موقعنا في خريطة الهجرة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.
بحلول شهر ذي الحجة من كلّ عام، يتذكّر المسلمون يوما من أيام الله غيّر الله فيه مجرى تاريخ البشرية في عالم القيم، حيث يَسّر الله فيه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم وصحبه رضي الله عنهم أرضا طيّبة وأهلا ذوي فضل وعزيمة، نصروا رسول الله وآووا من هاجر معه، فكان التأسيس لمجتمع جديد تلاحمت فيه الأواصر والجهود بقيادة أعظم قائد، سيدنا رسول الله صلى عليه وآله وسلم.
يمدّنا هذا الحدث العظيم بكثير من الدّروس تتنوع حسب تفاصيل وقائعه وملابساته ومن خلال زوايا النظر فيه، ولا يزال أهل العلم يكتبون فيها صفحات ويلقون فيها دروسا ومحاضرات.
أودّ في هذه السطور أن أتحدّث عن موقعنا نحن في جملة هذا الحدث وسياقه، لننظر هل نحن مرتبطون به نظريا وعاطفيا أم عمليا أيضا بكوننا جزءا من سياقه وعنصرا في معادلة تفعيله و مقتضياته عبر الزمان والمكان.
تستوقفني في هذا الموضوع آيات سورة الحشر التي نزلت في سياق الحديث عن الفيء الذي أعقب حادث بني النضير. قال الله تعالى: {…لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ(8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ(10)} (الحشر 8-10).
تحدّثنا هذه الآيات الثلاث عن ثلاث طبقات تشكّل الطائفة المعوّل عليها في بناء الأمة وبقائها.
1- المهاجرون: أولئك الذين صدقوا في ذات الله بأن بذلوا كلّ ما يملكون من أجل نصرة الله ورسوله محتسبين مبتغين بذلك فضل الله ورضوانه. أخرجوا من ديارهم وأموالهم فصبروا وشكروا واحتسبوا. قد لا تصف الكلمات حقيقة بذلهم في ذات الله، إنهم خرجوا بالكلّيّة من ممتلكاتهم وصبروا على أن أُخرجوا من أرضهم إلى أرض يقطعون من أجلها الصحاري والقفار على قلة ذات اليد ونقص المتاع.
لك أن تتصور ما عاناه المهاجرون من خلال ما تقطعه من مآت الأميال في ساعات قليلة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، في أحدث وسائل الركوب الفاخرة المكيّفة السّريعة مع توفّر ما تشاء من الزاد، إلاّ أنّك تجد نفسك مرهقاً في طريقك على أنك في مأمن على مالك وأهلك ودارك، صورة كهذه تجعلك تتذوق طعم الجهد الذي بذله من تركوا ديارهم وأموالهم وقطعوا طريقا طويلة في القفار في سبيل الله.
2- الأنصار: أهل المدينة الذين تمكّنوا من الإيمان وتمكّن منهم، الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتميّزوا بموقفهم السّامي تجاه المهاجرين معه حبّا وبذلا و إيثارا على النفس حتى استأهلوا أن يشهد الله لهم أنّهم هم المفلحون.
3- من هم على خطاهم من بعدهم: في اللآية الثّالثة يتفضّل الله على من لم يشهدوا ذلك الحدث العظيم بأن فتح لهم باب الإنتماء إلى الركب الكريم، ركب المهاجرين و الأنصار بأن يشكروا صنيعهم داعين الله لهم ولأنفسهم بالمغفرة، اعترافا لهم بفضل السّبق في معارج الإيمان وما يقتضيه من بذل النفس و النفيس من أجل نصرة الحق، راجين من الله أن يحفظهم من الغلّ الذي يفسد القلوب تجاه المؤمنين من المهاجرين والأنصار ومن سار على خطاهم في طريق الإيمان.
على رأس هذه الطبقة يأتي من تشرّف بصحبة رسول الله ويتلوهم التّابعون فما بعدهم إلى يوم القيامة. تُشعر هذه الآية قلب كلّ مؤمن فضلَ الانتماء إلى جسم الأمة المبارك، ليمشي بالنّور بين النّاس لأنّ ذلك منوط به حتّى تبلّغ دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى كلّ الناس، فقد أرسل إليهم كافّة وبرحمة تفيض على العالمين.
هذا الإتّباع الباقي إلى يوم القيامة لنيل الحقّ ونشره يقتضي أن يتمّ بإحسان لأنّه أفضل مطلوب وأعظم واجب ما دام به يُنال رضا الله وجنّتُه خلدا في الفوز العظيم. وهذا ما تشير إليه الآية: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة-100). هذه الآية التي وردت في سياق آيات كثيرة كشفت فئات المسلمين و زيّلت بين القاعدين وبين من عمل لهذا الدّين.
من أجل خطورة موضوع الهجرة من مكة إلى المدينة لتحقيق قيام جسم الأمة نزلت آيات بينات فصّلت فيها كما في سورتي النساء والأنفال، وبعد تحقق مقصدها تغير حكمها. روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم سُئِلَ عن الهجرة فقال: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا».
لقد ذكرأهل العلم أن لا هجرة من مكة إلى المدينة بعدما فتحها الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، لأنها كانت واجبة على المسلمين وهم في مكّة، أمّا بعد الفتح فلم يبق وجه لترجيح تركها إذ أنها صارت دار إسلام.
من أجل ذلك رفع وجوبها وإلاّ فالهجرة ماضية إلى يوم القيامة حسب ما يتقتضيه ظرف مسلم واحد أو فئة من المسلمين من أجل مصلحة معتبرة في الشرع لا تتحقق إلا بها، ولهذا جاء في الحديث الآخر الصحيح: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة». رواه أبو داود
وفي كلّ يبقى الجهاد بتصحيح النية فيه ماضيا إلى يوم القيامة ببذل قصارى الجهود في كل مجالات الحياة لتبديد الظلمات وبثّ نور الله. بهذا يكون السبق بالإيمان وباتباع المهاجرين والأنصار بإحسان.
- الكلمات الدلالية
- بأقلام الأئمة
الشيخ عبد الجليل حمداوي