Posted on Leave a comment

كيف تحقق خطبة الجمعة في أوروبا مقاصدها؟ (الجزء الثاني)

عشرة معالم لخطبة الجمعة بأوروبا

في مقالنا هذا نكمل ما بدأناه في سابقه عن كيفية تحقيق مقاصد خطبة الجمعة، ونَروم هنا تحديدَ أهم المعالم والمعايير التي ننشدها. وأؤكد أنِّي أفَدتُ من نقاشاتٍ واسعةٍ مع ثلةٍ مباركةٍ من العلماء والدعاة على الساحة الألمانية والأوروبية وحواراتٍ مع الشباب وجمهور المساجد.

إن أهم ما ينبغي أن تتحلى به خطبة الجمعة وتراعيه ما يلي:

1- أن تلامسَ الخطبةُ واقع الناسِ وهمومَهم

 وتُحيط خُبْراً بما يكابدونه وما يَلقوْنه من صعوباتٍ، وما يُواجهونه من عقباتٍ وتحدياتٍ في حياتهم الفردية والأسرية. والإنسان بطبعه كلَّما حدثتَه عن نفسه مال بكُلِّيته إليك، وأصغى لك سمعه، وأحضر بين يديك قلبه، وأنْجَحُ الخُطب ما كانت وشيجة الصلةِ بالواقع، وهكذا كانت حياةُ الأنبياءِ والمرسلين حتى قيل: ” وَقَالُوا مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ۙ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا” الفرقان: 7

2– مواكبةُ الخطبةِ لنوازل الوقت وقضايا الساعة

 فمن غير المقبول أن ينشغلَ الناسُ بقضيةٍ ما، أو يعيشون حدثاً يمتد أياماً أو أسابيع حتى يغدو حديث المجالس، ثم لا يكون للمسجد رسالةٌ توجيهيةٌ تضع الضوابط والوسائل للتعامل مع الحدث وفق قاعدة المصالح والمفاسد والموازنات.

وسأذكر بعض الأمثلة:

 حَدَثٌ علميٌ معرفيٌ مثل معرض دولي للكتاب يُقام في المدينة، وهنا ينبغي أن يُوجه الخطيبُ المسلمين للإفادة من هذه التظاهرة الثقافية الكبيرة، وتمثيل حضور مميز للمؤسسات الإسلامية داخل أروقته.

 حَدَثٌ رياضىٌ عالميٌ كبيرٌ “كأس العالم لكرة القدم” فبينما العالمُ منشغل بمجرياته علينا أن نفكر تفكيراً إبداعياً في توجيه الحَدَثِ تربوياً ودعوياً ورياضياً وتواصلياً مع الشباب والمجتمع بالطريقة المناسبة، وسنجد وفرةً في النصوص والقواعد الشرعية المُؤصلة لعملنا.

– انتخابات على مستوى الدولة أو الولاية. على المساجد أن تلعب دوراً في توجيه المسلمين نحو مشاركة سياسية واعية، ونحن هنا لا ندعو لتوجيه المسلم لانتخاب حزب بعينه، لكننا نؤصل لضرورة المشاركة ومآلاتها وقواعدها ومعايير وضوابط الممارسة السياسة على النحو الذي يحقق الصالح العام للمجتمع الأوروبي وللمسلمين. ولا يصح أن نعزلَ المساجد أو يختفي دور الإمام في تحفيز المسلمين وترشيد مشاركتهم مجتمعياً وسياسياً.

 الأحداث المؤلمة – مثل اعتداء على آمنين- فيضانات حول العالم – انتهاك مقدسات- مجاعات وحروب. وعلينا أن نعالجها بحكمة بالغة، وموضوعية، وعلم دقيق، وتوجيه الناس للتفاعل مع الأحداث وفق القيم الأخلاقية والإنسانية والتزام قوانين البلاد. كما لا يصح أن يتفاعل الخطاب الإسلامي مع قضية إنسانية ويهمل غيرها على أساس ديني أو عِرْقي، فيجب أن نعلنَ تعاطفنا دوما مع كل مظلوم ومحروم وعاجز في كل مكان.

أذْكر أننا كنا نجمع التبرعات لصالح متضرري بعض الفيضانات وجاءني أحد الحضور قائلا: أريد أن أتبرع ولكن بشرط! ضاق صدري بقوله، وهممت بوقف الحديث معه، غير أنني قلت له: وما شرطك أيها النبيل؟ قال: أن يذهب مالي للمسلمين فقط!  انتظرت برهة، ولم ينطلق لساني بكلمة، ثم قلت: أي دينٍ هذا الذي يطعمُ جائعاً ويترك جاره يفترسه الجوع لأنه اختار لنفسه دينا آخر، أو رضى الحياة بغير دين؟! لقد خلقنا الله وأجرى علينا منهمرا، ولم يُعَلِّق نَواله على عبادتنا له أو جحودنا لآلائه.  صدق الله العظيم: ” قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ قَتُورًا (100) الإسراء

3- فقه المناسبة

 إذا استفدنا جيدا من المناسبات المختلفة وأحسنا توجيه المسلمين فإننا حينئذ نمضي في الطريق الأرشد نحو المحافظة على هوية الأجيال الجديدة، والتعايش مع المجتمع، وتحقيق قبول مجتمعي واسع، وحضور متميز ودعم للقيم الإنسانية حول العالم. ويجب أن نبحث ونسأل: كيف نستفيد من المناسبات الاسلامية في إحياء معانيها في نفوس المسلمين وأجيالنا الجديدة؟ مثل العام الهجري، ومولد رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسراء والمعراج، وغيرها.

إن حاجة مسلمي أوروبا لإحياء معاني وقيم هذه المناسبات كبيرة، وعلينا أن نبدع في احتفائنا بها مُلتفتين إلى أن أطفالنا يعيشون في مجتمعات تتفن وتغالي بذكرياتها، وينبغي أن نتحرر من الفتاوى العابرة للقارات التي ضيقت واسعا في حكم الاحتفال بالمناسبات الإسلامية، مُلتزمين بضوابط الشرع، وفقه وأدب الخلاف وداعين إليه.

 مناسبات محل خلاف مثل تهنئة غير المسلمين وقد مضى وقت طويل في نقاشها، والأصل أن نسأل: كيف نستفيد من هذا المناسبات في التواصل مع المجتمع بدوائره المختلفة مستحضرين الضوابط الشرعية والفتاوى المعتَبرة التي صدرت من “المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، وغير واحد من الفقهاء الراسخين.  غير أنني أشير إلى ضرورة تحلى الخطيب والداعية بالحكمة في طرح وعرض المسائل الخلافية والرفق بالمخالفين، واختيار الزمان المناسب.

 وقُل مثل ذلك في يوم الوحدة الوطنية في ألمانيا أو في أى قُطْر، أو المناسبات العالمية مثل اليوم العالمي للمرأة، اليوم العالمي لحقوق الإنسان، اليوم العالمي للبيئة، وهكذا يكون المنبر متصلاً بالحياة متفاعلاً مع الأحداث، مُمَلِّكا للناس الموازين والقواعد التي تصنع وعيا ورشدا في التعامل معها.

4- استحضار مقاصد الحضور الإسلامي في أوروبا

 بحيث تكون موجهات كلية ضابطة لخطاب الإمام والداعية في خُطبه ودروسه ومحاضراته، ومن أهم هذه المقاصد الكبرى ما يلي:

 التحقق بالرحمة العالمية للرسالة القرآنية التي تتجلي في كافة جوانب تعاليم الإسلام.

 ترشيد مسلمي أوروبا وتوجيههم نحو موازنة دقيقة بين الانفتاح دون تضييعٍ للفرائض أو تجاوزٍ للحدود، ومحافظة على الشخصية الإسلامية دون جمودٍ أو انكفاءٍ على الذات.

 الانتقال من الوجود الطارئ إلى المواطنة الكاملة، والتفاعل المجتمعي والمشاركة الحقيقية في بناء الأوطان ونشر العمران.

 المساهمة في ترسيخ القيم الإنسانية الكبرى في العالم، مثل العدل والمساواة، والتعاون على الخير ونبذ الكراهية والعنف وجميع صور العنصرية.

ونُحب أن نثمن جهود المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث والمؤسسات الإسلامية الكبرى على الساحة الألمانية والأوروبية في التأصيل والتنظير لتلك المقاصد والقيم.

5- العناية بالفقه الوقائي

 وهو القائم على تحصين المسلمين عَقَديا وروحيا ونفسيا من تيار الشبهات والشهوات، بحيث تنشأ أجيال المسلمين سليمة العقيدة، متوازنة الفكر، معتزة بدينها، منتمية لوطنها، نافعة للناس، ناشرة للخير والسلام.

6- أن يُجسد خطابُ الإمام روح الأخوة الإسلامية والإنسانية

 فيشعر كل مسلم أنه جزء من المسجد وجزء من الأمة، وإذا كنا نُصلى في المسجد التركي، أو البوسنوي، أو الأفغاني صفا واحدا، فيجب أن تكون الروح داخل المسجد واحدة، ومن هنا لا يشعر الداخل إليه بأنه غريب عن أهله.

أفطرتُ يوما في شهر رمضان في مسجد لإخواننا الأتراك وما كنتُ أعرف أحدا فيه، وقد سرَّ قلبي، وأنعش روحي ما وجدته منهم، رأيتُهم يتسابقون في خدمتي، والتلطف معي والترحيب بي، فكلهم كانوا أتراك وأنا الوحيد بينهم العربي فما شعرت إلا أني كأحدهم، وهكذا تكون الأخوة الإسلامية.

فتاة أمريكية غير مسلمة شاركتنا الإفطار في شهر رمضان منذ 4 سنوات، وكان أكثر ما تأثرت به هو مشهد الإفطار الجماعي والروح العجيبة التي لم تجدها في مكان آخر – بحسب تعبيرها-كما قالت إنها قد لاقت ترحيبا كبيرا من النساء كأنها فرد من عائلة واحدة كبيرة.

7- تغليب اللغة الإيجابية

وبث روح الأمل في نفوس الجماهير وهَجْر لغة التشاؤم وجَلْد الناس، والعناية بطرح الحلول العملية المناسبة لما يتجدد من مشكلات في حياتهم.

8- أن تتحلى الخطبة

 باللغة السليمة السهلة، والاستدلال المناسب، والأحاديث الصحيحة مع الإيجاز في الشرح وحسن توجيه النصوص، وتجميلها ببعض الشعر، والقصة المعبرة، وليجعل الإمام نصيبا من دعائه للبلاد وأهلها.

9- رعاية وقت الخطبة

 فالجمهور في أوروبا يختلف عنه في العالم الإسلامي، ويوم الجمعة يوم عمل وهناك كثير من المسلمين يقتنصون ساعة لأداء الصلاة ثم يعودون إلى أعمالهم، وفي حالة إطالة الخطبة تتحول إلى عقوبة فيفقد ما وجده منها ويترقب بفارغ الصبر قول الإمام ” أقم الصلاة “

10- الاهتمام بقضايا وهموم الشباب والأجيال الجديدة

وفهم التحديات التي تواجههم، والصعوبات التي تعترض حياتهم الدينية والدنيوية. وقد وجدتُ أنَّ أحد أهم أسباب انصراف شريحة كبيرة من الشباب عن المساجد أن الخطاب المُقدَّم لهم – في كثير من الأحيان –  لا يُعَبر عنهم، ولا يَشعر بآلامهم، ولا يَستوعب واقعهم.

على الإمام أخيرا أن يشارك جمهوره الرأي، ويفتح نوافذ بينه وبينهم، ويقبل نصحهم ونقدهم ويسمع مقترحاتهم لتكون خطبته عاكسة لما يشغلهم وما يهمهم.

Posted on Leave a comment

كيف تحقق خطبة الجمعة في أوروبا مقاصدها؟ (الجزء الأول)

8 ملاحظات ينبغي أن يتجنبها الخطيب المؤثر في أوربا

في كل يوم جمعة ينطلق مئات الملايين من المسلمين حول العالم، وجموعٌ كبيرةٌ من مسلمي أوروبا إلى ساحات المساجد، وقد خَلَّفوا ما وراءهم من علائق الحياة وصوارفها، استجابة لنداء الله جلَّ في علاه.. “إذا نودي للصلاة”.

والسؤال هنا: هل يعيشون حقاّ معنى يوم الجمعة، ويَتَلهفون لما سَيُلقيه عليهم خطيبهم من بيانٍ يُرَشِّدُ سلوكهم، وينظمُ شؤونهم ويُشَكِّلُ وعيهم، ويحافظُ على هويتهم، ويصف لهم الأدوية الشافية للعلل النفسية، والأسقام الروحية، والأمراض الاجتماعية، ويُعينهم على وَصْل ما انقطع من حبالٍ بينهم وبين ربهم؟ أم تَحَول الذهاب للمسجد يوم الجمعة إلى ما يشبه العادة، أو الواجب الذي عليه أن ينتهي صاحبه منه سريعا وقد أراح ضميره كأنه ألقى عنه ثِقَلا!

أعرف شباباً في عددٍ من المدن الألمانية لا يصلون الجمعة إلا في مساجد الأتراك، حيث لا تتجاوز الخطبة 7دقائق فأسألهم عن السبب، يقولون: يحبسنا الإمام بالمسجد العربي قرابة 40 دقيقة ولا نَخْرج بشيءٍ عملي من الخطبة، لهذا نصلى بالمسجد التركي، ونكون قد أدينا الفريضة ولو لم نفهم من الخطبة شيئا، قلت: ماذا بقي للشباب إذا افتقدوا لخطاب يُزَكِّى نفوسهم، ويُلْهب عقولهم، ويُقوي علاقتهم بدينهم ومجتمعهم وأمتهم؟!

إن لِخطبة الجمعة في حياة المسلمين أهمية كبرى، لو أدركنا رسالتها، واستثمرنا فرضيتها، ولئن كانت بهذا القدر من الأهمية في العالم الإسلامي، فإنها أهم وأجدر بالرعاية والتطوير في أوروبا، وذلك لما تلعبه المساجد من أدوار مركزية في حياة مسلمي الغرب عامة.

لقد تَعقَّدت مهمة الخطيب اليوم تعقيدا شديدا في ظل المشكلات المتجددة، والمعلومات المتسارعة، والشيخوخة المبكرة للمعارف، ويستطيع الآن الواحد منا أن يستمع لعشرات الخطب والمحاضرات المتميزة عبر الأجهزة الذكية أو غيرها، لذلك أصبح لزاماً على الإمام أن يبذل جهوداً كبيرة في التحصيل والتكوين، ويسعى للتجديد والتطوير على المستوى الشكلي والمضموني.

وتزداد مهمةُ الإمام صعوبةً في  أوروبا، عندما يجد نفسه قد انتقل إلى مجتمعٍ مغايرٍ في تنوعه وثقافته، وأعرافه ونظمه وقوانينه عن المجتمعات العربية والإسلامية،  مع نوازلٍ ليس لها نظير، وتشابكٍ واختلافٍ محمودٍ ومذمومٍ بين مكونات الوجود الإسلامي، وتناقضات كبيرة حاصلة، ولا يخفى ضَعف التكوين الواقعي والمعرفي بالمجتمعات الأوروبية لغةً وتاريخاً وثقافةً، مع قِلّة الإلمام عند أغلب الأئمة بالعلوم الإنسانية،  كعلم النفس وعلم الاجتماع، وغياب الفقه العميق للواقع الأوروبي بفلسفته وجذورها التاريخية وأفكاره وقيمه كما أشار إلى ذلك أستاذنا الدكتور عبد المجيد النجار في كتابة: “الآفاق الحضارية للوجود الإسلامي في الغرب” وقد أجاد فيه وأبدع، وهو كتاب هام  للإمام والداعية في أوروبا .

إنَّ ما سبق من بيانٍ لجسامة دور الإمام، يدعوه لبذل أكبرِ قدرٍ ممكن لاستيعاب طبيعة الحياة وتعقيداتها، والمشكلات وتفاصيلها، وممارسة النقد الذاتي، قياما لله بالقسط، وإدراكا للتحديات الكبيرة التي تواجه مسلمي أوروبا والأجيال الجديدة، ولتحقيق الآمال المعقودة عليه في صناعة الثقافة الراشدة، والفكر المستنير بأنوار الوحي المقدس، والاقتباس من كل معرفةٍ نافعةٍ.

واقعُ خطبة الجمعة في أوروبا لعقودٍ ثلاثةٍ قد خَلَت

تطور أداءُ الإمام في خطبة الجمعة على الساحة الألمانية والأوروبية منذ وفود المهاجرين إلى اليوم، تطوراً في الأداء والتكوين والمهارات والتأثير، فمهمة خطبة الجمعة في بدايات تأسيس المراكز الإسلامية كانت ملقاة على عاتق الطلبة والمتطوعين، وقد بذلوا جهدا كبيرا في سد هذه الثغرة إلى أن نظر القائمون على أمر المراكز الإسلامية في استقدام أئمة متفرغين لهذا الشأن، متخصصين في علوم الشريعة، فاستجلب الأتراك أئمتهم من تركيا، ومثلهم المغاربة والجزائريون في فرنسا وبلجيكا وهولندا، والهنود والباكستانيون في بريطانيا، وكذا غيرهم بدعوة الأئمة من بلادهم. وأصبح عندنا في ألمانيا أكثر من 2300 مسجد غالبية أئمتهم من خارج ألمانيا.

وقد قام الأئمة في الفترة الأولى من وجودهم بأدوار كبيرةٍ، وجهودٍ مقدورةٍ مشكورةٍ في إيقاظ المهاجرين الأولين من غفلتهم، وتنمية علاقتهم بدينهم، والمحافظة على هويتهم، وتأكيد صلتهم بأمَّتهم، وتوجيهم في تربية أبنائهم على تعاليم الإسلام وآدابه وأخلاقه، بيْد أنني أريد رصد أهم السِّمات التي غلبت على خطبة الجمعة إلى يومنا هذا من جانب نقدي أملاً في التغيير والتطوير:

1- الخطاب الحماسي العاطفي.

 الذي يُغَلِّب خطابَ القلب على العقل، وهذا النوع من الأسلوب يثير الهمة، ويحفز على الخير وصنائع المعروف، لكنه يفتقد لمقومات تحصين المسلمين من الشبهات، وصناعة الوعي عند الجماهير، لهذا يعجز كثير من المسلمين عن التعريف بالإسلام وبقيمه الحضارية ورد الشبهات في وسط الأجيال الجديدة، أو مع غير المسلمين، وهناك أسئلة حائرة وحرجة تدور في عقول أبنائنا، ولا تجد جوابا كافيا شافيا. 

2- الخطأ في معالجة بعض الملفات الحساسة بمنهجية تقليدية.

لا تراعي تلك المنهجية تغير الزمان والمكان والبيئة والحال، كملف المرأة وما فيه من إشكالات كثيرة، وملف الجهاد، وعلاقة المسلم بغير المسلم، وكلها تتطلب فهماً عميقاً، ونظراً دقيقاً، ورؤيةً واسعةُ.

قام خطيبٌ زائرٌ في مدينة ألمانية بتفسير مفهوم القوامة في الإسلام فقال: يحق للرجل أن يضرب زوجته، وكانت النتيجة هجوم إعلامي كبير بقيت آثاره للآن، ومثله في الخطأ وسوء التأويل، وضعف فقه التنزيل كثير، وكم من عبارة خاطئة أودت بجهود متطاولة.

3- ضعف التدقيق في العبارات التي يجب أن تراعي السياق الألماني والأوروبي.

عند معالجة بعض قضايا العالم الإسلامي، يجب أن نكون حذرين في استعمال المصطلحات والعبارات التي قد تبدو لنا مألوفة أو ليس لها دلالات سلبية – من وجهة نظرنا – لكن عند الرجوع لأهل الثقة والعلم بالواقع نجد أننا نتورط كثيرا عندما لا نراجع أهل الخبرة ونعلم محاذير وضوابط الخطاب في ظل تصاعد ظاهرة الإسلاموفوبيا ووصول اليمين المتطرف إلى صناعة القرار داخل حكومات أوروبية عديدة.

فهل يُعقل أن يدعو في مؤتمر جامع إلى تطبيق الشريعة في ألمانيا، ومثله يقلده في دول أوروبية عديدة، وآخر يتناول قضيةَ الجهاد في خطبة الجمعة كأنه على أعتاب بين المقدس وأكنافه، ولا يدري ما يؤول إليه هذا الخطاب من عواقب.

ففي مؤتمر كبير في دولة أوروبية حضره آلاف المسلمين قام بعض الدعاة -وهو يتحدث عن قضية فلسطين- بالهجوم على اليهود فوصفهم ب “أحفاد القردة والخنازير” مما أوقع المؤسسة المنظمة في حرج بالغ، ولازالت تبعات هذه العبارة ليومنا هذا، ولستُ أجيز هذه العبارة في أي مكان، فالمسلم ليس بسبَّاب ولا فاحش، كما علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

4-الغَرَق في تفاصيل ومشكلات العالم الإسلامي.

يشكو بعض المصلين بأنه يشعر أحيانا عندما يأتي الجمعة كأنه يستمع لنشرة أخبار وليس لموعظة ورسالة أسبوعية ينتظرها بشغف، وهذا اللون من الخطاب ساهم في عزلة كثير من المسلمين عن المجتمع والاهتمام بقضاياه. علينا أن نوازن بين وصل مسلمي أوروبا بأمتهم والاهتمام بقضاياها – فهو من مقتضيات العقيدة والأخوة والإنسانية – وبين واجباتنا وأولوياتنا هنا.

5- الخَلْط بين بعض مواقف الحكومات وشعوبها.

نخلط أحيانا بين مواقف بعض الحكومات الأوروبية المتحيزة ضد قضايا العالم الإسلامي – وشعوبها، ولا نوضح الخطوط الفاصلة بينهما، فقضية فلسطين مثلا لها مناصرون كُثر من الشعوب الأوروبية على كافة المستويات، وكثير منا يعلم بالمظاهرات المليونية التي خرجت في شوراع أوروبا تعلن رفضها للحرب على العراق عام 2002، فغض الطرف وعدم تثمين تلك المواقف، ينتج عقولا لا تتحلى بالعدل والإنصاف، وإظهار محاسن الآخرين.

6- الخطاب الاجتراري الاستهلاكي

أقصد به اجترار ماضي الأمة الإسلامية، والاقتصار على جيل الصحابة والسلف الصالح في ضرب المثال في الصدق والأمانة والورع والهمة العالية إلخ، مع ضعف العناية بالنماذج المعاصرة المتميزة، مما وسَّع الفجوة بين المثال والواقع، وكأننا أمام متحف للتاريخ لا يتكرر مرات ومرات.

ويدخل في هذا الخطاب، تكرار الموضوعات دون تجديد في العرض والمضمون، أو الخطب المُعَدة سلفا والتي تفتقد عند الأداء لشخصية الخطيب وروحه.

7- الخطاب الاستعلائي

قال تعالى: “كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، كيف نفسر الآية الكريمة؟

نعم نحن خير أمة أخرجها الله للناس، لتحمل لهم الخير والسعادة والسلام، متوسلين لهذه الغاية أفضلَ الوسائل وأنبلها، وألطفَ الأساليب وأجملها، وأقومَ الطرق وأعدلها، لكنْ يجب أن نُفَرق بدقة بالغة بين الاعتزاز بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة كأعدل وأعظم وأحكم المناهج وبين الاستعلاء الشخصي على أحد من الناس، فالخيرية عطاء وأداء، ومشاركة وبناء، وتواضع ووفاء.

فالاعتزاز لا يكون بالدم ولا بالنسب، ولا بالعِرْق، إنما بالمباديء والأخلاق والقيم، وصناعة الخير، وبناء الإنسان، وإصلاح الأرض، وعمارة الحياة، إننا لا نبني أمجادنا على أنقاض غيرنا، ولا نظهر أجمل ما عندنا بإبراز عيوب الآخرين، لقد أسفت كثيرا عندما استمعت لخطيب وهو يتحدث عن الطهارة والنظافة في الإسلام بقوله: إنَّ الألمان لا يعرفون الطهارة والنظافة وووو.. هلاَّ سكت فغنم وسَلِم، فكان خيرا لنا وله؟

وآخرُ من شَكله يُعمم رسالةً طويلةً عبر وسائل التواصل تؤرخ للنظافة عند الأوروبيين وكيف أنهم لم يعرفوا عادة الاستحمام قرونا طويلة! أضرب كفي عجبا ما هي الرسالة النبيلة التي تبتغيها من هذا المنشور الكبير؟! أهذا طريق النبيين والمرسلين مع أقوامهم؟ أهذا مسلك يُكسبنا القلوب ويجلب لنا المحبة والتقدير؟! أهذه نفسية من يحمل الخير للناس ويرجو لهم النجاة؟ علينا أن نرسخ فقه تكامل الحضارات لا تصادمها، وضرورة العيش المشترك وفق قواعده وأصوله.

لماذا يُصر بعض الدعاة إلى اليوم على استفزاز وتخويف المجتمع من حيث يدري أو لا يدرى؟! تراه سائقا لنصوص صحيحة لكنَّ المناخ الزماني والظرفي غير ملائم البتة، مثل النصوص التي تبشر بأن هذا الدين لن يدع بيت مدر ولا وبر إلا دخله، وكم شكى بعض إخواننا في روما من بعض الخطباء الزائرين من الدول العربية أو من المقيمين الذين لا يدققون في العبارات ولا يدركون مراميها فيصرخ على المنبر “فُتحت رومية”!

ماذا ينتظر الداعية من أجهزة الإعلام وغيرها بعد ترجمة هذا الحديث؟! يجب أن ندرك أننا لا نعيش وحدنا، وأن هناك من يُحصى علينا كلماتنا، ويفسرها على أوجه كثيرة، ولماذا نترك فرصة للنيل منا والتشهير بنا واستنزاف أوقاتنا وجهودنا وتخويف الناس منا بعبارات حماسية تندَّ منا دون أن يكبح جماحها نظر العقل؟!

أتعجب عندما أسمع بعض الدعاة في إسبانيا يتحدث عن تاريخ المسلمين في الأندلس مبشراً باستردادها مرة أخرى، ولا يدرى أنه يُعجل باستعداء القريب علينا قبل البعيد، وعبارات استفزازية من نوع: أن أوروبا حبلى بالإسلام وأنها ستتحول إلى قارة إسلامية بعد عدة عقود!

8- ضَعْف العناية بترجمة خطبة الجمعة.

لا نجد اهتماما كما ينبغي بترجمة الخطب والمحاضرات للمسلمين الجدد أو الجيل الجديد الذي نبت في أوروبا، مما ترتب عليه نفور عدد كبير من الشباب من المساجد، ومعظم المساجد التي تقوم بالترجمة تقتصر على ترجمة خلاصة الخطبة في بضع دقائق!

ويؤسفنى عندما أرى بعض المصلين يستكثر بضع دقائق لترجمة الخطبة لمن لم يفهم العربية، بينما يصبر الأخير نصف ساعة أو أكثر على الخطبة بالعربية وهو لا يفهم منها شيئا! إن فرض الوقت أن نستدرك ما فاتنا، وأن نصحح أخطاء الماضي البعيد والقريب، ليعتدل الميزان وتستقيم الطريقة.

 نكمل في المقال القادم- بحول الله تعالى- حول تطور أداء الإمام في أوروبا، وأهم معايير الخطبة التي نتطلع إليها التي تحقق الغاية المنشودة منها. ودور الجمهور في صناعتها.

Posted on Leave a comment

فتوى حول ضرورة الاعتماد على أهل الطب والاختصاص في موضوع لقاح كورونا فايزر

فقد وردت إلينا مجموعة من الاستشارات والاستفسارات حول التطعيم بلقاح كورونا ، وبخاصة لقاح (فايزر).

الجواب:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد

فمع الأسف الشديد خاض في هذه المسألة بعض الدعاة غير المتخصصين في الفقه الإسلامي وأصوله ، ومقاصده ، وكذلك بعض العامة من الناس، فأثاروا حول اللقاح الجديد لغطاً كثيراً ، وأود أن أبين هنا بعض القواعد الأساسية للفتوى .

القاعدة الأولى : لا يجوز الافتاء إلاّ لمن كان أهلاً له ، بأن يكون عالماً بالكتاب والسنة وأصول الفقه ، والمقاصد ، والمآلات ، وإلاّ فهو داخل في قوله صلى الله عليه وسلم : ( أجرؤكم على النار أجرؤكم على الفتوى) [1].

القاعدة الثانية : أن القضايا العلمية والطبية والتخصصية يرجع أمرها وبيانها إلى أهل الاختصاص والتخصص، فقال سبحانه (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[2] وقال تعالى: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا)[3]

وبناء على ذلك ، فبما أن الجهات المتخصصة لهذا اللقاح قد أقرّته واعتمدته ، وأثبتت فوائده وتأثيره ، فإن الفتوى تبنى على ذلك ، بل إن الفتوى بالإباحة تعتمد على الغالب المؤثر، ولا تحتاج إلى النسبة الكاملة، بدليل قوله تعالى (وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا)[4] ولذلك اتفق الفقهاء على أن أيّ شيئ تكون منافعه أكبر وأكثر فإن حكمه المشروعية .

القاعدة الثالثة: أن حكم اللقاح هو حكم العلاج ترد عليه الأحكام الشرعية حسب المصالح والمنافع ، أو المضار والمفاسد ، وهذا ما يقرره أهل الطب والاختصاص .

لذلك فإذا أقرت الجهات الطبية ان هذا اللقاح ضروري ولازم لفئة معينة أو لأشخاص معينيين ، فإن هذا الإلزام معتبر شرعاً حفاظاً على مقاصد الشريعة في حفظ النفس والعقل ، وحفظ المجتمع ومنع العدوى والانتشار ، حيث هناك قرارات جماعية توجب العلاج في حالة العدوى اعتماداً على الحديث الثابت ( لا ضرر ولا ضرار )[5]  .

هذا والله أعلم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

كتبه الفقير إلى ربّه

أ.د. علي محيي الدين القره داغي

الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

الدوحة  في 11 جمادى الأولى 1442ه  الموافق 26 ديسمبر 2020م  


[1] رواه الدارمي (157) وقال ابن حزم في المحلى (9/2821) : (إسناده ثابت ) وقال الألباني : ( إسناده جيد لولا إرساله) 

[2]  سورة النحل / الآية 43

[3]  سورة الفرقان / الآية 59

[4] سورة البقرة / الآية 219

[5]  رواه مالك في الموطأ (2/745) وجزم بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والشافعي في الأم (8/639) وأحمد في مسنده (1/313 ، 5/327) والبيهقي (8/117) وابن ماجه في سننه ، كتاب الأحكام (2/784) والحديث صححه لكثرة طرقه المناوي في فيض القدير ، والألباني في الارواء (3/413) وحسنه النووي ، واحتج به محمد بن الحسن الشيباني ، وهذا الحديث يعتبر قاعدة عامة من أهم قواعد الشريعة الاسلامية ومبدءاً عاماً من أهم مبادئ التشريع في الاسلام

Posted on Leave a comment

فتوى حول ضرورة توطيد أواصر الجانب الاجتماعي والإنساني بـين المسلمين وغيرهم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد..

 فإن مما لا شك فيه أن الإسلام من خلال كتابه العظيم (القرآن الكريم) وسنة نبيّه الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة، يؤكدان على التعامل بالعدل، والبرّ والإحسان لغير المسلمين ما داموا لا يحاربوننا فقال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة : 8]، كما أمرنا الله تعالى بالتعايش السلمي معهم ، وحلّ جميع المشاكل بالحوار بالتي هي أحسن فقال تعالى : ( وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) [النحل : 125] وقال تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [العنكبوت : 46]، وكذلك أكّد الإسلام على توطيد أواصر الجانب الاجتماعي والإنساني بين المسلمين وغيرهم وبخاصة أهل الكتاب، ولذلك أجاز الزواج من نسائهم، وبذلك تصبح المرأة الكتابية أُماً لأولاد المسلمين، ووالداها جداً أو جدة، وإخوانها أخوالاً لهم، فتصبح بينهم قرابة ومصاهرة، كما أجاز أكل طعامهم، وأن يأكلوا من طعامنا، كل ذلك لتقوية الجانب الاجتماعي، فكيف إذن يمنع المسلم من تقوية هذا الجانب؟

 ومن هذا الباب تأتي مسألة التهنئة بالأعياد التي تسمى كريسمس ، رأس السنة الميلادية، حيث إن أعياد رأس السنة الميلادية لم  تعد أعياداً دينية مسيحية، بل هي احتفالات عادية يقوم بها العلمانيون والمسيحيون في الغرب والشرق، كما أنها  لاتقام في الكنائس فقط ، وإنما في الشوارع ونحوها، وميلاد سيدنا المسيح عليه السلام لم يكن في بداية السنة، بل هناك خلاف في تأريخ ميلاده، والقرآن الكريم ذكر بأن السيدة مريم عليها السلام عند مخاضها التجأت إلى جذع النخلة المثمرة بالرطب فقال تعالى : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً) [مريم : 25-26] ولذلك فهم منه بعض العلماء بأن الولادة لم تكن في الشتاء ، وحتى المسيحيون مختلفون في ذلك ، فالمسيحيون الغربيون يقولون : إنه ولد في 25 ديسمبر ، أو في يناير كما يقول المسيحيون الشرقيون ، وقد ورد في إنجيل لوقا إصحاح2 ، عدد8-9-10-11 ، حكاية عن ميلاد المسيح عليه السلام يفهم منها أن ولادته كانت في وقت كان الرعي فيه ممكناً في الحقول في بداية الشتاء ، وهذا ما أكده الأسقف (بارنز)، وأكدته (دائرة المعارف البريطانية ج5ص642-643) بأن آباء الكنيسة اختاروا في عام 340م لتحديد تأريخ الاحتفال بالعيد يوم الانقلاب الشمسي في الشتاء وهو 25 ديسمبر، وقد أكد الدكتور بيك في تفسير الكتاب المقدس ص727: أن المسيح ولد في شهر أغسطس ، وكتب الدكتور جون أفير في كتابه قاموس الكتاب المقدس ص117أن: الرطب ينضج في الشهر اليهودي أيلول، وهو يطابق شهر أغسطس وسبتمبر.

 كما أن التهنئة لا يفهم منها لغة ولا شرعاً الرضا بما عليه الشخص، أو اعتناق عقيدته، وإنما هي مشاركة اجتماعية، ومجاملة إنسانية لزميلك، أو جارك، ووسيلة للتقارب والتعايش.

وبناءً على ذلك فإن قيام المسلمين الذين يعيشون مع غير المسلمين بتهنئة جيرانهم وزملائهم ومعارفهم من غير المسلمين بهذه المناسبات التي لا يقصد بها إحياء طقوس دينية خاصة بهم داخل في البرّ المأمور به، والإحسان المطلوب، ولكن بشرط أن لا يقصد المهنئ بتهنئته تأييد المنكرات المصاحبة لهذه الاحتفالات ، ولا الرضا بما لديهم من مخالفات ، ولا بالكفر والشركيات، وإنما نيته تقوية أواصر العلاقة بين المسلمين وهؤلاء لخدمة الإسلام والمسلمين في المنطقة، فهؤلاء يهنئون المسلمين حتى في أعيادهم الدينية في الغالب، فلا مانع من ردّ تهنئتهم بهذه النيّة المذكورة آنفاً فقد قال تعالى : (وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) [النساء : 86]، ولكن لا يجوز للمسلم أو المسلمة التعاون على الاثم ، ولا المشاركة في المحرمات أو الاحتفال الذي فيه المحرمات.

 وهذا رأي المجلس الأوروبي للافتاء والبحوث ، حيث جاء في فتواه: (وتتأكد مشروعية تهنئة القوم بهذه المناسبة إذا كانوا -كما ذكر السائل- يبادرون بتهنئة المسلم بأعياده الإسلامية، فقد أمرنا أن نجازي الحسنة بالحسنة، وأن نرد التحية بأحسن منها، أو بمثلها على الأقل، كما قال تعالى: (وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) [النساء:86] ولا يحسن بالمسلم أن يكون أقل كرماً، وأدنى حظاً من حسن الخلق من غيره، والمفروض أن يكون المسلم هو الأوفر – حظاً، والأكمل خلقاً، كما جاء في الحديث: “أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا” وكما قال عليه الصلاة والسلام: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).

ويتأكد هذا إذا أردنا أن ندعوهم إلى الإسلام ونقربهم إليه، ونحبب إليهم المسلمين، وهذا واجب علينا فهذا لا يتأتى بالتجافي بيننا وبينهم بل بحسن التواصل.

وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- حسن الخلق، كريم العشرة، حتى مع المشركين من قريش، طوال العهد المكي، مع إيذائهم له، وتكالبهم عليه، وعلى أصحابه. حتى إنهم -لثقتهم به عليه الصلاة والسلام- كانوا يودعون عنده ودائعهم التي يخافون عليها، حتى إنه -صلى الله عليه وسلم- حين هاجر إلى المدينة، ترك علياً رضي الله عنه، وأمره برد الودائع إلى أصحابها.

فلا مانع إذن أن يهنئهم الفرد المسلم، أو الدولة المسلمة أو المركز الإسلامي بهذه المناسبة، مشافهة أو بالبطاقات أو الرسائل العادية.

والكلمات المعتادة للتهنئة في مثل هذه المناسبات لا تشتمل على أي إقرار لهم على دينهم، أو رضا بذلك، إنما هي كلمات مجاملة تعارفها الناس.

 ولا مانع من قبول الهدايا منهم، ومكافأتهم عليها، فقد قبل النبي -صلى الله عليه وسلم- هدايا غير المسلمين مثل المقوقس عظيم القبط بمصر وغيره، بشرط ألا تكون هذه الهدايا مما يحرم على المسلم كالخمر ولحم الخنزير).

  وفي الختام نوصي إخواننا وأخواتنا بالالتزم بالأخلاق والقيم الإسلامية من الرحمة ، والبرّ والاحسان والعدل في التعامل فيما بينهم وبين غيرهم، حتى يكونوا قدوة حسنة .

هذا والله أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

كتبه الفقير إلى ربّه

أ.د. علي محيي الدين القره داغي

الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

الدوحة  في 11 جمادى الأولى 1442هـ  الموافق 26 ديسمبر 2020م 

Posted on Leave a comment

عامٌ على جائحة كورونا

مضى الآن عام على ظهور وباء كوفيد 19 فشغل الناس وتسيد المشهد بلا منازع.

ومثلما كانت الجائحة حدثا مفاجئاً قلب الأوضاع العالمية، كان استمرارالفيروس وتكيُّفه وظهور سلالات جديدة منه ظاهرة مفاجئة أخرى أصابت العالم في مقتل وعطلت نشاطه في كل مناحي الحياة.

ولقد وجد المسلمون الأوربيون أنفسهم في خضم هذه الأزمة  أمام تحديات لا عهد لهم بها، كانت اختباراً جديا لمدى انخراطهم في مجتمعاتهم ومساهمتهم في رقيها وحمايتها.

ولا يخفى على أي متابع للواقع الإسلامي في الغرب في فترة الجائحة مدى الالتزام والوعي الذي ميز تفاعل المسلمين معها أفراداً ومؤسسات.

فقد كان المسلمون من أوائل الملتزمين بغلق المساجد والمؤسسات وإيقاف المناشط العامة حتى قبل صدور التعليمات الإلزامية بذلك من السلطات الرسمية، وقامت المؤسسات الشرعية الأوربية بتأطير وتوجيه كيفية التعامل مع هذه الظروف الصعبة ضمن منهج أصولي ورؤية مقاصدية، جعلت من حماية الحياة ووقاية النفس والتعاون على الخير وتحصين المجتمعات مقاصد كليةً يُترخص من أجلها في تعطيل بعض الوسائل أوالمقاصد الفرعية.

ولا يتسع المقام لذكر كل المساهمات والإنجازات التي قام بها المسلمون في بلدانهم الأوربية، ولا لذكر قائمة شهداء الواجب من الأطباء المسلمين وموظفي القطاع الطبي الذين كانوا في صدارة المتصدين لهذه الجائحة لحفظ الحياة وإحياء النفوس والتخفيف من معاناة الناس، وربما يساعد إلقاء نظرة على الجدول المرفق، الذي أعدته مؤسساتنا، على الاطلاع على هذه الجهود وتقييم هذه الاستجابة التاريخية في هذه الظروف العصيبة.

وإننا في المجلس الأوربي للأئمة، ندعو أئمتنا وعموم المسلمين في الغرب إلى مواصلة الجهد والاستمرار في العطاء وتسخير كل إمكانياتهم المادية والبشرية لخدمة مجتمعاتهم وإنجاح الخطط للقضاء على هذه الجائحة وعوده الحياة إلى نسقها الطبيعي.

كما ندعو الأئمة خصوصا إلى تذكير المسلمين بقيم التوكل على الله تعالى والصبر والمصابرة والجهد والمجاهدة، وأن يوجهوا الناس إلى استكشاف الحكم الكامنة في مثل هذه الابتلاءات، وإحياء عبادة فعل الخير وبذل المعروف من منطلق أن أحب الناس إلى الله أنفعهم إلى الناس. قال الله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (التوبة 105).

Posted on Leave a comment

تراب الأقصى ليس للمقايضة

علاقة السياسة بسائر أحكام ديننا الإسلامي كانت وستظل المعضلة العقدية والفقهية والاجتماعية الكبرى في أمتنا خاصة، وفي كل أمم الأرض عامة.
وإن كانت قضايا السياسة من كبرى المعضلات ، فإن مسألة الرئاسة والحكم أو بلغة الفقهاء (الإمامة والملك) هي أشدهن خطرا وتعقيدا وأثرا .
أول فتنة دامية بين أفضل جيل، كانت بسبب السياسة، وفي القلب منها الحكم !
وأول فرق و طوائف تشكّلت(الشيعة والخوارج) كانت بسبب السياسة وفي القلب منها الحكم.!
ولم يُسل سيفٌ في تاريخنا كما سُل لأجل قضية الإمامة – كما قال الشهرستاني.
ولا شيء حيّر الفقهاء والعلماء والمثقفين مثل معادلة السياسة والحكم،
وعندما ولجت الحركة الإسلامية المعاصرة أبواب السياسة، كانت قد ورثت أحد المعضلات القديمة وهي “انفصال السلطان عن القرآن” اي انفصال السياسة عن الفقه بمعناه العام، فانفصل الأداء السياسي لبعض الحركات الإسلامية عن التوجيه الفكري والفقهي العام، بحجة أن الفقيه والمفكر لا دراية له بالواقع السياسي.
ولجت الحركات الإسلامية أبواب السياسة، بخلفية دعوية وخاضت غمارها تحت شعار المرجعية الإسلامية، فوجدت نفسها وجها لوجه مع المعضلة المتجددة، والعرف المتجذر، ووقعت في خضخاض التناقضات بين ما ترفع من شعار وما تخوضه من غمار،وتوسلت برجال ليسوا على درجة من التكوين الفكري والفقهي والنفسي والتربوي، فلا هي التي حافظت على أماني الداعية وثوابته ومثاليته في حدود الواقع ، ولا هي التي استجابت لمنطق السياسي ومتغيراته وواقعيته بضوابط الواجب، فتعذر الجمع بين الواقع والواجب على حد تعبير ابن القيم رحمه الله.
ما نخشاه على السياسي الصالح، أن يستدرج ببطء، أو يُستكره بلؤم، للوقوع في فخ المادية الغربية والهبوط في دركات الحداثة، فيتنكّر لدور المثال، والنموذج، والقيم في توجيه الفعل السياسي؛ بحيث يستمد مشروعية فعله السياسي وقيمته من “مجرد وقوعه” حتى يُمسي “الواقع” قيمة كبرى ومحدداً، وأرضاً، وسقفاً في آن واحد، فتضيع القيم تحت مطرقة الواقع، وتتآكل الثوابت تحت سطوة السلطان واستدراج الحيازة. ويصبح غاية نجاحه أن يبقى في مطبخ السياسة، وإن أخذ ركنا مؤقتا يطهو فيه بقايا لحم خنزير.
نحن هنا لا نتكلم عن وسائل سياسية من هدنة وموادعة وصلح، حكمها النظر في العلل والمآلات وتغليب المصالح، إنما أتكلم عن ثوابت وقيم ومباديء راسخات، فالأقصى آية في كتاب الله، لا نقبل فيه تأويلا ولا تحريفا ولا انتحالا، وتراب فلسطين تراب لكل المسلمين، لا فرق بينه وبين صحراء ولا أحراش ولا قيعان، وإن دنس سايكس وبيكو ترابنا بخطوطهم فلا اقل من أن نطهر قلوبنا وعقولنا منها، ومن عجز عن استرداد حقه، فقايض ترابَ فلسطين بتراب داره، فقد خان أمانة العلم والدين، وكذبَ على عامة المسلمين، وفي صمته مندوحة عن الكذب.