مسلمو أوروبا وطوفان الأقصى: أي موقف وأي دور

الشيخ الهادي بريك

الشيخ الهادي بريك

إنّما الميزان صناعة موقف مبناه العلم والحكمة يلبّي مقتضيات الانتماءين (الانتماء إلى أمّة الإسلام وإلى الدولة الأوروبية) فلا طغيان ولا إخسار. الموقف العقديّ تكفّل ببيانه الكتاب الكريم الذي أنزل جنبا إلى جنب مع الميزان. إنّما الدّور العمليّ تنزيلا لذلك الموقف يحتاج إلى حكمة.

مقوّمات ذلك الموقف وهذا الدّور:

1- تعرّض الوطن الفلسطينيّ على امتداد ثلاثة أرباع قرن كامل إلى سلسلة من المحارق التي لم يراع فيها أيّ إلّ ولا ذمّة من قِبل الاحتلال الذي أراد منذ اليوم الأوّل أن يكون استيطانيا إحلاليا. ولذلك قام منذ 1948 على تشريد السّكان الأصليين. بل أراد أن يكون احتلالا دينيا بغيضا وذلك عندما بدّل دستوره لتكون دولته دولة يهودية. وكان مقتضى ذلك عدوانه على أقدس مقدسات المسلمين (المسجد الأقصى) وتعريضه إلى التداعي من خلال الحفريات التحتية.

وأقام كيانه كلّه على أساس تلموديّ توراتيّ لشرعنة وجوده وكسب التأييد الغربيّ (سمّى نفسه إسرائيل وصنع علمه من نجمة النبيّ داوود عليه السّلام ويبحث عن هيكل سليمان). بل بنى مشروعه على أساس التوسّع الذي يؤمّن حدوده التي لا حدود لها. وبذلك أنشأ محرقة (صبرا وشاتيلا في لبنان عام 1982) واحتل (سيناء) مصر و (جولان) سوريا. وحمى نفسه بمعاهدات سلام مع كلّ دول الطوق (من مصر 1978 حتى وادي عربه 1994).

٢- تكافل الأرض كلّها تقريبا ضدّ فلسطين: الغرب كلّه تقريبا وخاصّة النّافذ منه وهو الذي زرع هذا الكيان اللّقيط في سويداء القلب من الأمّة الإسلامية. وأكثر المنظمات الاممية نفسها. والدولة العربية والإسلامية كلّها تقريبا سواء خوفا وهلعا أم شماتة ونكاية. أمّا الأمّة نفسها فهي سجينة حدود (سايكس وبيكو منذ 1917). وعدا فعالياتها القليلة فإنّ الوعي نفسه بقيمة (الأقصى) ووحدة الأمّة وحقيقة العدوّ ومن وراءه هو وعي ضعيف.

٣- الوجود المسلم الغربيّ (والأوروبيّ) لا يختلف كثيرا عمّا ترزح تحته الأمّة. وحيال القضية الأشدّ حساسية في (أوروبا) أي (الشّرق الأوسط بالتّعبير الغربيّ المضلّل نفسه) فإنّ هوامش الحركة الاحتجاجية محدودة.

أبرز محطّات الدّور الأوروبيّ:

١- التّعريف بالمظلمة الفلسطينية تعريفًا صحيحًا:

أ- من حيث الشّكل فإنّه لا قيمة لذلك التّعريف عدا عندما يكون بالألسنة الأوروبية. وخاصة (الإنجليزية) سيما أنّها لغة الأرض كلّها تقريبا و (الألمانية والفرنسية) بسبب أنّ (ألمانيا وفرنسا) هما أكثر دول الأرض (بعد الولايات المتحدة الأمريكية) انحيازًا أعمى للمحتلّ. 

ب- تعرية العدوّ المحتلّ من أغطية ثلاثة يتدثّر بها:

1- الغطاء الدينيّ أنّه وريث النبيّ إسرائيل عليه السّلام أو وريث الهيكل السليمانيّ المزعوم وحامل نجمة داوود. ذلك أنّ أكثر الأوروبيين يعتقدون أنّ (إسرائيل) مكروهة بسبب دينها. وخاصّة من المسلمين. والحقّ أنّ آلة الإعلام الغربيّ تصنع العقل الأوروبيّ صناعة بأتمّ معنى الصناعة. والحقّ كذلك أنّ هذا الكيان الغاصب نجح كلّ نجاح في تسويق نفسه أنّه معتدى عليه بسبب دينه.

2- الغطاء التاريخيّ الذي يتمترس خلفه العدوّ أنّه الوريث الشرعيّ لفلسطين. وأنّ الفلسطينيين هم المحتلون المعتدون. هنا بقدر ما لدينا نحن من وضوح باهر يجعلنا لا نقبل مجرّد حديث في هذا فإنّ بقدره كاملا وأزيد غموضا في العقل الغربيّ والأوروبيّ. الغربيون والأوروبيون – وخلاف ما هو قارّ في المخيال العربيّ – أمّيون بالكامل عندما يتعلّق الأمر بالتاريخ الإسلاميّ بصفة خاصّة. في ألمانيا مثلا فإنّ عدد الذين يتكلّمون لغة واحدة أخرى عدا اللّغة الأمّ لا يتجاوز جزء واحدا من عشرين جزء (5%).  أنّى لهم إذن أن يطّلعوا على الثقافات الأخرى. وخاصّة في ظلّ عقدة تاريخية ثقيلة.

وهي عقدة الاستعلاء. وفي ظلّ آلة إعلامية جهنمية تدور ضدّ الإسلام ليل نهار صباح مساء. لا أحد منهم يسأل نفسه متى نشأت (إسرائيل) وكيف؟ لو جرى استفتاء شعبيّ أوروبي وكان موضوعه سؤالا واحدا هو: ماذا تعرف عن مؤتمر (بازل سنة 1879). لما ظفرت بأزيد من (5%) ممّن سمعوا بذلك.

3- الغطاء العرقيّ أنّهم ساميون دون غيرهم ممّن خلق الله سبحانه. والحقّ أنّهم نجحوا مرّة أخرى كلّ نجاح في احتكار الصفة السامية. من حتّى من العرب والمسلمين يعلم أنّ (سام) بن نوح الذي ينتسبون إليه هو جدّنا وجدّهم. وهو جدّ ما لا يقلّ عن عشرة أعراق أخرى كبرى. وأنها جغرافيا كلّها في الشّرق الأوسط الكبير حيث استوطن الجدّ نفسه. في حين أنّ أخويه (حام) و (يافث) استوطنوا إفريقيا التي تلوّنت بسمرته فكانت سوداء وآسيا (سيما جنوب شرقها) حيث قرّ قرار (يافث).

ولكنّ الغرب الأعمى الباحث عن ثأر لحروب الفرنجة أشهر سلاح العداوة لكلّ من يعترض على ربيبته (إسرائيل) وأفضى به ذلك إلى اضطهاد كثيرين. منهم على سبيل الذّكر وليس الحصر (الفيلسوف الفرنسيّ القياديّ الشيوعيّ الأسبق روجي قارودي الذي حوكم بسبب كتابه السّفر الذي فضح فيه الكيان ” الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية الخارجية ” وفرّ المسكين من باريس (عاصمة الأنوار) إلى الشرق الإسلاميّ الذي حمى كلّ مضطهد أيام دولة الإسلام ومات لاجئا في الدوحة القطرية قبل سنوات.

والقياديّ الألمانيّ زعيم الحزب الليبراليّ ” مولمان ” الذي اغتيل في وضح النّهار بعد سويعات من حديثه في البرلمان عن الأموال الطائلة التي تنهك الميزانية بسبب ذهابها وباسم المحرقة النازية إلى (إسرائيل). ومازال الأمن الألمانيّ يبحث عن القاتل ولكنّه لم يظفر به بعد مرور زهاء عقدين كاملين. أكذوبة سمجة. هذا الأمن لو قضت ذبابة في نهر (الراين) لقبض على القاتل بعد سويعات قليلات.

2- التّعريف بتاريخ هذه المعركة :

إذا كان التّعريف الصّحيح بالقضية (تاريخا وعرقا ودينا) ينسف الشرعية (الإسرائيلية) المزعومة من أسّها عند الشاهد الغربيّ والأوروبيّ فإنّ التّعريف بما يسمّونه لغوا (قضية الشرق الأوسط) أو (النزاع العربيّ الإسرائيليّ) يضع ذلك العقل في حرج. إذ يكتشف أنّ (إسرائيل) لا تريد إلاّ أن تكون استيطانية إحلالية توسعية مغتصبة. لا ترعى لا ميثاقا أمميا بشريا ولا قيمة تواضع عليها البشر. هذا النّوع الثاني من التّعريف يحرج الذين يصرّون كلّ إصرار على شرعية هذا الكيان.

أ- حدود حزيران 1967. حتّى (حماس) المصنّفة صانعة الإرهاب الأولى في الأرض – وليس من الغرب فحسب بل من كثير من العرب – وفي مراجعة شجاعة ذكية أصدرت وثيقتها السياسية الشهيرة قبل سنوات والتي تعترف فيها لأوّل مرّة منذ ولادتها عام 1987 بحدود حزيران 1967. ولا حديث عن أعلى حكومة دولية نافذة في الأرض (مجلس الأمن) إذ ظلّ هذا المجلس المسكين يستجدي (إسرائيل) عقودا طويلات لأجل الخضوع لقراره رقم 242 والقاضي هو نفسه منذ السبعينات بحدود حزيران 1967.

حتّى الدّول التي تتحكّم في هذا المجلس المسكين من خلال حقّ النّقض (فيتو) ولفرط ما بلغ الظّلم الإسرائيليّ عنان السماوات وجاوزها استحيت أن تشهر سيف (الفيتو) ضدّ هذا القرار (242). هذا العدوّ الغشوم رفض حتّى ما تواضعت عليه الأرض كلّها برها وفاجرها. أي حلّ الدولتين.

ب- حركة التشريد الواسعة التي شُتّت بها ملايين من الفلسطينيين عن أرضهم منذ ثلاثة أرباع قرن كامل. هل هناك احتلال صنع هذا في الأرض؟

ج- وعندما يُخضع الناس إلى الأمر الواقع فبأيّ حقّ تنتهك مقدساتهم؟ بأيّ حقّ يدنس اليهود مقودين برجال دينهم المسجد الأقصى؟ وبأيّ حقّ يمنع الناس من الصلاة فيه؟ حتى المقدسيّ نفسه. ولا حديث عن أزيد من ملياري مسلم من حقّهم الصلاة فيه.

خلاصة أولى:

لو قمنا نحن مسلمو أوروبا بواجبنا تعريفا بقضيتنا المركزية الأولى تعريفا يعرّي العدوّ من شرعياته المزعومة (دينيا وعرقيا وتاريخيا) وباللّسان الأوروبيّ نفسه وخصّصنا لذلك مؤسسات ومحطات وإذاعات وكتبا ومجلاّت ومطويات ومواقع إلكترونية فإنّا نكون قد وفّرنا على العقل الأوربي المضلّل وقتا ثمينا وعلى المقاومة نفسها مثل ذلك.

3- استثمار المواقف الغربية المنصفة:

الحقّ أنّه كلّما أمعن العدوّ في عدوانه الحالي على (غزّة) كسبت المقاومة أنصارًا جددا لها. وعندما يكون هؤلاء الأنصار مسؤولين أوروبيين (برلمانيين وسياسيين وإعلاميين ومفكرين وغيرهم من النخبة) فإنّه لا سبيل لنا عدا استثمار هذا الفتح من رحم العتمة الأوروبية. من وجوه ذلك الاستثمار المطلوب نشر تلك المواقف المنصفة على أوسع نطاق وترجمتها إلى لغات أوربية وغير أوروبية وربّما إجراء حوارات مع أصحابها.

هؤلاء صنعوا شرخا في جدار الصدّ الغربيّ السميك. نحن من يحتاج التواصل مع هؤلاء لشكرهم وتوثيق أسمائهم لتهنئتهم بأعيادهم والتضامن معهم لو تعرّضوا لسوء بسبب مواقفهم المنصفة. علينا مراكمة تلك المواقف والتذكير بها والبناء عليها لو جدّ عدوان جديد لا قدّر الله. إذا كان هؤلاء أصحاب أحزاب علينا تزكية أحزابهم وعقد مقايضات معهم لأجل إنصاف قضيتنا الأمّ. نحن قوّة بشرية كبرى ورصيد انتخابيّ واعد ولا أدلّ على ذلك من حساب الأحزاب لنا كلّ حساب بين يدي كلّ محطة انتخابية جديدة.

خلاصة ثانية أخيرة:

حجمنا كبير وتأثيرنا أكبر لو توحّد صفّنا على الأقلّ في قضيتنا هذه. ولنا من الأموال والإطارات الجامعية العليا وفي كلّ التخصّصات الاجتماعية والكونية ما يكفي وزيادة لإنقاذ العقل الأوروبيّ من نير الاستعباد الإعلاميّ الصهيونيّ وترشيح هذه المظلمة لتكون محلّ تعاطف غربيّ واسع. سيما أنّ الضّغط الشّعبيّ على الحكومات الغربية والأوروبية ليس له سقوف ولا حدود ويمكن له أن ينسف خيارات وحكومات وتحالفات وأحزاب ويأتي بأخرى. لا ينقصنا سوى توحيد صفّنا واجتماع كلمتنا واستثمار إطاراتنا وأموالنا على درب المقاومة السلمية في أوروبا.

علينا التخلّص من سردية خرافية عنوانها أنّ الغربيّ عدوّ بالضرورة أو صهيونيّ بالسليقة. لا. هو إنسان ككلّ إنسان. عدا أنّه يسمع عنّا ولا يسمع منّا. ولو سمع منّا نحن وقرأ عنّا كلاما كتبناه نحن موثقا وصحيحا فإنّه سيغيّر موقفه. وعندما يكون المطلوب منّا واضحا فإنّ ثورة الاتصالات لم تترك لنا خيارات كثيرة في اتخاذ وسائل للتعريف بالقضية وذلك بسبب خصوبة إمكاناتها وثراء عطائها. ليس علينا الكتابة فحسب ولا تأثيث المحطات الموسمية فحسب. علينا بوسيلة أخرى لو هدينا إليها فإنّا نوفّر على أنفسنا أوقاتا وأموالا: عرض القضية في صور فنية بلغة أوروبا (سنما ومسرح ونحت وتشكيل وأفلام وغير ذلك ممّا يعرفه أهله). وما عندنا من مادة لتلك الفنون لكفيلة بملء الأرض عروضا وبملء العيون دموعا بسبب بشاعة البربرية الإسرائيلية منذ عقود طويلات.

والله أعلم.

بقلم الشيخ: الهادي بريك

اقرأ أيضًا: المقاومة ليست حزبية والمعركة ليست دينية