أعرف مسبقا أنّ ما ستقرأه هنا – وقد سبق تحريره – لا يثير اعتراضك. ولكن أعرف كذلك أنك تتأخّر عن تفعيله عمليا. وأعرف أنّ من تداعيات ذلك أمرين: أوّلهما تدين مرذول يخبرك أنّ ذكر محاسن الرّجل في حياته غير مرغوب فيه دينا. وثانيهما الخوف من التصنيف الذي يخضع له الناس ضربة لازب. وسيقول بعضنا أنّه (عليه الصلاة والسلام) لمّا اختار زهاء عشرين من صحابته فقلّدهم ما قلّدهم من نياشين الشرف إنّما كان ذلك خاصّا به. وعندما لا نريد شيئا قلّدناه صفة الخصوصية. أو أنّ هؤلاء المقلّدين معصومون فلا خوف عليهم من ذئب الشيطان. ومن ذا فلا نستنّ به هنا عليه الصلاة والسلام.
هذا الرّجل النحرير الكبير من أوائل مؤسسي العمل الإسلاميّ في ألمانيا خاصّة وأوروبا عامّة. من الشباب المتدين في الثمانينات من القرن المنصرم وفي كلّ بلاد عربية لم يتعرّف على مجلّة (الرائد) التي كانت غذاء من أغذية الوعي الإسلاميّ؟ ومن من أولئك من لم يسمع بمسجد (آخن) الألمانية؟
لكم نحسن تجاهل المؤسسين. فإذا ماتوا أقمنا لهم عكاظيات و(كربلائيات). غيرنا من كلّ الملل والنّحل يرفع نكرات لا وزن لهم كلّ رفعة وينفخون فيهم نفخا عجيبا حتّى ليخيّل لك فعلا أنّهم كانوا على شيء. نحن لا نعير الكلمة التي هي مناط كلّ تغيير وفي كلّ اتجاه ما تستحقه. نحن جمدنا على كلمة (دعوة) وليست الكلمة مقصودة في نفسها حتى لو ورد بها الكتاب العزيز كما فقه ذلك الفاروق الذي رضي بعدم تسمية الجزية جزية إذ تؤخذ ممّن يأنف منها. أي نصارى تغلب من العرب. كلمة (دعوة) اليوم هي كلمة (إعلام). فإذا أهملنا الإعلام أهملنا الدعوة. الإمام في منبره إعلاميّ أو لا يكون.
(مسجد آخن) الذي اتخذه هذا الراحل الكبير معلما ومحضنا هو (دار الأرقم) بكلّ ما يعنيه ذلك من معان وقيم في كلّ ألمانيا وعلى مدى عقود وخاصة في وسط ألمانيا. إذ تأسّس في المرحلة ذاتها مسجد ميونيخ. كان اللّقاء الشهريّ في تلك العقود محطة قارّة لا يتخلّف عنها مسلم ولا مسلمة. وبمثل ذلك كان اللّقاء السنويّ. يقطع المسلمون مئات الأميال يحمل بعضهم على ظهر بعض لأجل المشاركة في تلك اللقاءات. لم تكن في تلك الأيام وسائل تواصل تشغل الناس وتدسّ فيهم الكسل والتواكل والتعالم.
لم تكن اللقاءات تبثّ علوما ومعارف بالمعنى المعروف. ولكنها كانت تبثّ ما هو خير من ذلك. إذ كانت محطات تعبئة وجرعات أغذية روحية مهمة وتخفف على الناس وطآت غربتهم وتنسج بينهم قيم التعارف والتآخي. هل عندنا نحن اليوم شيئا من ذلك حتى لو كانت علومنا ومعارفنا تناطح السماوات؟ أبدا.
ومن قبل هذا الرجل الكبير رحل من رحل من الجيل المؤسس في ألمانيا (والحديث دوما في الدائرة العربية فحسب ولو شمل الحديث الدائرة التركية مثلا لكان حديث آخر) ولكن ظللنا أوفياء لعاداتنا التي دثرناها بدثار الدين: ذكر محاسن الناس في حياتهم مخالف للسنة وغير محبوب ولا مرغوب. لا بل هو تجاهل أو جهل. فمن زعم أنه لم يسبق له أن سمع برجل اسمه (عصام العطار) فلا حديث معه. إذ هو يحتاج إلى ما يسميه الأطباء العلاج بالصدمة. وسيرحل عنّا من بعده من يرحل من هؤلاء ونحن أوفياء كلّ وفاء.
دعني أكون عمليا:
أيّ مانع يحول دوننا ودون تسمية أيّ محضن أو مؤسسة باسم (عصام العطار)؟ وأيّ مانع يعوقنا عن اختيار اسم (الدكتور أحمد الخليفة) الذي هو في جنوب ألمانيا بمثل شيخنا الكبير الراحل (عصام العطار). وأيَ مانع يمنعنا من تناول سيرة هؤلاء في حياتهم وبعد موتهم في محاضننا ومساجدنا ومناشطنا أنها سيرة لرجل مكافح مقاوم يجد فيها الشباب قدوة؟ وأيّ مانع يحول دوننا ودون تأليف قطع فنية تأليفا وإخراجا وأداء يقصّ حياتهم؟ المانع هنا معروف. نحن لا نرحب بالفنون حتى لو أكرهتنا ضغوط الواقع بالقبول به نظرا فقط.
من حقك أن تقول ما هذا الخطاب المصادم؟ ومن حقي ألاّ أداري في توصيف أمراضنا التي تقعدنا عن فعل خير كبير وكثير وغزير كفيل بتحقيق تقدم ونهضة وقومة.
وأعرف أنّ الخطاب النقدي يؤلمنا ويوجعنا. ولكن لا بدّ منه. والله يشهد أني ناصح أمين.
والله أعلم.
بقلم الشيخ: الهادي بريك.