في رثاء أستاذ الجيل (عصام العطار) رحمه الله

الشيخ علي فتيني

الشيخ علي فتيني

رحل من دنيانا بقية الدعاة الصالحين وآخر المفكرين الكبار، مفخرة الشام وخطيبها وفارس منابرها، من أعجب به أديب الفقهاء الشيخ علي الطنطاوي ولقبه: “نابغة الخطباء”، وزوجه ابنته وفلذة كبده الشهيدة بنان الطنطاوي رحمهم الله جميعا، رحل الرجل العصامي خطيب الشام المفوه الذي كان عظماء الشام يقدمونه خطيبا في المحافل وهم الشيوخ وهو الشاب العشريني بينهم كالسباعي والزرقا والطنطاوي رحمهم الله جميعا.

رحل شاعر الشام وصاحب المعلقة العصماء التي ينادي فيها فيقول:

يـا شـامُ يـا شامُ يا أرض المحبينا

هـان الـوفاءُ وما هان الوفا فـينا

نحـيا على الـبعد أشـواقا مـؤرقـة

لا الوصلُ يدنو ولا الأيام تسلـينا

إِنّا حملناكِ في الأضلاعِ عاطِفة

وصُورة مِن فُتُونِ الحُسنِ تسبينا

يا شامُ هذي تباريح البعـيـدينا

يا شام هذي شجون المُستهاميـنا

يا شام هيجتِ الذكـرى لواعجـنـا

وأرخـصت دمعها الغالي مآقيـنا

يا شام قد عظُمت قدرا مطالبُـنـا

يا شام قد بعُدت شأوا مراميـنـا

يا شام لا تجزعي فالله راعـيـنـا

يا شام لا تيأسي فالله كافـيـنـا

يا شام جرحك في قلبي أكابده

دما سخيا وآلاما أفانينا

ياشام لا تجزعي فالله راعينا

ياشام لا تيأسي فالله كافينا

مضى إلى الله بعد حياة حافلة بالدعوة والفكر والتربية، مضى وهو ينشد بمعاني الثبات والإيمان:

نمضِي على الدربِ والإِيمانُ حادِينا

نمضي على الدربِ لا الكُفرانُ يصرِفُنا

عنِ المسِيرِ ولا العُدوانُ يثنِينا

نرنوإلى اللهِ أبصارا وأفئِدة

اللّهُ غايتُنا واللهُ راعينا

نمضي مع الله لا ندري أتُدنـيـنا

أقـدارنا منك أم تأبى فتقصـيـنا

نمضي مع الله لا تدري جوارينا

مـتى وأين ترى نلقي مراسيـنا

نمضـي مع الله قدمـا لا تعوقنـا

عن المضي وإن جلت-مآسينا

نمضي مع الله والإسلام يهديـنـا

الله يمسـكنا والله يزجـيـنـا

نمضي مع الله والجـلى تناديـنـا

راضين راضين ما يختار راضينا

رحل أستاذ الجيل وهو يعلمهم الكفاح ويزرع فيهم الثقة، وينادي بمعاني الفخر والاعتزاز:

كنا الشموس بأرض الشام مـشرقة

كنا الغيوث ربيعا في روابـيـنـا

كنا الحصون بأرض الشام شامـخة

فيها الحماة إذا عزّ المحامونـا

كنا الرياح إذا نادى الصريخ بنا

كنا الرجاء إذا ضيمت أراضيـنا

كنا الجبال ثباتـا فـي مواقفـنـا

كنّا العقيدة قد جلّت وقـد خلُصـت

كنا العدالة قد صحت موازيـنـا

كنا الشمائل قد طابت وقـد عذبـت

فماحكتها الصّبا طيبا ولا ليـنـا

رحل عن عمر طويل يقارب مائة سنة فلم يبدل ولم يغير، رحل وبقي أثره الدعوي والفكري فينا وفي جيلنا خاصة في القرن الماضي، فإن كان الكثير من أبناء مابعد الألفين لايعرفونه فنحن نعرفه، فكم تأثرنا بقصة كفاحه وثباته ؟!، وكم تأثرنا بقصة صبره يوم استشهاد زوجته بنان رحمهما الله، حيث تم اغتيالها بأيدي الظلمة القتلة مافيا مخابرات النظام الأسد الأب أهلكه الله، حيث اقتحموا بيتها الآمن في المانيا بغية قتل الأستاذ عصام، ولم يكن موجودا ذلك الوقت فنجاه الله منهم، وكتب الله لها الشهادة، وكان حدثا هز الدنيا وآلم القلوب وأبكى العيون حينذاك، وعند الله تجتمع الخصوم.

رحل بعد أن جمع الله له بين الدعوة والفكر والهجرة في سبيله، وجمع له بين أثره الفكري الكبير على الدعاة عموما، والدعاة في المهجر خصوصا، فقد كان لإقامته في مدينة آخن في المانيا دور كبير في توعية المسلمين فيها وفي كل المانيا، وكان لفكره الوسطي المعتدل أثر مشكور على الحضور الإسلامي في جميع قارة أوربا وتأسيسه وتطويره، زرت مسجده في مدينة آخن قبل فترة طويلة بهدف اللقاء به ولكن مرضه حال دون ذلك للأسف الشديد.

وأخيرا لقد كان من تقدير الله توافق وفاته مع وفاة شيخنا عبدالمجيد الزنداني رحمهما الله في أسبوع واحد، ورغم زيادة المصاب الجلل وشدة الألم حيث كان أحدهما قائدا كبيرا في يمن الأمة والآخر في شامها، وكأن الأمة فقدت يمينها ويسارها والله المستعان، إلا أن في ذلك معنى إيجابيا جميلا من جهة أخرى وهو أنهما كما كانا تجمعهما الفكرة والهم وعاشا حياة طويلة في خدمة الأمة الإسلامية،،وكل واحد منهما كان رمزا إسلاميا بارزا متميزا في ذلك، فكذلك أراد الله أن يجمعهما في وقت وفاتهما، ونرجو الله أن يجمع روحهما عنده أخوين في روح وريحان في أعلى الجنان.

ولله در الشاعر النيجري أبو سعيد الصياد حين رثاهما معا في قصيدة عصماء بعنوان (غَابَ الهُمَامَان) حيث قال:

يا شِعْرُ وَيْحَكَ هَاتِ الحِبْرَ والقَلَمَ # أَبْكِي الإِمَامَينِ قَلْبِيْ يَصْطَلِي أَلَمًا

نَبْكِي وتَبْكِي أَرَاضِي اللَّهِ قَاطِبَةً # تَبْكِي السَمَاوَاتُ تُجْرِي دَمْعَها ودَمَا

غَابَ الهُمَامَانِ عَن دُنْيَا الوَرَى فَشَكَتْ #  مَنَابِرُ اللهِ هَذَا الفَقْدَ لاَ جَرَمَا

تَبْكِي الشَّآمُ الَّتِي غَابَتْ مَعَالِمُهَا # عَطَّارَهَا، كَمْ أرَاهَا حُبَّهُ وحَمَى #

 نَبْكِي اليَمَانَ الَّذِي طَالَتْ مَصَائِبُهُ # عَبْدَ المَجِيدِ، فَنَرثِي العِلْمَ وَالشِّيَمَا

كِلَاهُمَا هَاجَرَ الأَوْطَانَ فَاغْتَرَبَ # عَاشَا عَزِيزَينِ عِمْلَاقَينِ فَانْصَرَمَا

قُل لِلْعِدَا هَذِهِ أَشْبَالُ قَادَتِنَا # تَحْمِي المَآثِرَ وَالإِسْلَامَ وَالحُرُمَا

فَلَنْ تَلِينَ لِطَاغُوتِ وإِنْ خَضَعَتْ # لَهُ رِقَابُ عَبِيدٍ دَاسَهَا فَسَمَا

يَا أُمَّةً مَيَّزَ الرَّحْمَنُ طِيْنَتَهَا # عَصِيَّةٌ أَنْتِ، بُرْكَانٌ لِمَن ظَلَمَا

فَجَدِّدِي بَيعَةً لِلَّهِ يَعْقُبُهَا # جُهْدٌ دَؤُوبٌ وَإِخْلَاصٌ لِتُحْتَرَمَا

وعَظِّمِي قادةَ الإِسْلَامِ إِنَّ لَهُم # فَضْلًا، فَتُولِيهِمُ الإِحْسَانَ والكَرَمَا

وهَدِّدِيْ كُلَّ مَنْ عَادَاهُمُ فَإذا # رَأَيتِ شَيئًا مُرِيبًا فَاسْأَلِي العُلَمُا

وحَاذِرِي كَيْدَ مَنْ كَادُوكِ إِنَّ لَهُم # كَرًّا وفَرًّا لِيَغْتَالُوكِ إِنْ لَزِمَا

فَدِينُ رَبُّكِ مَنْصُورٌ وإِنْ كَرِهُوا # وأَمْرُ دِينِكِ يَعْلُو رَغْمَهُم أُمَمًا

يَا شِعْرُ وَيْحَكَ هَاتِ الحِبْرَ والقَلَمَ # أَبْكِي الإِمَامَينِ قَلْبِي يَصْطَلِي أَلَمًا

رحمك الله أستاذ عصام

رحمك الله أيها الداعية الرباني

رحمه الله أيها المفكر الكبير

رحمك الله أيها الداعية المهاجر

سلام الله على روحك النقية

سلام الله عليك في قبرك وحين تبعث حيا.

رفع الله درجتك في الفردوس الأعلى من الجنة، وجمعك بزوجتك الشهيدة، وكل أحبابك ورفقائك، وألحقنا بكم غير مفتونين ولا ضالين ولا مضلين.

العزاء لأنفسنا أولا ثم لأهله وذويه وكل الشام والأمة الإسلامية وجبر الله مصابنا وأخلف علينا خيرا.

✍ د. علي فتيني

النرويج – أوسلو 2024/5/4