طوفان الأقصى ومعجزة الإيمان

الشيخ الهادي بريك

الشيخ الهادي بريك

الحقّ أنّ ما فجّره (طوفان الأقصى) من مدفونات في مكنونات الصّدور (صدور الغربيين المنصفين قبل غيرهم) وفي الآفاق إنّما هي معجزات بالتّعبير الشّعبيّ العامّ. أي آيات بالتّعبير الإسلاميّ. أو علامات وأمارات على أنّ الإيمان الحقّ بالله سبحانه وبما رسّخ في كتابه الخالد الأخير هو (الصّندوق الأبيض) الذي لا تنفد عجائبه.

منذ أسابيع ستّة منصرمة شدّت الأرض كلّها شدّا إلى (غزّة) التي لا تساوي جغرافيا عشر معشار جزء واحد من مليارات الأجزاء من مساحة الأرض. حتّى بعض الغربيين المنصفين شهدوا بما رأوا وقالوا أنّ هذا الذي يحرّك هؤلاء الفتية الأشباح إنّما هو الإيمان. ولا شيء غير الإيمان. طوفان الأقصى دوّخ النّاس كلّهم تدويخا عجيبًا. وقف المحلّلون العسكريّون والسّياسيّون مشدوهين.

توقّفت المعادلات المادّية أن تفسّر هذا السرّ الذي حيّر النّاس كلّهم. لأوّل مرّة منذ نكبة مايو 1948 يقف النّاس على الفرية السّافلة التي جعلت (شعب الله المختار) قوّة لا تقهر. لم تتردّد أعتى المحطّات الفضائية (س إن إن مثلًا) في معالجة تلك الفرية في مقابلة مباشرة مع وزير العدوّ. حتّى الفلاسفة الذين عادة ما لا يعالجون المعارك العسكرية بما يظلّون فيه من سبحات في تجلّيات النّظر (خرجوا عن صمتهم بالتّعبير الإعلاميّ المعاصر البليد) وفسّروا هذا السّر الأعظم (طوفان الأقصى) أنّه حدث كائنيّ أعظم يتجاوز الجغرافيا وتوازناتها والتّاريخ ومحطّاته ليلتحم بالمنعرجات العظمى التي تبدأ في تغييرات كبرى أو تعانق ملاحم سابقة (ذلك ما حرّره الفيلسوف المغربيّ الأشهر طه عبد الرّحمن ومثله الفيلسوف التّونسيّ أبو يعرب المرزوقيّ).

وبالخلاصة فما ضلّ في حسن تأويل أسرار هذا الطّوفان عدا صنفين من النّاس: المشعوذون من المسلمين الذين يتقمّصون زورًا أردية الإمامة والمشيخة (مقرئ الحرم المكّيّ مثلا عبد الرّحمان السّديس الذي نعى على المقاومة أنّها لم تستشر ولاة الأمر قبل القيام بطوفانها في ذلك اليوم الخالد 7 أكتوبر. ومثله خطيب مسجد قباء الذي ثبت فيه حديث صحيح أنّ من صلّى فيه ركعتين فله بها ثواب عمرة. وغيرهما من القراد الخبيث الذي يستوطن سفوح الملوك ويشرب منها قذى وصديدًا. ومثلهم الذين يوغلون في التّأويلات الغيبية ليكون هذا الطّوفان هو المهدي المنتظر.

ولا يبخل علينا كثير من هؤلاء أنّه رأى النّبيّ محمّدًا عليه الصّلاة والسّلام وبشره في منامه بهذا). الصّنف الثّاني ممّن تنكّبوا الحقّ في هذا الطّوفان هم أذناب الاحتلال أنفسهم من الحكّام والأمراء والملوك ممّن قال فيهم سبحانه (يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة). والحقّ الذي لا مراء فيه لمن يتدبّر الكتاب الخالد الأخير أنّ للإيمان الحقّ ذي الهوية القرآنية والنّكهة النّبوية والمعالجة الرّاشدية معجزة بل معجزات.

معجزات لم تتخلّف عن أيّ فصل من فصول المقاومة في هذه الأمّة. من ذلك أنّ الله وعد الذي يقاوم دون حرّيته وكرامته وبيضة وطنه ـ مقبلًا غير مدبر صابرًا محتسبًا غير متبرّم ساخط موقنًا بما عند الله سبحانه ـ بانقلاب الموازين المادية رأسا على عقب حتّى لو كان قليل العدد والعدّة في وجه (قوّة لا تقهر) أو موازين منخرمة بالكلّية إلى جهة تلك القوّة التي تهابها الأرض ومن فيها إرهابًا.

جاء هذا المعنى تعقيبا على معركة طالوت ضدّ جالوت في سورة البقرة. إذ قالت الفئة المؤمنة قليلة العدد والعدّة معا من جنود طالوت لمّا رأوا بأس جالوت بأعينهم لحمًا ودمًا (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصّابرين). تلك هي شروط الانقلاب في الموازين المادية: الظنّ اعتقادًا راسخًا ويقينًا مكينًا في ملاقاة الله سبحانه. أي يوم القيامة (الإيمان الحقّ باليوم الآخر) ومقارفة الصّبر صبرًا ومصابرة واصطبارًا وتجلّدًا.

ولكنّه صبر المقاومين الموقنين بالله اليائسين من كلّ حظوظ الدّنيا وحطام الكذّابين فيها وفتات مترفيها. وليس هو صبر العجزة المغلوبين الرّاضين بحال المغلوبية ووضع المهزومية. وعندما يجمع المقاومون كلا الشّرطين (اليقين في اليوم الآخر وصبر المقاومين لا القاعدين) يأذن الله سبحانه بذلك الانقلاب. فتهزم الفئة القليلة الفئة الكثيرة عددًا وعدّة معًا. لأجل ذلك قصّ الله القصص.

ووقع ذلك مرّات في حياته عليه الصّلاة والسّلام. يوم الأحزاب مثلًا حيث أحاط العدوّ بالمدينة الصّغيرة على حين غرّة من كلّ صوب وحدب وبلغت القلوب الحناجر. ويوم حنين مثلًا آخر حيث شتّت جيشه عليه الصّلاة والسّلام بادئ الأمر كلّ تشتّت بسبب الكمين المفاجئ. وغير ذلك ممّا هو معلوم في سيرته عليه الصّلاة والسّلام. ومثل ذلك في التّاريخ الإسلاميّ عشرات وعشرات

الإيمان آية لمن يتّبع الأسباب

الحقّ أنّ قيمة الإيمان فينا يشوبها الذي يشوبها ممّا مرّغناها فيه من أوحال تسلّلت إلينا من أعراف وتقاليد وعادات حتّى أضحت عاهات فكرية ثقيلة معيقة. من تلك المثبّطات اعتقادنا أنّ الإيمان عقيدة فحسب كاف وضاف. وهذا خطأ فادح لم يتردّد في علاجه السّلف الذي منّ الله عليهم بالفقه والعلم وخبرة الحياة. وذلك عندما أكّدوا أنّ الإيمان عقيدة وعمل. الذين جعلوا فريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أساسًا من الأسس وركنا من الأركان لم يتنكّبوا صوابًا. بل قالوا حقًّا. من عجائب نظم الكتاب العزيز أنّه يشيّد القيمة الواحدة (الجهاد مثلا) في صياغات كثيرة.

منها الدّعوة إلى الله والأمر بالخير والمعروف والنّهي عن المنكر وغير ذلك. ما كان لذي القرنين أن يكون قدوة في الكتاب الخالد الأخير لو أنّه لم يتبع السّبب. كما ورد ذلك مرّات في قصّته. قوّته لم تكن كافية مهما عظمت ليطوف بين مغرب الشّمس ومطلعها مرورًا بين السّدين. حتّى النّبيّ سليمان نفسه ـ وهو مؤيّد بالوحي قطعًا ـ ما كان له أن يؤتى بعرش بلقيس لو أنّه لم يتبع سببًا دعا فيه ملأه إلى ذلك.

عفريت الجنّ الذي عوّل على قوّته المادية فحسب (وإنّي عليه لقويّ أمين) لم يكن مؤهّلًا لذلك حتّى جاء (الذي عنده من الكتاب) فجمع بين ما جمعه موسى عليه السّلام في مدين (القويّ الأمين) وما جمعه يوسف عليه السّلام (حفيظٌ عليم). ولم تتردّد أقدار الرّحمن سبحانه أن قضت بالهزيمة العسكرية الثّقيلة على أصحاب محمّد عليه الصّلاة والسّلام في عدوان (أحد) بسبب إهمال سبب من أسباب القوّة. وهي طاعة قائد المعركة علاقة بوضع الرّماة المعروف

المقاومة وأسباب القوّة

المقصود من ذلك هو أنّ إيمان أهل المقاومة في غزّة ما كان ليحسم المعركة وحده لو ظلّ إيمانًا مثل إيماننا. أي إيمان الدّراويش الذين يظنّون أنّ الرّؤى المنامية تحسم معركة أو الاستنجاد ببعض الأخبار (المهدي المنتظر مثلا) يفعل ذلك أو أنّ الملائكة تتنزّل على قوم لا يؤمنون بالأسباب المادية أو يؤمنون بها ولكن لا يعدّون منها ما استطاعوا. أو أنّ الله ينصر المؤمنين بسبب إيمانهم فحسب حتّى لو عصوه تفريطًا في تتبّع الأسباب.

من الأسباب التي أخذت بها المقاومة: الانفصال عن (رام الله) بمعنى الانفصال عن منظمة نشأت مقاومة عام 1965 ثمّ سرعان ما احتواها عدوّها يوما من بعد يوم بوعود كاذبة حتّى انتهى بها المطاف البئيس التّعيس إلى أن تكون محايدة في جولة من جولات المعركة التّحريرية مثل جولة طوفان الأقصى. من العبر العظمى من مدرسة الحياة أنّ (من يؤمن بالله يهد قلبه) وذلك يعني أنّ الانفصال من لدن (حماس) عام 2006 لم يكن خيارًا مقنعًا مهما كان الاختلاف مع (فتح).

ولكن في بعض الأحيان يتّبع المؤمن الخالص المؤيّد بروح من الله سبحانه خطوة غير مقنعة في عيون النّاس. حتّى بعيون الأصدقاء. ولكنّ الله يهدي المصلحين إليها وتظلّ الأيّام كفيلة بتصديق ذلك. هل كان سيولد (طوفان الأقصى) لو ظلّت المقاومة تحت جناح(فتح)؟ طبعا لا. هو انفصال مقاومة عن ركون. ومن ذا بارك الله فيه كلّ بركة. ومن أسباب القوّة كذلك: إنشاء حاضرة تحت الأرض. وهو ما عبّر عنه بالأنفاق. حفر الأنفاق معجزة من المعجزات التي تحيل إلى الخندق الذي حمى الله به المدينة من قريش وغطفان يوم الأحزاب. المسلمون هم الذين حفروا ذلك الخندق في ساعات معدودات بأظافرهم وأناملهم.

وليس بحفّارات كهربائية معاصرة. مثل ذلك حفرت المقاومة أنفاقها الأرضية التّحتية يقينا منها أنّ العدوّ لن يضنّ على الأرض بأمطار من النّيران لا يهدأ لها أورًا لا بليل ولا بنهار ولا بضحى ولا بعشيّ. ألم يصدق يقين المقاومة؟ كيف حفروا حاضرة أخرى احتياطية تحت قطاع غزّة؟ مؤكّد أنّ الملائكة لم تحفره. ولم تكن لهم من الإمكانات ما لغيرهم في أفقر بلاد على وجه الأرض. حفروه بأنامل الإيمان وأظافر اليقين. وربّما سكبوا فيه من العرق والدّماء الذي سكبوا.

ماذا لو لم تحفر المقاومة أنفاقها؟ أليست تكون فريسة للقصف الجويّ الإسرائيليّ لتستحيل في غضون دقائق معدودات عصفًا مأكولًا؟ مؤكّد أنّه حفر صامت لا تعلم به لا دولة مصر ولا الأردن ولا غيرهما. أرأيت كيف تكون العذابات دون بيضة الأرض؟ لا عليك ألاّ ترى ذلك لأنّ القاعدين ـ وأنا منهم ـ لا يمكن لهم أن يروا ذلك. ماذا لو تعبّأ أهل الفنون فينا ـ لمن مازال منّا يؤمن بأنّ الفنون كلمات رصاصية أشدّ سمًّا ضدّ العدوّ من النّبال والنّصال ـ بتأليف قطع فنية جميلة تحكي حفر الأنفاق؟ عندما يكون ذلك أظنّ أنّ الله سيهدي من يشاء ليدخل النّاس في دينه أفواجًا.

ومن أسباب القوّة كذلك: طرق أسباب القوّة العسكرية قدر المستطاع بمثل ما رأينا على امتداد ثلاثة عقود (من عام 1987 حيث التفّت مجموعة صغيرة من الأطفال حول من أسمّيه سيّد شهداء العصر أحمد ياسين وكان سلاحها الحجارة. ولا شيء غير الحجارة. حجارة في وجه أعتى قوّة لا تقهر. هو خبر لمن يجيء بعدنا لا يمكن تصديقه. حتّى عام 2023 حيث صنعت المقاومة بأولئك الأطفال أنفسهم صواريخ راجمات وطائرات في شكل درّاجات). تطوّرات مدوّخة بكلّ معاني التّدويخ

خلاصة

ذلك هو معنى هذه المقالة: عندما يعلق الإيمان الحقّ ـ وليس إيماننا نحن قطعا مقطوعا ـ بجدر الأرحام فيطعم يقينا ويتبع ما استطاع من أسباب القوّة المادية فإنّ صاحبه منصور بإذن الله سبحانه. لا شيء من معطيات المادّة الأرضية والمادّة العلمية كما تدرّسها الكلّيات الحربية يوحي بأنّ فئة قليلة العدد والعدّة معا ـ محاصرة تجويعًا وتخويفًا من كلّ الجهات وعلى امتداد زهاء عقدين كاملين ـ يمكن أن تقهر فئة كثيرة عددا وعدّة ومدعومة من أعتى التّحالفات العسكرية.

لو لم يمكن لطوفان الأقصى عدا هذا الفضل ـ الذي تعلّمنا منه أنّ الإيمان عندما يكون كما يريده الله لكفيل بجلب النّصر واستدراج الفتح وتسطير آيات الخلود وترسيخ بطولات أسطورية ما عهدناها عدا عند الصّحابة الكرام ـ لكان فضله على النّاس بفضل الله عظيمًا. ولكنّ الإيمان الحقّ الإيجابيّ ليس حكرًا على الصّحابة الكرام حتّى لو كانوا هم أوّل من علّموا النّاس أنّ الإيمان آية عظمى عندما يأخذ منها المؤمن كلّ ما يمكن له أن يأخذ منها.

علينا بهذا الدّرس الأغلى: إذا قال لنا المخلّفون القاعدون (نخشى أن تصيبنا دائرة) نقول لهم (عسى الله أن يأتي بالفتح أو بأمر من عنده). هو فتح رأيناه بأعيننا. وهو أمر منه وحده سبحانه شهدناه بأنفسنا. وهل يرتدّ على دبره ناكصًا من يرى بأمّ عينيه ذلك؟ طوفان الأقصى أقام علينا الحجّة بيّنة بالغة.

طوفان الأقصى علّمنا أنّ رأسمال الإيمان الحقّ هو السّلاح الأعتى الذي يدكّ المعتدي دكًّا كائنًا ما كانت قوّة ذلك المعتدي. طوفان الأقصى معجزة قرآنية جديدة تعيد تسطير ما فعله طالوت وجنوده بإذن الله لمّا صبروا وآمنوا حقّ الإيمان بجالوت وجنوده. معيار حياة هذه الأمّة عندي هو: إذا احتفلنا بأيّ صورة من صور الاحتفال والإحياء بذكرى 7 أكتوبر من كلّ عام جديد فإنّه لنا أن نطمع من الله وحده بأيدي المقاومة بنصر جديد وفتح جديد. فإن طوينا ذكرى 7 أكتوبر فإنّنا مهدّدون بالاستبدال الإلهيّ.

بقلم الشيخ: الهادي بريك

اقرأ أيضًا: بدل تعويق الحج لأجل (غزة) تعجيل الزكاة