
بين الروضة والرياض مسافة من الحقوق والواجبات

حين يقف الزائر في المسجد النبوي بين المنبر الشريف وقبر النبي ﷺ، يستحضر الأحاديث المباركة المتواترة التي جاءت من طرق كثيرة، منها ما يرويه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال:
«مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ»
(رواه البخاري: 1196، ومسلم: 1391).
وكذلك جاء في بعض الروايات الأخرى بلفظ:
«مَا بَيْنَ مِنْبَرِي وَقَبْرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ».
فيشعر الزائر أن قدميه تطآن أرضًا من الجنان، وأن روحه تلامس نسائم الخلود. لكن هذا الشعور الروحاني لا ينبغي أن يكون مجرد انفعال وجداني، بل استدعاءً لمعنى أعمق: أن في هذه المسافة القصيرة رسالة كبرى تتعلق بالحقوق والواجبات.
فالمنبر ميدان البلاغ والبيان، من فوقه كانت كلمات النبوة تفيض هدىً، وتعاليم الوحي تتنزل لتصوغ حياة أمة، والقبر الشريف مرقد من بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. وبين هذين الموضعين تختزل المسافة كل معاني التلقي من النبوة، والتحمّل لأمانة الدين، وأداء الحقوق.
ثم يأتي الحديث الآخر، يقول فيه الحبيب ﷺ:
«إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا».
قالوا: وما رياض الجنة؟ قال ﷺ: «حِلَقُ الذِّكْر»
(أخرجه الترمذي: 3510، وأحمد: 12545).
فهنا تتحول الروضة المكانية إلى رياض معنوية مبثوثة في الأرض؛ حيثما اجتمع الذاكرون، وتدارس المتعلمون، ونُشرت الفضائل.
المسافة بين الروضة والرياض
ليست مسافة جغرافية، بل مسافة معنوية بين مكان يجسد ذكرى النبوة، ومجالس تحمل روحها، وهي مسافة مملوءة بالحقوق والواجبات:
-
حق الله علينا: أن نستثمر لحظاتنا في الذكر والعلم، ونملأ أوقاتنا بما يقربنا منه.
-
حق النفس: أن نغذيها بالمعرفة والإيمان، فلا تذبل في غفلة الدنيا.
-
حق الآخرين: أن ننقل إليهم النور الذي تلقيناه، فلا نحجب خير العلم والذكر عن أحد.
-
واجب الالتزام: أن يكون ما نتعلمه أثرًا في سلوكنا، لا مجرد محفوظات في الأذهان.
-
واجب الشكر: أن نحمد الله على أن جعل لنا رياضًا في الدنيا نرتع فيها، تذكّرنا بروضة الجنة في الآخرة.
ولله درّ أبي إسحاق الإِبِيري، عليه رحمة الله تعالى، حين جسّد هذه المعاني في تائيته، إذ قال:
وإن أُوتيتَ فيه طويلَ باعٍ ** وقال الناسُ إنَّكَ قد سبقتا
فلا تأمنْ سؤالَ اللهِ عنهُ ** بتوبيخٍ: عَلِمتَ فهل عملتا؟
فرأسُ العلمِ تقوى اللهِ حقًّا ** وليس بأن يُقال: لقد رأستا
وضافي ثوبِكَ الإحسانُ لا أنْ ** تُرى ثوبَ الإساءةِ قد لبستا
إذا ما لم يُفِدْكَ العلمُ خيرًا ** فخيرٌ منه أن لو قد جهلتا
هكذا، يصبح المرور بين المنبر والقبر تذكيرًا بأن الحياة كلها مسافة بين تلقي الهداية والعمل بها، وأن رياض الجنة في الأرض ما هي إلا فرص متكررة لنحقق في كل يوم جزءًا من تلك الأمانة. ومن وفّى الحقوق وأدى الواجبات في هذه المسافة، فاز بالروضة الكبرى يوم يلقى الله.
فالمنبر موضع القول، حيث ارتفع صوت الحق بالبيان، وانطلقت كلمات النور لتبدد ظلمات الباطل، والقبر موضع الفعل، حيث يرقد من جسّد ما قال، وصدق ما وعد، ووافق عمله قوله؛ فلم تكن كلماته شعارات، بل منهج حياة. وبين القول والفعل ميزان دقيق، لا يستقيم إلا إذا حمل القلب الأمانة، وأعطى كل ذي حق حقه.
وفي هذه المسافة يتجلى أيضًا الصراع الأزلي بين الثابت والمتغير؛ فالثابت هو الوحي الذي لا يتبدل، والحق الذي لا يزول، والمتغير هو واقع الناس، وأحداث الزمن، وتبدل الأحوال. ومن الحكمة أن نمد الجسر بين الثابت والمتغير، فنثبت على الأصول التي لا تتغير، ونجيد التعامل مع المستجدات بما يحفظ جوهر الحق.
أما الحق والباطل، فهما حاضران في كل خطوة من هذه المسافة؛ فالمنبر كان ساحة لبيان الحق ورد الباطل، والقبر شاهد على انتصار الحق ولو بعد حين. إن السير بينهما تذكير بأن الحق لا يُحفظ إلا بالعمل به، وأن الباطل لا يزول إلا بمقاومته بالصبر والحكمة.
إن المسافة بين الروضة والرياض هي مسافة بين القول والفعل، وبين الثابت والمتغير، وبين الحق والباطل، وهي دعوة لأن نجعل من حياتنا كلها عبورًا واعيًا بين هذه المعاني، وأن نملأ هذا العبور بالحقوق المؤداة، والواجبات المستوفاة، حتى نصل يوم القيامة إلى روضة لا تزول، ونعيم لا يزول.
بارك الله فيكم، وإلى مقال آخر، وبالسداد والتوفيق.
أخوكم: يونس محمد صالح
- الكلمات الدلالية
- بأقلام الأئمة
د. يونس محمد صالح الزلاوي