حيرة المنابر

الشيخ عبد الجليل حمداوي

الشيخ عبد الجليل حمداوي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.

للناس مواسم ولقاءات تشرف أو تسفل عموما من خلال ما يُفعل فيها أو تلقى من كلمات. وقد أراد الشارع الحكيم سبحانه لعباده أن يجتمعوا في مواسم سنوية أو أسبوعية ليجتمعوا عليه ويفترقوا عليه، من خلال ما يذكّرهم به إمامهم مما عليهم فعله أو تركه، متأسيا بهديه صلى الله عليه وآله مرتقيا المنبر ليخطب في الناس ويذكّر الناس ويبين للناس…

المِنْبَرُ مرقاة يصعد عليها الإمام ليراه ويسمعه الناس، ليتلقّوا عنه ما يُجريه الله من قلبه على لسانه مما هم في حاجة إلى بيانه. فهل يقع أن تكون للمنبر حيرة أم هل تكون لصاحبه من هذه الحيرة حسرة إن فوّت على نفسه واجبا أو غابت لقول الحق عن قلبه الغيرة؟

نسند إلى المنبر الحيرة من باب المجاز العقلي والمقصود صاحبه، حين يصعب عليه أن يختار ما يفعل أو يذر. ولنا أن نتصور أيضا كيف قد يَعجب لقول الخطيب صاحبُه المنبرُ، وكأنه منكر لخطابه الذي تغيّر بعدما صدح فوقه زمانا وزأر!

مسؤولية الإمام الخطيب

عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته. فالإمام راع ومسؤول عن رعيته…» متفق عليه. قد يكون الإمام من العلماء أو الأمراء أو من أئمة المساجد بلا مراء.

لسنا بحاجة في الحقيقة إلى تذكير الإمام بمسؤوليته، لأنه أعلم الناس بأنه مسؤول أمام الله عن واجبه أمام إخوانه المسلمين ببيانه، ولكن عليه أن يذكر أنه كما من حقه عليهم أن ينصتوا إليه فإن من حقهم عليه الاستفادة من مضمون خطابه.

ليس لأحد أن يكلّف الإمام ما لا يطيق، ولكن ليس للإمام أن يغفل عما يقتضيه المقام للصالح العام مما قد يتعيّن وجوبه وتبيينه، وللعلماء في حديثهم عن “واجب الوقت”. تفريعات، وما أكثر الواجبات المنسيات!

من مظاهر رحمة الله أن علّم القرآن لهذا الإنسان وأنعم عليه بالخلق وعلّمه البيان {الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (الرحمن 1-4). وإن أعظم البيان ما صدر عن القرآن، ومن مقتضياته التي تناسب مظهر رحمانيته أن يُبيَّن للناس ما عليهم فعله وتركه ولا يُختزَل في حسن صياغة عباراته.

عند غياب البيان تكثر التخمينات والوساوس فيصير الناس في غير اطمئنان ولا أمان. وقد تمرّ أوقات صعاب يصير الحليم فيها حيران، فمَن للمسلمين المستهدين غير أئمتهم إن هم تركوهم بين صرخات المتباكين وصيحات المغرضين الذين تعجّ بهم قنوات الكاذبين، الذين يخوّنون الأمناء ويكذّبون الصادقين؟ وكم من ذوي الفضل والشهامة من مختلِف التوجّهات أو الديانات فاق في المروءة بشهادته للحق من يحفظ في صدره آيات الله البيّنات!

تصريح لا تلميح

ابتليت البشرية جمعاء بمعرفة أحداث غزّة من فلسطين الغراء، فسقطت أقنعة عن وجوه تعساء بما صدر عن أصحابها من شهادات زور رعناء، وصدح بقول الحق ودرء الباطل رجال ونساء. فهل نجح ذوو الخطابات في هذا الابتلاء؟

تختلف مستويات هذا الابتلاء من بلد لآخر ولمعطيات أُخَر، تُلزم بعضُها خطباءَ المساجد بما لا يَلزم، فيُعذر أحدهم بما لا يُعذر الآخر. وقد يقع للخطيب شبهة فيبالغ فيما يخشاه ويحذر…

لسنا بصدد تقويم الرجال والفعال، ولكنّا نريد أن نتدبر ما اخترناه للّه ولآخرتنا ونحن نشهد أهوالًا من أبشع ما عرفته البشرية عبر الأزمان والأجيال.

يرى البعض أن من الحكمة الاكتفاء بالتلميح واجتناب التصريح، ولعمري إن هذا لمما يحتاج إلى توضيح وتصحيح.

تشرّف أهل العلم أن ألحقهم الله به وملائكتَه في الشهادة على وحدانيته وقيامه بالقسط {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران – 18)، غير أن هذا التشريف مشروط بالتكليف بوجوب القيام بالقسط والشهادة لله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ …} (النساء – 135). وحريّ بمن يتوقون أن يكونوا للمتقين إمامًا أن يكونوا بين المؤمنين في هذا الأمر رؤوسًا، ولا يكونوا فيه أذنابًا.

من قواعد النظر

ولرفع اللّبس نذكر قواعد أصولية أو فقهية تفي بالمقصود في هذا المقام.

ربّما يستدل خطيب بقاعدة “دفع الحرج” أو “نفي الحرج” فيُقدّم السكوت على الكلام فيما يظنّ أنه مؤدّ للحرج فإذا به واقع فيه، والأدهى أن يوقع أهل مسجده في فتنة لا يرفع بأسها إلاّ توضيح الحق من الباطل لئلاّ تتوسّع في الناس، وهي حاجة ماسة تُذكّرنا بقاعدة “لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة”.

ويرى آخر حصول ضرر له أو لمسجد حيّه من جرّاء تصريحه فيتعلّق بقاعد ة “اختيار أهون الضررين”، فيُنبَّه أن “الضرورات تقدّر بقدرها”.

لا تغيب على العاقل العادل ملاحظة أن العسر حاصل في كلّ الأحوال لتشعّب ما يجب أن ينظر فيه، غير أنّ “الميسور لا يسقط بالمعسور “. ويكفي في هذا قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا …} (التغابن – 16). لذا لا يليق بحقّ أن نتهاون في الميسور فنتواطأ على إسكات صوت الحقّ، فقد وصل بنا قارب الاحتياط إلى شاطئ الإحباط، لأن كثيرا من أئمتنا في شتى البقاع تحاشى ذكر غزة وفلسطين والدعاء لهم علنا حتى لا يُعدّ في المتَّهمين!

روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان». وعليه فإنه لا يليق أن يكتفىَ بتغيير المنكر بالقلب الإمامُ وإلّا فعلى الدنيا السلام. ولست أدري هل سيقبل الواحد منّا مثل هذه الأعذار ممّن يمكنه الدفاع عنه ولو بالقول إذا ما تعرّض إلى أهوال هذه المجازر أبواه أو أبناؤه أو إخوانه. فكيف إذا كان ممن يعوّل عليه في هذه المواطن والمواقف؟ فكأنما نسينا تحذير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما صحّ عنه: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ»، وفُسّر “يُسلمه” بيخذله كما في روايات أخرى. فلا ضمانة إذن لمن ينصر أخاه أن لا يكون من الظالمين.

تستوقفني آية براءة {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ۖ فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (التوبة – 18)، المبيّنة أنّ من أهم صفات عمّار مساجد الله عدم الخشية من غير الله، فكيف بمن يقوم خطيبا على عباد اللّه؟

لا نريد أن نزايد في هذا على أحد، ولا نرجو أن نُفتَن بل نتأسى بخير الخلق صلى الله عليه وآله وسلم الذي صحّ عنه أنه كان يسأل ربه: «اللهم إني أسألك العافيةَ في الدنيا والآخرة». إنّما نودّ أن يشدّ بعضنا على يد بعض فلا تهولنا المخاوف ونحن نقرأ كلام ربنا: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ. إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران 173-175).

و في الختام أذكر نفسي وإخوتي بما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابصة بن معبد رضي الله عنه فيما رواه أحمد: «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، البِرُّ: مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، واطْمَأَنَّ إِلَيْهِ القَلْبُ، والإِثمُ: مَا حاكَ في النَّفْسِ، وتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوكَ». فليستفت الواحد منّا قلبه ونفسه ليتتحقّق من بواعث ومآلات اختياراته وليتضرّع إلى ربّه ليؤيده وينصره ولا يكله إلى نفسه.

اللهم أرشد الأئمة وأعزّهم واحفظهم من كيد الكائدين. آمين

بقلم الشيخ: عبد الجليل حمداوي