همسة في أذن الإمام

الشيخ عبد الجليل حمداوي

الشيخ عبد الجليل حمداوي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.

أخي الإمام،

همّك همّي وأشجانك من أشجاني، فهلاّ استمعت لي، فما أروم إلا أن أبثّ إليك أحزاني وخواطري عبر همسة أخاطب بها نفسي من خلالك، فما إخالك إلا أقرب خِلاّني …

تتوالى في عالمنا أحداث جسام تقتضي منا خطابا لرفع اللثام، عن حقائق منوط بنا الحديث فيها من خلال عرضها على آيات ربّنا لتبيين واجبنا وموقفنا منها، فقد ابتلينا بالإمامة فما من سبيل إلاّ أن نشدّ العزم لنأخذها بحقّها.

أنت من أهل القرآن، كتابِ ربنا القائل حكاية عمّن سبق وتوجيهاً لمن لحِق: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (آل عمران – 187). وأنت أعلم من غيرك أن تبيين الكتاب يكون بتبيين عمومه وأفراده، حسب ما يقتضيه المقام في سياقة، دون كتمه لغرض دنيوي فإنه أرخص الأثمان.

 وإنّ من أهمّ ما يلزمك أن تمشي في الناس بنور الله حتى لا تقعَ وتوقعَ غيرك في الظلمات لأنك في الأصل وارث مخرج الناس منها، فقد قال ربنا سبحانه: {الر ۚ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (إبراهيم – 1)

ظلم وظلمات

بالنور تظهر الحقائق وفي الظلام تغيب فتختلط على الناس الأمور فيأخذونها ويضعونها في غير موضعها، وإلى هذا مردّ مصطلح» الظلم« إذ هو وضع الشيء في غير موضعه كما في مختار الصحاح.

روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اتَّقُوا الظُّلمَ؛ فإنَّ الظُّلمَ ظُلُماتٌ يومَ القيامةِ». في القيامة تنكشف الأمور على حقيقتها التي كانت عليها في الدنيا. فالظالم آخذ حقّ غيره وواضعه في غير موضعه وكأنه متصرّف في حُلَك الظلام، لذا استحقّ أي يصير ظلمُه في القيامة ظلاماً، جزاءً وفاقاَ!

أي أخيّ، إنّي وإيّاك على خطر، فقد استطار من حولنا الشرر وكاد لا يُعرف الصفاء من الكدر!

كتاب ربّنا مبين بآياته البينات، غير أن الظالمين يريدون لك أن تنسى مبدأك، الذي لا يليق بحال أن تستبدل به ما ليس عليه منشؤك، أن تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير بأن تؤثر السكوت أمام الظالم على نصرتك للمظلوم، أيٍّ كان هذا المظلوم وإن كان الظالم أقرب الناس إليك رحما أو اعتقادا. وأنت أحفظ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَو عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَو الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ …} (النساء – 135).

ما ترك لك كتاب الله عذرا في الركون إلى الظالمين، فقد قال عزّ من قائل: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} (113)، والركون كما قال المفسَرون: ميل ومداهنة وموافقة وسكون … ثمّ زادك بكل وضوح: {… وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} (البقرة – 145).

ومهّدوا لها تمهيداً

لو سمحت أخي، فإني أودّ أن أذكّرك بخطوة من خطوات الشياطين سلكوها لتخويف الناس من العاملين في ميادين الدعوة من أهل العلم والدّين. كنت قد أمعنتُ النظرَ في سبب التشنيع على بعض أهل اليقين ممن كان يُشهد له في السابق بالعلم والشهادة، فصار يحاسَب على كل شاذة ولا فاذة في محاكمة يغيب عنها لأنه تركهم إلى الرفيق الأعلى. لست ممن يقدّس العلماء والصالحين، فما لنا من معصوم غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، لكنّ النقد غير التبرؤ. كنت أعجب كيف يقع في حبائل هؤلاء بعض من نعرف من أهل العلم حتى صار يخشى أن ينتسب إلى من وصفتُه أو يُظهر حبَّه له لئلا ينتظم في سلك المتَّهمين. قلّبت الفكر في هذا فوجدت أنّه يُراد النيل من الأكابر من علماء وأساطين الدعوة لطمس صور النماذج الحيّة من عقول وقلوب المستهدين. هذه خطوة! وأختها من الخطوات؟

على رسلك، فما أتممت حديثي فإنه ذو شجون …

هناك خطوة أخرى لا يعنينا إن كانت قبلها أو بعدها لإنّ كلاهما سُلكت للتخويف.

لعلّك توافقني، أن العالم بأسره كاد يشيطن العاملين للإسلام في جماعات إسلامية في الشرق والغرب، لا ينكر فضلها على أجيال المسلمين إلا من لم يطلع على جهودها أو كان من الحاقدين. تارة ينعتون بالإسلاميين وتارة بالأصوليين المتطرفين، وأخرى بالتنظيمات الإسلامية أو بأصحاب الإسلام السياسي وهنا مربط فرسهم: فإياك أن تهتمّ بما هو سياسي فتصير من الهالكين …

لا تعجل عليّ، فما قلت لك أن أصحابنا هؤلاء فوق النقد، وإنما أقول أن من الظلم اتهام العاملين للحق بما ليس فيهم لأنهم في جملتهم من الصادقين، ولم أتألّ على الله بالحكم لواحد بالفوز المبين. كما أني لم أبخس غيرَهم من العاملين للإسلام حقّهم من ساداتنا وأشياخنا العلماء والمربين، فكلّهم يفتلون بحمد الله في حبل الحق االمتين.

يراد للمسلمين أن يتنكّروا لإخوانهم من المسلمين ممّن يقضّ مضاجع الظالمين بجهدهم الدائب لإعلاء كلمة العدل ونصر إخوانهم المستضعفين.

عودة إلى أرض فلسطين

قد تخيفهم العبارة لأنها واقع، وإن قصدتُ بها الحديث عما يجري فيها على أيدي الصهاينة المغتصبين، من قتل للأبرياء من النساء والأطفال والمسنين لمّا علموا أن لا قِبل لهم بأسود الله المقاومين، أعزّهم الله بالنصر المبين …

أخي الإمام، قد يصعب هذه الأيام الحديث في الحقائق في بعض البلاد لترهيبٍ يكون قد صدر من إرهابيي حاكميها عونا للإرهابيين المغتصبين لأرض غيرهم، فلك أن تسدّد وتقارب وأن تختار أفضل الكلمات دون إفراط أو تفريط خصوصا وأنك إمام لمسلمين من مختلف الأطياف، ولكن عليك أن تبقى في كلّ الحالات في صفّ المظلومين فاضحا للظالمين. فإن رمَوك كلّهم عن قوس واحدة فإن حسبك الله، {أَلَيۡسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبۡدَهُۥۖ وَيُخَوِّفُونَكَ بِٱلَّذِينَ مِن دُونِهِۦۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٖ (36) وَمَن يَهۡدِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّضِلٍّۗ أَلَيۡسَ ٱللَّهُ بِعَزِيزٖ ذِي ٱنتِقَامٖ} (الزمر – 37-36). {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج – 40)

لقد تبوّأتَ بين الناس مكانا عليّا أَن صرت ممّن يُؤتمّ به ويُسترشد بكلماته وخطابه، فلا يغرّنك بالله كثرة من وثق بك واستمع إليك، فإن العاقبة للتقوى والله خير وأبقى، فانظر لنفسك ما ينفعك في الأخرى ولا تركن إلى من لا ينفعك أمام الله فتردى.

أسوق إليك في هذا المقام بشرى الشاعر محمد إقبال رحمه الله الذي خاطب بها المسلم ليذكّره بقوّة نوره وحاجة الناس إليه لئلا يتركهم حيارى بين الخائضين، فإنك بحق أهل لوصف هذا الخطاب:

إن هذا العصــر ليــــل فأنـــــر *** أيهـــــا المســلم ليـل الحائريــــن

وسفين الحـــــق في لجّ الهوى *** لا يـرى غيـــرك ربّان السفيــــــن

أنت كـنـز الـــدر والياقوت في *** موجة الدنيــا وإن لم يعـــرفــوك

محفــل الأجيــــال محتــاج إلى *** صوتك العـــالي وإن لم يسمعوك

أيّدك الله بروح منه ورزقك الحكمة وفصل الخطاب. آمين

أخوك عبد الجليل حمداوي