غزوة بدر الكبرى: دروس وعبر
ليست السيرة النبوية مجرد وقائع تاريخية ولى زمانها، ولا ذكريات من أجل التغني بأمجاد الماضي، بل هي مدرسة بما فيها من دروس وعبر.
ليست السيرة النبوية مجرد وقائع تاريخية ولى زمانها، ولا ذكريات من أجل التغني بأمجاد الماضي، بل هي مدرسة بما فيها من دروس وعبر، يستمد منها المسلمون زاد مسيرهم جيلا بعد جيل. فمن خلال صفحات السيرة النبوية يقف المسلم على حقائق الإسلام الكبرى مجسدة في حياة رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) باعتباره القدوة الحسنة للمؤمنين في كل زمان ومكان، قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}.
وقد حفلت معركة بدر بدروس نافعة وعبر عظيمة، من أهمها:
- أهمية التربية في إعداد جيل النصر المنشود: إن غزوة بدر لا يمكن عزلها عما قبلها، فالسنوات الأولى للدعوة، كانت كافية لتربية جيل الصحابة رضي الله عنهم على مبادئ الإسلام وقواعده المتينة، فكانوا بحق مؤمنين ربانيين عقيدة وفهما وعملا. فمن مقومات جيل النصر المنشود أن يأخذ حظه كاملا من التربية والتكوين، وبدون ذلك نكون قد تجاوزنا الخطوة الأولى التي تمثل الدعامة الأساسية في بناء الصف المسلم.
- إن الإخلاص والصدق من أهم أسباب النصر والتمكين، قال تعالى: ﴿ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾، وإنما نصر الله أهل بدر بما حملت قلوبهم من صدق وإخلاص، رغم قله عددهم وعٌدتهم. وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا رسول الله، أرأيت الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". فإخلاص النية لله تعالى وابتغاء مرضاته شرط أساسي لمن أراد أن يرزقه تأييده ونصره: {ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورياء الناس..}. وقديما قال ابن الجوزي رحمه الله: (إنما يتعثر من لم يخلص)، وقال الإمام الشهيد رحمه الله: (الإخلاص أساس النجاح).
- بيان أهمية الدعاء في حياة المُسلم، وأنّه جزءٌ مهم من أسباب النصر، فقد أنزل الله ألفاً من الملائكة تُقاتل مع الصحابة في غزوة بدر بعد تضرعهم ودعائهم، قال تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ). عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: لمَّا كان يومُ بدْر نظر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثُمائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبيُّ الله -صلى الله عليه وسلم- القبلةَ، ثم مدَّ يديْه، فجعل يَهْتِف بربِّه: «اللهمَّ أَنْجِزْ لي ما وعدْتَني، اللهم آتِ ما وعدْتَني، اللهمَّ إنْ تَهْلِك هذه العِصابةُ من أهْل الإسلام لا تُعْبَد في الأرض»، فما زال يَهْتِف بربِّه، مادًّا يديْه مستقبلَ القِبلة، حتى سقط رِداؤه عن مَنْكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رِداءه، فألقاه على مَنْكبيه، ثم التَزَمه مِن وَرَائه، وقال: يا نبيَّ الله، كفاك مناشَدَتَك ربَّك، فإنَّه سيُنْجِز لك ما وعَدَك، فأنزل الله -عز وجل: {إذ تستغيثون ربَّكم فاستجاب لكم أنِّي مُمِدُّكم بألف من الملائكة مُرْدِفين} [الأنفال: 9]. وإذا كان الدعاء مطلوب لعموم الخلق فإن الدعاة إلى الله تعالى أحوج إليه من غيرهم، لما يجدونه في طريقهم من تحديات وهموم، ولحاجتهم المستمرة لعون الله وحسن توفيقه. قال ابن القيم رحمه الله: "الدعاء من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب، وهو من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء يدافعه، ويعالجه ويمنع نزوله ويرفعه، أو يخفضه إذا نزل".
- إن الشعور بمعية الله والمداومة على ذكره يكسب المؤمن قوة روحية عظيمة، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون}، فكلما ضاقت السبل وعظم البلاء تذكر قوله تعالى: {لا تحزن، إن الله معنا} {قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ}. إن استحضار معية الله سبحانه وتعالى في جميع الأحوال هو منهج الأنبياء، وشعار الصالحين، ودأب المخلصين. فما أحوجنا اليوم إلى اللجوء إليه سبحانه وتعالى، التماسا لمدده وعونه، وهو نعم المولى ونعم النصير، مستحضرين قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}.
- والشعور بمعية الله يذكرنا بحسن التوكل عليه، وهو من أهم أسباب النجاح والتوفيق في حياة المسلم. قال تعالى: ﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران: 160]. وفي غزوة بدر نصر الله المؤمنين بصدقهم وتوكلهم عليه رغم قلة عددهم وعُدتهم، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَٱتَّقُوٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123]، وهٌزموا يوم حنين حينما أُعجبوا بعددهم وعُدتهم: { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } [التوبة: 25]. فبعد الإعداد والأخذ بالأسباب يكون المؤمن على يقين تامٍّ أن الأمر كله بيد الله، وعليه فليتوكل المؤمنون.
- أهمية التخطيط والأخذ بالأسباب: مع حسن التوكل واليقين في نصر الله، لابد للمسلم أن يأخذ بالأسباب على الوجه الأكمل: فقد أخذ رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بكلِّ ما في وُسْعه من أسباب؛ رغم كمال توكله على الله، ويقينه في نصره. وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين هذين الأصلين في الحديث الصحيح، حيث يقول: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز). ودعاة الإسلام اليوم مطالبون بأن يحسنوا الأخذ بالأسباب المناسبة لعصرهم والمجتمعات التي يعيشون فيها، مع جميل التوكل على الله واليقين في نصره وتأييده لعباده المؤمنين.
- 7- بعد انتصار المؤمنين يوم بدر، أراد الحق سبحانه وتعالى أن يذكرهم بأن النصر والتمكين نعمة منه يقر بها أعين عباده المخلصين، فلا مجال لغرور ولا عٌجب مع نشوة النصر. قال تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ، وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ، وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الانفال: 17] {وَمَا جَعَلَهُ اللَّـهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ ۗ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّـهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126].
- من شروط النصر والتمكين التزام الصبر والتقوى {بَلَىٰ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ..} فالصبر نصف الإيمان، والتقوى عماد الدين كله، وإنما يتقبل الله من المتقين. والتقوى والصبر متلازمان لا يقوم أحدهما إلا بالآخر، قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] [آل عمران:200]. وما أحوجنا اليوم إلى دعاة ربانيين يجمعون بين التقوى والصبر معاً، ولا سبيل لتحقيق التقوى على الوجه الذي يرضي ربنا تبارك وتعالى إلا بالصبر، ولا سبيل للنصر والتوفيق إلا بالصبر مع التقوى.
- وبعد قوة العقيدة تأتي قوة الأخوة بين المؤمنين والتآلف بين قلوبهم، وهذه نعمة من الله ومن أهم أسباب النصر، يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿... هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ (الأنفال: 62 - 64). ولقد مَنَّ الله على عباده المؤمنين بهذه النعمة وهو ينهاهم عن ضدها: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ (آل عمران). إنَّ الدعاة إلى الله في حاجةٍ ماسةٍ لتجديد معاني الأخوة الإيمانية في حياتهم حتى تتوثق أواصر الوحدة بينهم، فلا تذهب ريحهم وتتشتت جهودهم. ولنا في رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الاسوة الحسنة حين آخى بين المهاجرين والأنصار كخطوةٍ أساسيةٍ بعد ترسيخ الإيمان في قلوب المؤمنين. لقد أقام النبي (صلى الله عليه وسلم) المجتمع الإسلامي الأول على دعامتين: الإيمان بالله، والأخوة في الله، وعليهما يقوم بناء جماعة المسلمين أينما كانوا.
- إن الصحابة رضي الله عنهم ضحوا بكل غال ونفيس فداء لهذا الدين العظيم الذي أكرمهم الله به، تركوا أموالهم وديارهم، وهاجروا بدينهم إلى طيبة، لا يملكون شيئا من متاع الدنيا، حتى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما رأى حالة فقرهم الشديدة قال: (اللهم إنهم جياع فأطعمهم، وعراة فاكسهم، وحفاة فاحملهم). فليعلم دعاة الإسلام أن هذه الدعوة لا يصلح لها إلا من حاطها من كل جوانبها، ووهب لها ما تكلفه إياه من نفسه وماله ووقته وصحته. (ولا تنجح الفكرة إلا إذا قوى الإيمان بها وتوفر الإخلاص في سبيلها وازدادت الحماسة لها ووجد الاستعداد الذي يحمل على التضحية والعمل لتحقيقها) وعلى قدر النية والجهد يكون التوفيق في الدنيا، والجزاء عند المنعم في جناد الخلد إن شاء الله.
- التأكيد على مبدأ الشورى في حياة الجماعة المسلمة: فهذا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو المؤيّد بالوحي من ربه يستشير أصحابه في غزوة بدر أربع مرّات، ليؤكد لنا أن الشورى سنة نبوية ثابتة ومبدأ قرآني لا غنى عنه، وأساس كل نظام ينتمي للإسلام أو يرفع شعاره. قال تعالى " وشاورهم في الأمر " هذا خلق الحبيب صلى الله عليه وسلم بعثه الله به، وعلى أتباعه أن يتخلقوا به.
هذه بعض الدروس والعبر المستفادة من ذكرى غزوة بدر، نسأل الله تعالى أن ينفعنا بها، وأن يوفقنا لتحقيق معانيها في أنفسنا، وأن يبارك لنا في ما بقي من رمضان ويرزقنا فيه التوفيق والقبول والغفران، آمين.
بقلم الشيخ: عبد المجيد نوّار
- الكلمات الدلالية
عبد المجيد نوّار