حتّى يغيّروا ما بأنفسهم | من سنن الله في النّفس والحياة

الشيخ الهادي بريك

الشيخ الهادي بريك

ورد هذا القانون مرّتين في الكتاب العزيز. مرّة في سورة الرّعد (إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم) ومرّة في سورة الأنفال (ذلك بأنّ الله لم يك مغيّرا نعمة أنعمها على قوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم). هذا أوّل قانون في أبجديّات الإصلاح والتّغيير وهو يرسم قاعدة الانطلاق ومرتكز العمل. ورد في الموضعين ـ كعادة كلّ قانون تقريبا ـ مؤكّدا بجملة إسمية وباسم الله العلم المفرد سبحانه (الله).

ورهن تغيير الله سبحانه حال النّاس ـ أفرادا وجماعات ـ بقيامهم هم أنفسهم بتغيير أنفسهم. ويكون ذلك في كلّ الاتجاهات: سواء من الأسوأ إلى الأحسن أو من الأحسن إلى الأسوأ. لأنّ التّغيير يشمل تحويل الحال بصفة عامّة بخلاف الإصلاح الذي يعني التّحويل من السّوء إلى الحسن فحسب. مرّة أخرى نعود إلى مربط الفرس: النّفس. الإنسان في الإسلام وسيلة وغاية معا وفي الآن ذاته. هذا القانون يلقي كذلك بأضواء كاشفة تجلّي عقيدة القدر التي ضلّ فيها أناس كثيرون في الغابر والحاضر. هذا ناف لإرادة الله سبحانه وذاك ناف لإرادة الإنسان. وكلاهما في ضلال مبين. ممّا عرفت من الإسلام ودرست أنّ الإسلام نظام مركّب مزدوج. وليس هو أحاديّ البعد. ومن ذا فإنّه لا ينتفع به عدا صاحب العقل المركّب المزدوج الذي يطيل النّظر ويبحث في كل الآفاق والأبعاد. وعندما يلتقي دين مركّب مزدوج متعدّد الأبعاد مع عقل مثل ذلك فإنّ الإصلاح يكون ميسورا بإذن الله سبحانه. وذلك بسبب أنّ الواقع المراد إصلاحه هو نفسه مركّب مزدوج متنوّع الأبعاد. الإيمان بالقدر مثل ذلك. يلتقي فيه الإيمان بإرادة الله سبحانه وعدم محدودية مشيئته المتدثّرة بالحكمة كلّها مع إرادة الإنسان. مضمون هذا القانون الإصلاحيّ الأعظم في مادّة التّغيير هو أنّ الله سبحانه لا يبدّل حال الإنسان ـ فردا وجماعة وفي كلّ حقل ـ بمعجزة إلهية من عنده من دون إرادة الإنسان ذاته إلاّ في حالات محدودة ذهبت مع الأنبياء عليهم السّلام وجاءت لغرض خاصّ. إنّما يبدّل الله سبحانه الحال ـ من السّوء إلى الحسن وفي الطّريق المضادّ كذلك ـ بإرادة الإنسان ذاته. وهو ما عبّر عنه في الموضعين بقوله (بأنفسهم). النّفس هي مركز التّغيير وقيادة التّحويل وغرفة التّبديل. النّفس هي الجهاز المعنويّ الذي يقوم بمهمّة السّفن في الإنسان الذي يقاد من ذلك الجهاز ويقود هو نفسه غيره بالجهاز نفسه. عندما وعى المسلمون الأوائل هذا القانون طفقوا يجوبون الأرض شرقا وغربا فأسال الله لهم عيونها ومكّنهم من أسرارها وطوّع لهم القلوب. وعندما تسلّل الانحطاط إلينا وظننّا أنّ الله سبحانه يغيّر حالنا بغير إرادة منّا وبدون جهد منّا فقعدنا قعدت بنا الدّنيا. ربّما لا يجانب المرء صوابا إذا قال أنّ أكثر عامل ساهم في تخلّفنا من بعد سؤدد هو تحوّل عقيدتنا في القدر تحوّلا شنيعا جعلنا متواكلين بدل متوكّلين وقاعدين بدل عاملين. لا تكاد تظفر اليوم بعالم أو داعية أو خطيب يذكّر النّاس بقالات جريئة صحيحة كلّ الصحّة عن القدر من مثل ما قال الفاروق وعبد الله ابن المبارك وابن القيّم وغيرهم أنّ المرء المؤمن بحقّ يفرّ من قدر الله إلى قدر الله. أو أنّه يفرّ من قدر إلى قدر أحبّ منه. أو أنّه يحارب قدر الله بقدر الله سبحانه. كلّ هؤلاء يفقهون قوله عليه السّلام عندما سئل عن الأدوية هل تردّ من قدر الله سبحانه (هي من قدر الله).

هذا الجواب يلخّص كلّ القضية. كلّ شيء هو من قدر الله سبحانه. ولذلك ورد في حديث جبريل عليه السّلام أنّ قدر الله سبحانه خير وشر. عدا أنّه لا ينسب إليه سبحانه الشّر. مازلنا بحاجة ماسّة كبيرة إلى تفعيل هذه القيمة وهي أنّ حالنا الأسوأ اليوم لا يتغيّر إلاّ بفعل وعمل وإرادة منّا نحن. وأنّ الله سبحانه يكون عند ظنّ العبد نفسه. كما قال هو سبحانه في الحديث القدسيّ (أنا عند ظنّ عبدي بي)

. ومعنى ذلك أنّ من يظنّ أنّ الله سبحانه سيغيّر حاله بدون عمل منه فهو ظنّ سيّئ. ومن يظنّ أنّ الله سبحانه يغيّر حاله بفعل منه هو نفسه فهو يبارك له في ظنّه وعمله ويغيّر الله سبحانه حاله. أغلب المسلمين اليوم لا يفقهون ما معنى أنّ الله سبحانه يقول للشّيء كن فيكون. إذ يحملون ذلك على المعجزة فحسب. هذا صحيح في حال المعجزات النّبوية. أمّا في الحالة البشرية العادية فإنّ معنى قوله سبحانه (كن فيكون) هو أنّ الله سبحانه يبارك في عمل عبده وإرادته ويجعل منه حقيقة فوق الأرض. (كن فيكون) ليس بالضّرورة معناها الآن.

هذا القانون ليس خاصّا بالمؤمن إذ هو ينسحب على غيره كذلك وهو يلتقي مع قانون آخر في سورة الإسراء (كلاّ نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربّك). أي أنّ العامل يلقى جزاء عمله بغضّ النّظر عن دينه عدا أنّ هذا القانون الأخير (قانون الإسراء) محصور في العطاء الدنيويّ. خلاصة هذا القانون هي أنّ النّفس المريدة العاملة يستجيب لها قدر الله سبحانه. وأنّ النفس العاطلة الرّاكدة يستجيب لها قدر الله سبحانه. ولكن بمزيد من السّحت والمحق والسّحق. التّغيير في كل الاتجاهات ليس بالأمانيّ ولا برؤى المنام وليست بالمعجزات وليست حتّى بالأدعية فحسب. إنّما هو بالعمل والتّوكّل وإعادة تركيب النّفس ذاتها بما هو صالح لذلك من أغذية روحية وفكرية

كلاّ نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربّك

ورد هذا القانون في سورة الإسراء المكية وذلك في قوله سبحانه (كلاّ نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربّك وما كان عطاء ربّك محظورا). وهو تعقيب على قوله سبحانه قبل ذلك (من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثمّ جعلنا له جهنّم يصلاها مذموما مدحورا. ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا). القانون متعلّق بما سبقه فلا يفهم إلاّ في سياقه. (كلاّ) معناها: كلاهما سواء الذين يريدون العاجلة أو الذين يريدون الآخرة. هؤلاء وأولئك في عطاء الدّنيا سواء. ولكن بحسب إرادتهم التي تكرّرت مرّتين. فلا مدّ لا لهؤلاء ولا لهؤلاء إلاّ بإرادة من هؤلاء وأولئك على حدّ سواء. وأكّد ذلك بقوله (وما كان عطاء ربّك محظورا) فما كان ممنوعا لا على مريدي العاجلة ولا على مريدي الآخرة. ولكنّ العبرة كلّها هنا بالإرادة. هذا قانون الدّنيا كلّها بمؤمنيها وكافريها. إذ يغدق سبحانه فيها على كلّ من طلبها وسعى لها سعيها وهو مثابر فيها بغضّ النّظر عن هويته الدينية. جاء هذا القانون مؤكّدا بنون العظمة التي عادة ما يتحدّث بها ربّ العزّة عن نفسه لعلّ النّفوس تستعظم ذلك وتخشى فتأخذ الأمر بجدّ لا هزل معه. لمّا أراد التّسوية بينهما في العطاء الدّنيويّ لم يقل (هؤلاء وأولئك) حتّى يميّز بينهم. إنّما جمعهم في قوله (هؤلاء) فحسب. دقّة عجيبة ساحرة تخلب الأبصار وتغري الأفئدة وهي تتدبّر هذا النّظم القرآنيّ العجيب. ولكن ألا يريد المؤمن نفسه العاجلة؟ لا. الإرادة كبيرة فلا تصرف في شيء زهيد قال فيه سبحانه مرّات كثيرات (وما الحياة الدّنيا إلا متاع الغرور). وخلع عليها نعوت اللّهو واللّعب والزّينة التي سرعان ما تحرقها الشّمس بأشعّتها فتسقط سقوط أوراق الخريف البالية. كما أنّه هنا خفض قدرها إذ سمّاها العاجلة. ولكن تظلّ مشيئته سبحانه هي الحاكمة دوما. حتّى في الدّنيا فلا يظفر طالبها إلاّ بما يريد الله سبحانه (عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد). ومضات ضرورية لتصحيح الاعتقاد.

ما نشاء من إملاجات. ولمن نريد من عبيدنا. أمّا إرادة الآخرة (والله يريد الآخرة) فلا مناص من سعي مسعيّ وعمل معمول وكدّ مكدود وجدّ مجدود وكدح مكدوح وكبد مكبود. هو السّعي ذاته الذي يسعى به مريد العاجلة. ولكن تختلف الوجهات فحسب. المؤمن إذا لا يريد العاجلة. ولكن يريد الآخرة ويبتغي فيما أوتي من ربّه سبحانه في الدّنيا الدّار الآخرة. وهي النصيحة التي وجّهت إلى قارون (وابتغ فيما آتاك الله الدّار الآخرة). المؤمن يستمتع بطيّبات الدّنيا ولذّات العاجلة. ولكنّه لا يريدها إرادة. لأنّ الإرادة تتعلّق بالمعالي. حظّنا نحن من هذا القانون هو تخليص الأفئدة لله وحده سبحانه ولما أعدّ للمؤمنين في دار الحيوان. حظّنا منه هو الرّضى بما كتب لنا بشرط استفراغ الإرادة كلّها لكسب العاجلة. وخاصّة ما فيها من قوّة تحصّن بيضة الأمّة وتحرّر الأرض وتعتق العرض وتدكّ صياصي الظّلم. حظّنا هو عدم الوقوع في فتنة الكافرين. إذ نظنّ أنّ الله إنّما أمدّهم بالعاجلة لرضاه عنهم أو لأنّهم يصلحون أو يحسنون عملا. حظّنا هو تحرير الإرادة لنيل العاجلة التي بها ينداح الإسلام وتصل كلمته إلى النّاس كافّة. حظّنا هو تحصيل العلوم والمعارف التي بها يقوم القسط بين النّاس. هذا السّؤال يطرحه اليوم كثيرون من المسلمين الذين لم يفقهوا عقيدة القدر كما يجب أن تفهم : كيف يقوّي الله سبحانه الكافرين المعتدين وهم كذلك ولا يقوّي المؤمنين وهم مؤمنون؟ لك أن تقول أنّ السّؤال مشروع ولكنّ هذا القانون يجيب عنه بقوّة وجلاء. الله قوّى جانب أولئك لأنّهم أرادوا العاجلة وهم عبيده مثلنا. ولكنّه لم يكسبنا من تلك العاجلة ما كسبوا هم لأنّنا قعدنا. من ينظر في التّاريخ يرى الصّورة المضادّة لهذه.

بقلم الشيخ/ الهادي بريك