خطبة جمعة | غزة.. نداء الضمير وأمانة الموقف

أسابيعُ سبعةٌ انقضت.. ولا زالت آلةُ القتلِ الجماعيِّ تعمل.. ولا زالت المذابحُ الرهيبةُ تتواصل.. وقد شَهِدَ عالمُنا كلّ ساعةٍ ما يَفْزَعُ منْه الوجدان.. وعايَشَ ما تنتفضُ له الأبدان.. من التقتيلِ والتدميرِ والتجويعِ والترويع.. فهذا العدوان على الأنفُس لم يَرحَمْ طفلاً أو امرأةً أو شيخاً أو مريضا..

ومِن تعظيمِ حُرْمَةِ الدِّماء.. قولُه تعالى في مُحكَم التنزيل: (مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)). سورة المائدة.

وفي هذا تنبيهٌ للنّاس جميعاً عبر العصور، وقد جاءت الآيةُ الكريمةُ بعد نَبَأِ اْبنَيْ آدم.. أي عطفاً على جريمةِ القتْل الأولى، التي ينبغي أن تكون عِظَةً للناسِ كافّة عبر التاريخ..

ومِمّا ينبغي بيانُه في هذا المقام.. أنّ سَفْكَ دِماءِ الآمنين وقَتْلَ النّاسِ بغير حقّ.. ليسَ جريمةً ضِدّ غزةَ وحدها أو فلسطينَ وحسب.. فهي بالمعنى الأعمّ جريمةٌ ضدّ الإنسانية.. إذ تَنْتَهِكُ حُرمةَ النفْس البشرية.. فمَن يستمرئُ إزهاقَ الأرواح.. وسَحْقَ الأبدان.. وترويعَ الأبرياء.. وإسقاطَ الشرائع.. والإطاحةَ بمبادئ عالمنا ومواثيقِه وقوانينِه المدوّنة؛ مَن يستمرئ هذا كُلَّه.. إنّما يَقْترفُ جريمةً شنعاءَ ضدّ الإنسانية…. (.. أنّه مَن قتل نفساً زَكِيّةً بغيْر نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل الناس جميعاً).. وهكذا يتعيّنُ على البشريةِ جمعاء أن تستنكرَ فَعْلَتَه وأن تتحرّكَ ضِدّه.. بصوتِ الحقِّ ونداءِ الضميرِ وأمانةِ الموقف..

ومِن إحياءِ الأنفُس صَوْنُ حُرمَتِها ودَفْعُ القتْلِ عنها.. وهذه عِظةٌ بالغة تشتدّ حاجةُ عالمنا إليها.. فمَنْ يَتنادَوْن لوقْف هذه المجازِرِ الوحشيةِ التي تَفْتِكُ بالرُّضّعِ والأطفالِ والنِّساءِ والشيوخِ والمرضى وعمومِ المدنيين.. على مرأىً من العالمِ ومسمَع.. يمتَثِلون لهذهِ الوصيّةِ المُغلّظةِ.. بالسّعي الحثيثِ في إحياءِ الأنفُس.. ودَرْءِ المقتلة.. وإقامَةِ الشرائع التي تَعْصِمُ الدِّماءَ وتَصونُ الأرواح..

إنّ مَنْ يرفعون صوتَهُم في منابر الأرض.. وميادينِ العالم.. ضِدّ نهْجِ الإبادةِ وجرائمِ الحرب.. هُم أوفياءُ حقّاً لهذه التعاليم الخالدة.. فهو موقفُ امتثالٍ لتوجيه ربّانيٍّ واضِح.. وهو موقِفُ التزامٍ بمبدأٍ إنسانيٍّ وأخلاقيٍّ سابِغ.. لا يَصِحُّ إسقاطُه أو تعطيلُه.. وقد شاهدنا جميعاً نداءاتِ إحياءِ الأنفُس المهدّدة بالقتْل.. يُطلقها حاملو الضمائر الحيّةِ في كلِّ مكان.. ويبعَثُ بها أطبّاءٌ وممرِّضون ومُسعِفون من أنحاءِ العالم.. لوقْف العدوانِ السافر على مستشفياتِ غزة.. وإنقاذِ المرضى والجرحى الذين يُطاردهم القَصف وتُحاصِرهم الدبّابات.. وإغاثةِ الأطفالِ الخُدّج.. أولئكم الصِّغار الذين يُقطَع عنهم شريانُ الحياة.. وتُخنَقُ أنفاسُهم على مرأى من العالم ومسمع..

إنّ التنادي لكبْحِ المقتلة.. والتدخُّلَ لإحياءِ الأنفُس.. هو مسؤوليّتنا جميعاً.. كلٌّ مِن مَوْقِعِه.. وكلٌّ مَع مَنْ يَليه من أصحاب الضمائر.. في الجامعات والمعاهِد.. في العمَلِ والوظيفة.. في الجمعيةِ والنِّقابة.. في المنابِرِ ومواقعِ التواصُل.. في الشاشاتِ والشبكات.. فكيْف للعيونِ أن تَغْفُوَ.. وأبدانُ الصغارِ ترتَعِشُ مِن هَوْلِ ما يجري هناك؟ وكيف للأنفس أن تهدأ.. وأمّهاتُ غزّةَ تطارِدُهُنّ الأهوالُ والفواجِع؟ وكيف للضمائرِ أن ترتاح.. وهي تُبصِرُ خنادِقَ عظيمةً تُشَقّ في الأرض.. كي تحتوي جثامين المئات الذين سٌفِكت دماؤهم بغيْر حَقّ؟  إنّها مسؤوليتنا جميعاً.. نحن البشَر.. في أن نجتمع على كَلِمَةٍ سواء.. لأجل الحقّ والعدل.. ولوقْف الجريمة الشنيعة ضدّ الإنسانية.. التي يشاهِدُها عالمُنا عبر البثِّ المباشر.. لحظةً بعد لحظة..  

ولا ينبغي للقُنوطِ أن يتسلّل إلى رَوْعِ أحدِنا.. لأنّ الصوْتَ الذي يرفَعُهُ لم يُوقِفْ المآسي ولم يَكْبَحْ الفظائع.. ذلكُم أنّ جُهْدَه هذا يَظَلُّ كلمةَ حَقٍّ وعَدْلٍ وإنْ لم يُمتَثَلْ لها.. يظلُّ نداءَ قَلْبٍٍ وضميرٍ وإنْ لم يُسْتجَبْ لَه..

وإنّه لموْقِفٌ مبدئيٌّ يحتاجُه عالمَنُا كي يهتدي إلى سبيلِ الرشاد..

لقد كَشَفَت غزّةُ لِكُلِّ ذي عينيْن.. أنّ عالمَنَا تنتابُه عِلّةٌ أخلاقية مُتفاقِمة.. ومُعضِلَةٌ قيميةٌ مُستعصية.. وقد تجلّى للعيانِ أنّ استدعاءَ القيَم والمبادئ والمواثيق.. يُخالطه هَوَى ظاهِر.. وأنّ بَعض القيَم والمبادئ تُستعمَل سِتاراً مُضلِّلاً لتبرير الإجهاز البَشِع على الأبرياء. .

فأيُّ عالَمٍ هذا الذي يُقرِّر تشغيلَ قِيَمِه ومبادئِه ومواثيقِه.. حسب أهوائه ومصالحه؟

وأيُّ عالمٍ هذا الذي لا تتكافأ فيه أرواح البشَر.. ولا تتساوى فيه حقوقُهُم وحريّاتهم وكرامتُهم؟

وأيُّ عالمٍ هذا الذي يَرفَعُ شعاراتٍ نبيلةً لا يمتَثِلُ لها في واقِعِ التطبيق؟

أيُّ عالم هذا الذي يَسْمَحُ بكلّ هذا الرُّعبِ القاتِل.. ضدّ شعبٍ من اللاجئين.. المحرومين من حقّهم وحريّتهم؟

وقد قدّمت غزّةُ لنا ولشعوب العالم.. دروساً في عِزّة الإنسانِ وكرامته.. وعظاتٍ في صلابةِ الإرادةِ ومتانةِ الاحتمال.. فجادَت غزّةُ علينا وعلى عالمِنا بنماذِجَ مُلهِمةً في الصبْر والاحتساب.. والتكافُلِ والتراحُم.. وفي ارتقاءِ الإنسانِ فوْق أوجاعه.. وتساميه فوْق آلامه.. إنْ تهيّأ لَهُ إدراكُ مغزى الوجود.. وتطلّع ناظراهُ إلى المعالي..

فيا أهلَ غزّة.. لا تَهِنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون بإيمانكم..

يا أهلَ غزّة.. إن يَمْسَسْكُم قرحٌ فقد مَسّ القوْمَ قَرْحٌ مِثلُه.. وتلكَ الأيّامُ نُداولها بين الناس.. ولِيَعْلَمَ اللهُ الذين آمنوا ويتّخِذ منكم شهداء..

يا أهلَ غزّة.. ها أنتم من فوق الأنقاض تفتحون أبصارَ الأُمَم والمجتمعات على دُروسٍ بليغةٍ وعِظاتٍ عميقة.. تشتدّ حاجةُ البشر إليْها في هذا الزمان..

يا أهْل غزّة.. نسأل الله تعالى أن يتقبّل تضحياتِكِمُ العزيزة.. وأنْ يَرْبِطَ على قلوبِكُم.. وأن يُؤتِيَكم ثوابَ الدُّنيا وحُسْنَ ثوابِ الآخِرَة..

وإنّ قلوبَنا معكُم يا أهْلَ غزّة.. فاللهم بَرداً وسلاماً عليكم.. اللهم برداً وسلاماً على غزّة.. اللهم برداً وسلاماً على الضِّفة.. اللهم برداً وسلاماً على القُدس.. اللهمّ برداً وسلاماً على فلسطين..   

اللهم رُدّ كيْدَ المعتدين.. وارْبِط على قلوبِ المكلومين.. اللهم ارحم شهداءهم واشفِ جرحاهم واجبُر كَسْرَهم..

اللهم نسألك صلاةً جامعةً في المسجد الأقصى المبارك.. وقد رُفِع الكرب عن القدس وانجلت الغُمّة عن فلسطين.. ولا تحسبنّ الله غافلاً عمّا يعمل الظالمون..

المقالات المنشورة بالموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس الأوروبي للأئمة