اقتضاء التأسي بالرسول النبي ﷺ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.
تساؤلات حول بعض مظاهر التأسي بالنبي ﷺ
لا يختلف مسلمان عاقلان في أن اتباع النبي ﷺ باب كلّ خير في الدنيا والاخرة، قال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (النور-54). وقال عزّ من قائل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (الأحزاب-71) وفي حديث البخاري: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى». وكيف لا يكون ذلك وقد جعل الله تعالى طاعته من طاعته: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء-80)
إن الله تعالى اختار لنبيه ﷺ أفضل الصفات والاحوال، مما جعل الصالحين يتعلقون بشخصه وجنابه وكل أحواله، غير أن من الحق معرفة أن سننه على درجات متفاوتة، فسنة قيام الليل وبذل المال للمسكين أعظم درجة من سنة الاضطجاع على اليمين.
كنت في أوقات كثيرة أتساءل عن بعض أسباب مظاهر القسوة في بعض من يشدد على إخوانه في اتباع ظاهر السنة (وهو من الخير) ويجعله هو كلّ السنة، في حين يخالف السنة في طريقة الدعوة إليها وفي بعض أهمّ فروعها وكأن السنة لا تشمل الاقوال والافعال والاحوال، في حين أنها أرقى مظهر قرآني إنساني تجسّد في شخصه كما وصفته أمنا عائشة رضي الله عنها فيما رواه أحمد أنه: «كان خلقه القرآن».
تساؤلات كانت تراودني من خلال ما أراه من خلاف بين أهل المذهب الواحد بين أهل السنة التي بعث صاحبها للائتلاف. ولما كنت أنظر الى أهل الضفة الأخرى من الشيعة وأرى كيف يدّعي كل فريق من المذهبين تعلقه بالنبي ﷺ كنت أتساءل عن إمكانية أن نجد في كليهما من هو على نهج النبي ومن هو مخالفه له ولو أتى بكل ادعاءاته.
وَكُلُّ يَدَّعِي وَصْلاً بِلَيْلَى **** وَلَيْلَى لَا تُقِرُّ لَهُمْ بِذَاكَا
لا أبتغي بكلماتي هذه إرضاء أحد ولا إغاظته، ولا انتصارا لمذهب أو طائفة، وإنما أسطّرها إبراءً لذمتي أمام الواحد الصمد، الذي لن ينفعني يوم الحساب أمامه أحد، ونصحا لعامة المسلمين وأئمتهم من خلال تدبر آية تخاطب كل مسلم يبتغي اتباع النبي الاعظم. والدين النصيحة وهي عامة لكل مسلم كما صحّ في حديث مسلم، والأصل في النصح الصفاء وعدم الغش، وقد عرّف الجرجانِيُّ النصيحة أنها: «الدُّعاء إلى ما فيه الصَّلاح، والنهي عمَّا فيه الفساد»، وعليه فإني أعلنها: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود - 88).
رجل خدم لله كلّ الأمة فصلّت عليه لله كلّ الأمة
لقد كان الباعث على كتابة هذا السطور ما لوحظ وقرئ وسُمع من تعليقات بعض المنتسبين لأهل العلم من المسلمين على شهادة رجل وأيّ رجل، عاش لله فاستأهل الشهادة في سبيل الله، كما نحسبه ولا نزكيه على الله، إنه الرجل الشهيد ذو النفس الأبية أبو العبد إسماعيل هنية عليه رحمات الله الأبدية.
لا أريد الدخول في نقاشات مذهبية أو طائفية أو حتى سياسية، لأن مجالها غير هذه الصفحات. لكني أستغرب أيما استغراب أن ينزعج البعض لاستشهاد من لا خلاف على صدقه وحسن تديّنه في أرض هي من بلاد المسلمين، ولا عزاء للتكفيرين، وكأنهم يعترضون على الله الذي يتوفى الأنفس حين موتها وهو القائل : {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (لقمان - 34). كأني بهم لو كان قُدّر للرجل أن مات في أرض أوروبية لسكت بعضهم لأنه ما مات في نظره بأرض الأعداء! ولتحنّن بعضهم عليه فتفضل قائلا : هو من الشهداء، مستدلا بالآية المئة من سورة النساء بأنه قد وقع أجره على الله لأنه خرج إلى هذه الأرض خدمةً لدين الله. وكأن الرجل لمّا مات بأرض لا تعجبهم كان كمن خرج إليها لخدمة أعداء الله! {إِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج - 46).
ثمّ انبرى بعض من استسلم للقدَر وعرف أن ما ينفع معه الحذر، فحكم ببطلان الصلاة على الشهيد ممن مدّ له بحقٍّ يد العون لأنهم ممن كفر! أو ممن ضلّ الطريق فصلى صلاة لا تصحّ في الأثر. لا كلام هنا مع من عمّم فاتّهم القوم وكفّر، ولكن نقول لمن يبطل الصلاة لظاهرها: ما هكذا تُحرّر المسائل لأن الأصل في صلاة الجنازة الدعاء للميت بعد حمد الله والصلاة على نبيه ﷺ وهم المتحقق في صلاة القوم، على أنها واردة في مظان الفقه الإسلامي الواسع لمن له نظر وأسعفه الفهم.
كان الأولى بمن ينتسب للعلم وأهله أن ينظر في نفسه ويحاسبها على ما قدّم لأمته لا أن يختبئ وراء مظاهر وملابسات جنائز مجاهديها ممن هم فوق كل اتهام، وبأن يغبط الشهيد هنية على شهادته الصادقة الدالة على حسن الطوية، والتي ساق الله بها درسا للأمة لأنه رجل خدم لله كلّ الأمة فصلّت عليه لله كلّ الأمة. وأعظم به من درس!
يجمل بأحدنا أن يذيّل لكتاب ابن الجوزي رحمه الله «تلبيس إبليس» بفصل عن تلبيسه على الطائفيين الخادمين للصهاينة أعداء الدين أو يؤلف في الموضوع كتابه فينسج على منواله.
التأسي بين السياق و الاقتضاء
قال الله تعالى : {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } (الأحزاب -21).
نقف بعون الله على بعض دروس هذه الآية من خلال سياقها وكلماتها فنقول بإجمال:
- وردت هذه الآية في سياق الحديث عن غزوة الخندق الذي اقترح حفره سيدنا سلمان الفارسي رضي الله عنه لردّ الأحزاب الكافرة التي تداعت على المسلمين على تُخوم المدينة النورة في عهد النبوة. وصفت السورة بعمق أحداث غزوة الأحزاب كما ذكرت باقتضاب شدة ابتلاء المؤمنين فيها بأن زلزلوا زلزالا شديدا، ثم فصّلت في الحديث عن خسّة وتآمر المنافقين القائلين: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا. من المعلوم أن «العبرة بعموم اللفظ لا لخصوص السبب» وأن القرآن يقصد من خلال سرد الوقائع والتعليق عليها إلى تربية المؤمنين وهدايتهم إلى أهدى السبل للثبات على الحق عند الأحداث الأليمة التي تتكرّر في تاريخ الأمة. لقد كان أول المخاطبين بالآية هم المسلمون الأولون الذين أحيط بهم من كلّ جانب، وكان النبي ﷺ قد بشرهم بالنصر فما كان فعل المنافقين إلا التثبيط والتشكيك في وعد الله ورسوله، فثبّت الله قلوب المؤمنين بعد أن زلزلت في البداية، لمّا اتبعوا وتأسوا بالرسول ﷺ وسلّموا تسليما.
- إنه رسول الله ﷺ الأسوة الحسنة التي لا تدانيها أسوة، حسنة في كل أبعادها، وقد تستلزم في ظرفٍ ما لا يطاق في غيره لكنها تبقى حسنة في نتائجها بيقين. ذكر القرطبي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال في الآية: «وردت في جوع النبي ﷺ». وفي هذا تذكير لمن لا يتحمّل هذه الإسوة في الأوقات العصيبة ويتهرّب من واجب البذل والنصرة لمن أبيد وجُوِّع لدفاعه عن الأمة كما هو الحال في وقتنا مع أهل غزة سادةِ الأمة، رفع الله عنهم هذه الغمة. يبقى الحُسن الصفة الثابتة لهذه الأسوة، فهي حسنة ظاهرُها جميل كباطنِها، تُطمئن قلوب المؤمنين وتجمع شملهم وتقرّب بعيدهم وترحم ضعيفهم وتعلّم جاهلهم وتقوّي شوكتهم وتنصر مجاهدهم ولا تبخس الناس أشياءهم. وكلّ ما خالف ذلك فإن الرسول ﷺ وسنَته منه براء.
- وهي أسوة حسنة لا يقدر على التحلي بها إلا من كان يرجو الله وحده و جعله مقصوده دون غيره. وعلامة ذلك أن يقبل الحق من أي جهة بلغه، لا يلتفت إلى نفسه ولا إلى شيخه أو مذهبه ولا إلى عشيرته وبلده وطائفته. لأن هذه كلها أسماء وصور تنمحي أمام الحق وسلطانه، وإنها لكبيرة إلا على الصادقين في اتباع رسول الله ﷺ الذي كان لا يرضي أحدا بسخط الله سبحانه، فحريّ بأتباعه ومن رام اقتفاء أثره أن يوحّد القبلة ويُسلم وجهه لله وحده. {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ} (طه - 73).
- أسوة لمن يرجو الآخرة لا الدنيا لأنه قد يبتغي بدينه دنياه أو دنيا الناس، والمرجوّ أن يحتسب أعماله عند ربه ويرجو ثوابه في آخرته لأنها هي دار الجزاء. ومن ثواب الدنيا الالتفات إلى الناس والتماس مدحهم والخوف من ذمّهم. إن الارتباط بالدنيا مثبّط ومُثقل للعبد بشدّه إلى الأرض لا إلى السماء، ولا يستثتى منه عبد ولو كان من العلماء إذا أخلد إلى الأرض واتبع هواه، لأنه حينئذ لا ينفعه ما حفظه ووعاه، إذ من خصوصية وحي السماء ألا يَنزل بحامله إلى الأرض بل يرفعه إلى السماء. وما كان ينبغي لمن أراد اتباع رسول الله ﷺ أن يبتغي بدينه عَرَضَ الدنيا ويستعجل فيها ما جُعل ثوابا في الآخرة عند الله. عندما يعزم القلب على هذا تأتي ثمرات فعله في الدنيا من فضل الله تبعا إذ لم تقصد أصلا.
- ولمن ذكر الله كثيرا، لا قليلا، لكثرة مستلزمات الطريق الطويل الموصل إلى الله وإلى عزة أمة رسول الله ﷺ ولفتنة الصوارف عن الله واليوم الآخر. وهذا باب آخر يرجى تأمله للحاجة الماسّة إليه ولمزايلة المنافقين -وهم جزء من سياق الآية- في وصفهم أنهم {َلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (النساء - 142).
أصحاب هذه الصفات هم أتباع الرسول ﷺ حقا، الذين خلصت نيتهم لله وحده راجيةً لقاءَه وثوابَه، متعلقة به ذاكرة ًله. هم الذين يثبتون عند الخطوب المدلهمات لأنهم موقنون أن من تمام التحقق بالسنّة أن يكون لهم موقع قول و فعل في ميدان التدافع بين أهل الحق و الباطل بأخذ الأسباب مع اليقين بوعد الله، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج - 40) {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الروم - 47)، كما ثبت الصحابة رضي الله عنهم بعدما زلزلوا في البداية تمّ سلّموا واثقين بوعد الله و رسوله كما وُصفوا بعد آية التأسي: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (الأحزاب -22)، ثم زاد الله تعالى أن وصف بعضهم : {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا. لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا } (الأحزاب –24-23)
لا نظن الشهيد أبا العبد هنيةَ ورفيقَه وكلَّ إخوانِه ممن سار على دربه إلا رجالا من هؤلاء، رحم الله منهم السابق وثبّت اللاحق ومنّ علينا بشهادة في موكبهم ونجّانا من كل منافق. آمين
في الختام أذكّر نفسي وكلّ إخواني أن المعوّل عليه يوم لقاء الله ليس الانتماء إلى المذهب الطائفي السني أو الشيعي ولا الفقهي ولا الحزبي الحركي، وإنما الإيمان والعمل الصالح، وخلاصتهما ميدان التقوى، {وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} (35)، {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ} (32).
الشيخ عبد الجليل حمداوي