادةِ الفظيعة .. بعد زهاءِ مائة يوم انقضت دون أن تتدخّل هيئاتُ عالمنا لوقف هذه البشاعةِ المرعبة ..
إنّ ما يجري في غزّةَ على مدار الساعة منذ مائة يوم .. قد دخل تاريخَ البشر بلا ريْب .. دخله في هيئة مذبحةٍ مرئيةٍ لعيون العالم ومسموعةٍ لآذانه .. مذبحةٍ تُقترفُ بحضور البثِّ المباشر .. وتُرى فظائعها لحظةً بلحظة .. هي المذبحةُ التي تُغلّف بالمزاعم المضلِّلة .. التي تحيلُ الضحيةَ إلى جانٍ والجاني إلى ضحية .. وتجعلُ الأطفالَ والنساء والشيوخَ والمرضى أهدافاً مشروعة .. بحبكةٍ من المُراوَغَةِ والتضليل .. وتجعل المستشفيات والعيادات والمدارس والمساجد والكنائس والأديرة .. تجعل هذا كلّه أهدافاً مستساغة للقصف والقتل والتدمير ..
وقد رأينا الكثيرَ الكثيرَ في الأيّام المِئة .. ممّا تنتفضُ لِهَوْلِه الأبدان .. ويرتعدِ من وطأته الوجدان .. ومن آخر ما رأينا .. أمٌّ ترفع الرايةَ البيضاء .. ومعها طفلها الذي يرفع الرايةَ البيضاء أيضاً .. رأيناهما يسيران على طريق مكشوفة مخصصة للنازحين في قطاعِ غزة .. بحثاً عن مأوى يحتميان به .. وإذ بقنّاصة جيش الاحتلال يتصيّدون الأم بدمٍ بارد .. فيفتكُون بها بإطلاقِ النار عليها في تسديدةٍ آثمة .. فعلها الجيش المجرم .. وطفلُها ذاهلٌ بين يديها ..
رفعت الأمُّ الرايةَ البيضاء .. ورفع الطفلُ رايةً مثلَها .. ليقولَ لأولئكم القتلةِ المجرمين: لا تقتلوني وأمِّي! .. لكنّهم أجهزوا على الأمّ .. أجهزوا على الإنسانية .. أجهزوا على كرامةِ الإنسان .. وانتهكوا عصمةَ الدِّماءِ والأرواح ..
هوى بدنُ الأمِّ على الثرى المُخضّبِ بدمائها الزكية .. وبقي الطفلُ ذاهلاً من حول جثمانها .. وقد أدركَ أنّه ضحيةُ عالمٍ يسمحُ بهذه الفظاعة .. يسمحُ لها بأن تقَع .. ويسمحُ لها بأن تستمرّ .. ويسمحُ لها بأن تُبرّر ..
إنّ مَن يرى هذا المشهد الرهيبَ وما يُماثله .. يُدركُ أنّه نقطةٌ في بحرِ ما يُقترَف ساعةً بساعة .. لحظةً بلحظة .. يُقترَفُ مثلُه وزيادة .. هنالكم في فلسطين .. هنالكم في قطاعِ غزة .. ومعظَمُه يجري دون أن تَحْمِلَه إليْنا الصُّوَرُ والمقاطع المرئية .. فما نعلمه أنّ آلافاً من النِّساءِ والأطفالِ والشيوخِ والمرضى .. هوَت السقوفُ والجدرانُ على رؤوسهم وأبدانهم .. وظلّ بعضهم ساعاتٍ أو أيّاماً على هذه الحال دون أن يتمكّنَ أحدٌ من الوصولِ إليهم وانتشالِهم .. وبيْن هؤلاء أطفال كُثُرٌ مع أمّهاتهم .. طفلٌ يرقبُ أنفاسَها الأخيرة .. وهو عالقٌ معها بين الأنقاض ..
لنذكُرَ هذا ونحن نرى مشاهد أولئكم الأبرياءِ من الصِّغار .. الذين يُحتفَى بإخراجِهم أحياءً مِن تحت الركام .. فقد رأوا أهوالاً لا يحتملها الراشدون .. وأخذوا يعدّون أنفاسَهم عدّاً .. فمنهم من أُخرِج إلى الحياةِ من جديد .. وكثير منهم أُخرِجَت أبدانهم أو أشلاءٌ منها .. دون رمقِ حياة .. أو بقيَت لتحلّل حيث هي دون سبيلٍ لانتشالها ..
إنّ هذه الوقائعَ والمشاهدَ .. هي ما حرّك القضاةَ من أقصى الأرض .. من جنوب أفريقيا .. وتوجّهوا إلى محكمة العدل الدولية .. في التماسٍ أخير إلى عالمنا .. يختبرون قيَمَه ومواثيقه .. ويفحصون حِسَّه وضميره ..
وهذه المشاهد .. هي ما حرّك سيولَ البشر في ميادينِ الأرض .. الذين صاحوا ولا يزالون صائحين: أنْ كفى! .. كفى لهذه الفظائع! ..
وقد وجب القولُ .. إنّ من يَقترفُ هذه الفظائعَ .. ويدعمُها ويبرِّرُها ويلتمسُ لها الأعذار .. هم شركاءُ في امتهانِ كرامةِ الإنسان .. وقد قال تعالى في محكم التنزيل (ولقد كرّمنا بني آدم)
إنّ مَنْ يرتضون حدوثَ هذا ويترافعون في تبريره وتسويغه أو التهوينِ من أمره .. ويرفضون تسميةَ الأشياءِ بأسمائها ووصفَ الواقعِ كما هو .. إنّما يُسقِطون قيَمَ الإنسانية ومواثيقها ويدوسون قانونَها ويمزِّقون دستورَها ويُطيحون بشعاراتِها ..
إنّ صيحة الضمائرِ الحيّة .. من قضاةِ جنوبِ أفريقيا .. ومعهم روّادُ حقٍّ وعدلٍ وقانونٍ من أمم الأرض .. ومعهم كلُّ من كتب وقالَ وترافعَ وتظاهرَ لأجل الحقوق والعدالة .. هذه الصيحةُ هي إشارةُ حياةٍ في عالمنا .. وعلامةُ ضميرٍ يقِظ وحِسٍّ واعٍ .. وقد جرّبت جنوبُ أفريقيا تحديداً ألواناً من الظُلمِ والعدوانِ والطغيانِ والعنصريةِ من قبل .. فلا عجب أن يكون الوازعُ لديها حيّاً ومحرِّكاً على هذا التحرّك المبدئيِّ المشرِّف ..
مائةُ يوم تنقضي .. وفيها جبالٌ من المظالم .. التي ستُعلّق برقابِ الجُناةِ وداعميهم يومَ العرضِ على الله .. فما يضيعُ عند الناسِ لا يضيعُ عندَ الله .. وهم إن أفلتوا من عدالةِ الأرض فلن يُفتلوا من عدالةِ الآخرة ..
وفي الحديث القدسي الذي رواه الطبراني .. عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال رَبُّكَ تبارك وتعالى: وعِزّتي وجلالي لأنْتَقِمَنّ من الظالمِ في عاجلِهِ وآجله، ولأنتقمَنَ ممن رأى مظلوماً فقدَرَ أن يَنْصُرَهُ، فلَمْ يفعَل".
إنّ من واجبِنا وواجبِ كلّ صاحب ضمير .. أن نساندَ أهلَ غزةَ في هذه المظلمة .. وأن نسعى في التخفيف عنهم بكل ما يمكن تقديمُه لهم .. وأن نرفعَ أصواتَنا لدعم الحقّ والعدلِ وفي مواجهة الظُّلمِ والعدوان .. وأن يدركوا أنّهم ليسوا وحدهم .. وأنّ لهم أمّةً تقف إلى جانبهم .. وضمائرَ حرّة تلتفُّ حول قضيّتهم .. كي لا ينالَهم شعورُ الخُذلانِ المرير .. فالوقوفُ إلى جانبِ فلسطينَ وشعبِها .. ومساندةُ غزّةَ الجريحةَ وآهلَها .. هو من أعظم الواجبات في هذه الأيّام ..
يا أهْلَ غزة .. يا شعبَ فلسطين .. لا تَهِنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون بإيمانكم ..
يا أهل غزةَ الصابرين .. بشراكم اليوم من الله تعالى .. ألم يَقُل عزّ وجلّ في كتابِهِ الكريم: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)؟ سورة البقرة 155
يا أهلَ غزّة .. إن يَمْسَسْكُم قرحٌ فقد مَسّ القوْمَ قَرْحٌ مِثلُه .. وتلكَ الأيّامُ نُداولها بين الناس .. ولِيَعْلَمَ اللهُ الذين آمنوا ويتّخِذَ منكم شهداء ..
يا أهْلَ غزّة .. نسألُ الله تعالى أن يتقبّل تضحياتِكِمُ العزيزة .. وأنْ يَرْبِطَ على قلوبِكُم .. وأن يُؤتِيَكم ثوابَ الدُّنيا وحُسْنَ ثوابِ الآخِرَة ..
اللهم بَرداً وسلاماً عليكم .. اللهم برداً وسلاماً على غزّة .. اللهم برداً وسلاماً على الضِّفة .. اللهم برداً وسلاماً على القُدس .. اللهمّ برداً وسلاماً على فلسطين ..
اللهم رُدّ كيْدَ المعتدين .. وارْبِط على قلوبِ المكلومين .. اللهم ارحم شهداءهم واشفِ جرحاهم واجبُر كَسْرَهم ..
اللهم نسألك صلاةً جامعةً في المسجد الأقصى المبارك .. وقد رُفِع الكرب عن القدس وانجلت الغُمّة عن فلسطين .. ولا تحسبنّ الله غافلاً عمّا يعمل الظالمون ..
(.. استكمال الخطبة .. ثمّ الدعاء)
- الكلمات الدلالية
- غزة
إدارة الإعلام