Posted on Leave a comment

ثلاث رسائل من الهجرة | الشيخ طه عامر

صَدَع النبي الكريم بالحق يوم أمره الله تعالى “فاصدع بما تُؤمر”، ومنذ تلك اللحظة نَذَرَ الرسول صلى الله عليه وسلم وقته وجهده وما يملك في سبيل هداية الخَلْق إلى طريق الحق، وَوَصْل قلوبهم بخالق السماوات والأرض، فأشرق بنور الوحي ثُلَّة من الأولين وربَّاهم على عينه وملأ قلوبهم بمحبة الله وحده، والرغبة فيما عنده وتَلَمُّس مراضيه، والرهبة من جنابه ومَغاضبه، وناله صلى الله عليه وسلم من الأذى الكثير، وأصاب رِفاق دَرْبه ألوانا من العنت والتضييق والعذاب.

ولما ضاقت مكة برسالته وأغلقت في وجه دعوته أبوابها، هيَّأ الله تعالى لدينه أرضا جديدة وقلوبا متلهفة، وعقولا قد استضاءت بنور القرآن، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم مَنْ آمن معه بالهجرة إلى المدينة المنورة ” أرسالا” أي مجموعات، وترك الصحابةُ قصصا عظيمة في التضحية، حينما فارقوا أرضهم وأموالهم وأهلهم في هجرة ستغير وجه التاريخ الإنساني إلى يوم الدين، وفارق النبي مكة وهو مجروح القلب ملتاع الفؤاد.

المسلم بين التأييد الإلهي وقانون الأسباب
يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى في ” فقه السيرة” : “ولا نعرف بشرا أحق بنصر الله وأجدر بتأييده مثل الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لاقى في جنب الله ما لاقى، ومع ذلك فإن استحقاق التأييد الأعلى لا يعنى التفريط قيد أنملة في استجماع أسبابه وتوفير وسائله “
لو تتبعنا جميع مراحل الهجرة النبوية سيتجلى لنا بدقة ووضوح أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يترك للأمة دروسا عظيمة من هجرته في الجمع بين احترام قانون السببية مع جمع القلب على الله تعالى بكُليته، كان يمكن أن تكون الهجرة معجزة لكن كانت معاناة وجهدا كبيرا وركوب مخاطر ضخمة، لم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم للصدفة والعشوائية سبيلا، إنما قام بإحكام الخُطة ودقة التدبير والترتيب.

ومع هذا كان قلبه في وصال دائم مع ربه، امتلأ باليقين في نصره وتوفيقه ومدده، ولما انطلق المشركون يطاردونه وصاحبه في جنون، وبعد بحث بين شعب الجبال والوديان وصلوا ووقفوا أمام الغار الذي تشرًّف بضم جسد النبي الطاهر الكريم والصديق أبو بكر، وحين انتفض قلب أبي بكر خوفا على حبيبه وسيده وسيدنا وحبيبنا ظنه بالله جميل حيث قال له مطمئنا ” لا تحزن إن الله معنا”

ما أحوج الأمة الآن في كل مكان، وما أحوجنا أن نمتلك مفردات الأسباب: التخطيط/ الدقة/ احترام الوقت/ النظام/ النظافة/ جودة الأداء/ فن الإدارة. ثم نجمع في نفس المستوى مفردات التوفيق والسداد: اليقين / الثقة في الله/ الافتقار لله/ كثرة التضرع والدعاء/ صدق القلب مع الله / التوكل على الله .

الرسالة هي الحياة
الناس في الحياة مذاهب تصرفهم نحوها وينصرفون لها، ذلك لأنهم وجدوا فيها قرة العين ومهوى الفؤاد، ومن أجلها يبذلون وينفقون ويصبرون، وكانت غاية الرسول صلى الله عليه وسلم التي ملكت عليه قلبه وسكنت روحه هي: إسعاد الخلق بتعريفهم بالخالق وحقه عليهم، قرة عينه استقامة الناس على أوامر الله، ولذلك لم يترك فرصة للدعوة إلا استفاد منها وهو في طريق هجرته الشاقة في صحراء حارقة أسلم على يديه
وهكذا صاحب الرسالة دوما، تعيش دعوته في قلبه وتتحرك بها جوارحه ولا يملك العقل إلا أن يعطى الأمر بالتعريف بها أينما ذهب وحلَّ وارتحل، لم تَلِن عزيمته، ولم تضعف إرادته، ولم تغلبه الضغوط، ولم تصرفه عن رسالته أساليب الترهيب أو الترغيب، ويا له من درس للدعاة وللمسلمين حول العالم في الاعتصام بحبل الله، والتوكل على العزيز الرحيم، وتعلق القلب به وحده لا شريك له مهما كانت التحديات والصعوبات التي تعترض حياتنا .


للمهاجرين حول العالم
الذين فارقوا ديارهم وأهلهم إلى أصقاع الدنيا، وعلى الرغم من ألم الفراق ووحشة البعد وطول السفر نقول : لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير وإن بدا غير ذلك، احتسبوها عندها هجرة في سبيله كمن سبقكم من الصالحين، والدنيا راحلة، والتعب والنصب عندها سيزول، وعند الصباح يحمد القوم السُّرى، وهنيئا لكم التأسي بالمهاجرين الأولين رضى الله عنهم، فقد ترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أوطانهم وفارقوا ديارهم وحيل بينهم وبين أهليهم وأحبابهم ولا ريب أنهم كابدوا مرارة البُعد والحرمان، لكن سرعان ما تجاوزوا تلك المحنة بفضل التهيئة القرآنية لهم أنّّ الأرض كلها لله وأن المسلم يجب أن يكون مع الله في كل مكان، والكون كله محراب للعبادة وميدان للدعوة قال تعالى: “يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ” (56) العنكبوت.

ثم بَشَّر الذين خرجوا من ديارهم في سبيل الله جلَّ في علاه بحسنى العاقبة وخير الدنيا والآخرة. “وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ” (41) النحل. أبَعْد هذا الوعد يبقى المؤمن في حزن أو قلق؟! ثم عاش الصحابة في المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبدلهم الله خيرا، وبعد سنوات أصبحوا في الخير قادة، وفي ميادين الدعوة أئمة الهدى ودانت لهم الأرض وهدى الله بهم القلوب وأنار بعلمهم العقول .فلنستقبل أيامنا بعزيمة على الرشد، وثبات في الأمر، وإرادة على تجاوز الصعوبات. ومن الله العون والسداد، وهو مُلهم الهدى والرشاد، عليه توكلنا وإليه المآب.

المصدر: مدونات الجزيرة

Posted on Leave a comment

حديث وفوائد جليلة

دكتور: أحمد طه
إمام المركز الإسلامي بـ ميونخ، وأستاذ الحديث وعلومه

روى البخاري ومسلم عن ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال:” قال رسُولُ اللَّهِ لِمُعَاذِ بن جَبَلٍ حين بَعَثَهُ إلى الْيَمَنِ إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فإذا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إلى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إلا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لك بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قد فَرَضَ عليهم خَمْسَ صَلَوَاتٍ في كل يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لك بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قد فَرَضَ عليهم صَدَقَةً تُؤْخَذُ من أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ على فُقَرَائِهِمْ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لك بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فإنه ليس بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ”
ما وراء النص من فوائد:
1ـ المعرفة والخبرة بالواقع أهم من العلم والتحصيل فقد أكون عالما بالدين جاهلا بفقه الواقع فلا أنجح في دعوتي ولا بالبيئة المرتحل إليها
2ـ الإنصات التام والاستماع الجيد ، والوعي بالمرحلة والأرض للسابق في الدعوة والعالم بضروبها المطلع على ملابساتها أساس في الدعوة ونجاحها
3ـ لم يقتصر النبي على علم معاذ وبراعته وإحاطته بالحلال والحرام فالمنصرف إليه لا ينشغل بكل ما يعلمه معاذ، بل ينبغي أن ينشغل معاذ نفسه بما لا بد أن يفقهه ليوظف ما عنده في أرض الاغتراب
4ـ معالم في الفهم: أرض أهل الكتاب تختلف عن غيرها فعندهم (شريعة ـ ومقدسات ـ وعقائد ـ وأفكار ـ وموروثات ـ وفهم وثقافة) أبعاد إن لم تراعى لا تنجح الدعوة ولا التعريف بالإسلام
5ـ ترتيب الأولويات دون التقيد بزمن أو استعجال النتيجة أمر ضروري لفهم وتوصيل وثبات الأتباع، وإلا ستكون المهمة شاقة والنتيجة موهومة
6 ـ أهمية التدرج المبني على الاطمئنان على ما تم بيانه وتفعيله، والفطنة لروعة إقرار هذا المنهج المعروف نتيجته.
7ـ عدم الانشغال بالشبهات أو العقبات أو المثيرات مع وقوعها لم يتطرق النبي لها وفي ذلك فوائد:
ـ عدم كثرة النصائح والتحدث بها لمعاذ فقد يغيب عنه بعض من النصيحة
ـ الاهتمام بالقضية الأساسية وعدم الانشغال بالفروع ـ
ـ ترك باب الاجتهاد للعامل والداعية في الملامات وهذا أقره معاذ في حديث آخر حيث قال: أجتهد رأي ولا ألو ـ
ـ تنوع الشبهات وكثرتها واختراعها قد يجعل الكلام فيها مسبقا نوع من الهزيمة المقدمة والحمل الثقيل على صاحب الدعوة.
8ـ الثوابت هو أهم ما يشغل النبي، والمشتركات هي الأساس قدم الأصل ولا تنشغل بالفروع، وما لم يفتح اليوم قد يفتح لك غداً
9ـ استدعاء الهمة واستحضرها في قوله: ” ستأتي ” يتبعها يقظة ، اهتمام ـ استفراغ جهد ـ بصيرة ـ همة عالية ـ جمع للأسباب
10ـ الفاء التعقيبية في الحديث مهمة جدا في عدم التواني والتباطؤ في الاهتمام وعدم التراخي في المهمة.
11ـ الأصل في الدعوة الناجحة هو الاحتكاك المباشر والوقوف على المفارقات لا التنظيرات والأوهام مدلول الحديث يشمله احتكاك مباشر ميداني على أرض الواقع
12ـ الناس متفاوتون في درجات المعرفة تفاوتا بعيدا ولا ريب أن هذه المعرفة ليست كمعرفة المهاجرين والأنصار فهم ابن القيم في مدارج السالكين
13ـ لا يتمتع بالثروات إلا أهل البلاد، ولا تنتقل إلا بين مواطنيها، هدف نبيل، صدق في الدعوة ـ دعوة للرخاء والازدهار للبلد ـ جمال التعايش ـ إقرار الوفاء “
14ـ من عوامل الثمرة الناجحة للداعية عدم التطلع والاستشراف لا للماديات فحسب ولكن لكرائم الأموال فقدم الأعلى والنفيس في عدم التطلع إليه ليكون ما وراءه من باب الأولى
15ـ من أنواع الفقه في الحديث:” فقه الواقع ـ فقه الأولويات ـ فقه الموازنات ـ فقه التدرج ـ فقه المقاصد ـ فقه التعامل ـ فقه الاستيعاب ، وغيره”
16ـ اختيار اليمن له مدلوله الخاص في الطبيعة البشرية والبيئية عين رسول الله على البلاد حوله وإلمامه بطبيعة الشعوب، واختيار الأقرب فالأقرب في الدعوة والتعريف.
17ـ الدعوة بين جناحي النجاح والفشل أمر طبيعي فلا تحكم مسبقا بفشلها فتقعد، وتفتر ، ولا تحكم بنجاحها مسبقا فتتكل وتغر مدلول:” فإن هم أطاعوا لذلك في الحديث”
18ـ العدل من أساسيات الدعوة والحكم، والمتطلعُ إليه لجذب الانتباه وتبني الأفكار والمعتقد ، وأكثر ما يشغل الناس لتعريفهم بالإسلام.
19ـ لا تظن أسبقيتك في الدعوة أو مكانتك العلمية أو خبرتك الميدانية مسوغا لنسيان الثوابت أو تغافل الأصول ولذلك ختم النبي بأمر دعوة المظلوم لتكون أكثر ما يتعلق في الذهن آخر ما يوصى به

20ـ حصر النبي الكلام على الصلاة والزكاة بعد الدخول في الإسلام، دون التطرق لبقية الفرائض، إما تأكيدا لمنهج القرآن بكثرة ذكرهماـ أو لكونها لا يسقطان عند وجوبهما بخلاف غيرهما ـ أو من باب الاهتمام بقضية التدرج ـ أو التأكيد على التواصي بالأولى وبيان أهداف ذلك فإذا حقق النجاح أتبع النبي بمراسلات إلى معاذ بما يأتي بعد ذلك، أو بيان أن الإسلام لا يحمل أتباعه علي الالتزام به كاملا في بداية دعوتهم بل رويدا رويدا ، أو مخافة أن يستعجل معاذ في الثلاثة الأول لإدراك الرابعة والخامسة ، أو لعله أرسله في موعد بعيد عن زمانهما فلا يلزم إشغال الناس بهما الآن …الخ “
21ـ رقة القول واختيار الأسلوب من أهم ما يشغل الداعية
22ـ دائما سفراء الرسول شباب الأمة ( حركة ـ صحوة ـ إمكانيات ـ قدرات ـ همة ـ أمل ـ عطاء …. وعوامل أخرى في النجاح “
23ـ قال:” واتق ” ولم يقل “واحذر ” للكلمة مدلول وغاية فالتقوى هي استفراغ الجهد والسعة في الوصول إلى الغاية ليكون المعنى اجعل الأمر نصب عينيك دائما
24ـ أخوف ما يخاف على الداعية هو انفتاحه على الدنيا أو تحول مساره إلى مغرياتها عندها سيفقد مصدقيته وتتحول همته وتقزم دعوته وتأثيره ، وينجح داعي الشر في مقابله لإفساد ما بناه
25ـ الالتفات من الكلام عن الدعوة والمدعو إلى الكلام للداعية هو ذاك المزيج الرائع في توصيل المراد دون وغارة الصدر أو فقد التوازن.
26ـ الوصية تبدأ بالدعوة وتنتهي بالداعية ( فهم ـ إبصار ـ تكليف ) لن تنج في الأولى إذا لم تلتزم بالثانية
27ـ في قوله : “حين بعثه إلى اليمن ” وصية على سلم الطائرة لتكون أخر ما يتعلق بالذهن، وليفهم منه عظم التكليف المرسل فيه ،وليحفظ المراد ، وليبقى على العهد.
28ـ في قوله : ” وأن محمداً رسول الله ” تكلم عن نفسه كأنه شخص آخر يفهم من وراءه معنى الرسالة في خلد النبي ـ وأساس في الاقتداء ـ وأدب في الحوار ـ ونقل للفظ المتواتر ـ وتعظيم للرسالة “
29ـ مدلولا : “من، وعلى ” في قوله ” من أغنيائهم على فقرائهم” ، بيان عدم الطمع ولا الجباية للأموال من كل الناس بل التبعيض لمن بلغ الواجب فالأخذ ليس هو الهدف الأسمى ولا الحرص التام بخلاف “على ” لبيان الشمولية في العطاء واستقصاء الأفراد والاهتمام بالفئة الغالبة في المجتمع واستمالة للبذل
30ـ الله لا يرضى بالظلم حتى وإن كان كافر ورد الظلم واقع من الله للبشرية جميعا فالمظلوم لم يحدد لا جنسه ولا نوعه ولا دينه ، ولا مذهبه ، مبدأ عام للبشرية أعدل وأنصف وأخش دعوة لمظلوم ولو كان كافراً
والله أعلم.