كيف تحقق خطبة الجمعة في أوروبا مقاصدها؟ (الجزء الأول)

الشيخ طه عامر

الشيخ طه عامر

8 ملاحظات ينبغي أن يتجنبها الخطيب المؤثر في أوربا

في كل يوم جمعة ينطلق مئات الملايين من المسلمين حول العالم، وجموعٌ كبيرةٌ من مسلمي أوروبا إلى ساحات المساجد، وقد خَلَّفوا ما وراءهم من علائق الحياة وصوارفها، استجابة لنداء الله جلَّ في علاه.. “إذا نودي للصلاة”.

والسؤال هنا: هل يعيشون حقاّ معنى يوم الجمعة، ويَتَلهفون لما سَيُلقيه عليهم خطيبهم من بيانٍ يُرَشِّدُ سلوكهم، وينظمُ شؤونهم ويُشَكِّلُ وعيهم، ويحافظُ على هويتهم، ويصف لهم الأدوية الشافية للعلل النفسية، والأسقام الروحية، والأمراض الاجتماعية، ويُعينهم على وَصْل ما انقطع من حبالٍ بينهم وبين ربهم؟ أم تَحَول الذهاب للمسجد يوم الجمعة إلى ما يشبه العادة، أو الواجب الذي عليه أن ينتهي صاحبه منه سريعا وقد أراح ضميره كأنه ألقى عنه ثِقَلا!

أعرف شباباً في عددٍ من المدن الألمانية لا يصلون الجمعة إلا في مساجد الأتراك، حيث لا تتجاوز الخطبة 7دقائق فأسألهم عن السبب، يقولون: يحبسنا الإمام بالمسجد العربي قرابة 40 دقيقة ولا نَخْرج بشيءٍ عملي من الخطبة، لهذا نصلى بالمسجد التركي، ونكون قد أدينا الفريضة ولو لم نفهم من الخطبة شيئا، قلت: ماذا بقي للشباب إذا افتقدوا لخطاب يُزَكِّى نفوسهم، ويُلْهب عقولهم، ويُقوي علاقتهم بدينهم ومجتمعهم وأمتهم؟!

إن لِخطبة الجمعة في حياة المسلمين أهمية كبرى، لو أدركنا رسالتها، واستثمرنا فرضيتها، ولئن كانت بهذا القدر من الأهمية في العالم الإسلامي، فإنها أهم وأجدر بالرعاية والتطوير في أوروبا، وذلك لما تلعبه المساجد من أدوار مركزية في حياة مسلمي الغرب عامة.

لقد تَعقَّدت مهمة الخطيب اليوم تعقيدا شديدا في ظل المشكلات المتجددة، والمعلومات المتسارعة، والشيخوخة المبكرة للمعارف، ويستطيع الآن الواحد منا أن يستمع لعشرات الخطب والمحاضرات المتميزة عبر الأجهزة الذكية أو غيرها، لذلك أصبح لزاماً على الإمام أن يبذل جهوداً كبيرة في التحصيل والتكوين، ويسعى للتجديد والتطوير على المستوى الشكلي والمضموني.

وتزداد مهمةُ الإمام صعوبةً في  أوروبا، عندما يجد نفسه قد انتقل إلى مجتمعٍ مغايرٍ في تنوعه وثقافته، وأعرافه ونظمه وقوانينه عن المجتمعات العربية والإسلامية،  مع نوازلٍ ليس لها نظير، وتشابكٍ واختلافٍ محمودٍ ومذمومٍ بين مكونات الوجود الإسلامي، وتناقضات كبيرة حاصلة، ولا يخفى ضَعف التكوين الواقعي والمعرفي بالمجتمعات الأوروبية لغةً وتاريخاً وثقافةً، مع قِلّة الإلمام عند أغلب الأئمة بالعلوم الإنسانية،  كعلم النفس وعلم الاجتماع، وغياب الفقه العميق للواقع الأوروبي بفلسفته وجذورها التاريخية وأفكاره وقيمه كما أشار إلى ذلك أستاذنا الدكتور عبد المجيد النجار في كتابة: “الآفاق الحضارية للوجود الإسلامي في الغرب” وقد أجاد فيه وأبدع، وهو كتاب هام  للإمام والداعية في أوروبا .

إنَّ ما سبق من بيانٍ لجسامة دور الإمام، يدعوه لبذل أكبرِ قدرٍ ممكن لاستيعاب طبيعة الحياة وتعقيداتها، والمشكلات وتفاصيلها، وممارسة النقد الذاتي، قياما لله بالقسط، وإدراكا للتحديات الكبيرة التي تواجه مسلمي أوروبا والأجيال الجديدة، ولتحقيق الآمال المعقودة عليه في صناعة الثقافة الراشدة، والفكر المستنير بأنوار الوحي المقدس، والاقتباس من كل معرفةٍ نافعةٍ.

واقعُ خطبة الجمعة في أوروبا لعقودٍ ثلاثةٍ قد خَلَت

تطور أداءُ الإمام في خطبة الجمعة على الساحة الألمانية والأوروبية منذ وفود المهاجرين إلى اليوم، تطوراً في الأداء والتكوين والمهارات والتأثير، فمهمة خطبة الجمعة في بدايات تأسيس المراكز الإسلامية كانت ملقاة على عاتق الطلبة والمتطوعين، وقد بذلوا جهدا كبيرا في سد هذه الثغرة إلى أن نظر القائمون على أمر المراكز الإسلامية في استقدام أئمة متفرغين لهذا الشأن، متخصصين في علوم الشريعة، فاستجلب الأتراك أئمتهم من تركيا، ومثلهم المغاربة والجزائريون في فرنسا وبلجيكا وهولندا، والهنود والباكستانيون في بريطانيا، وكذا غيرهم بدعوة الأئمة من بلادهم. وأصبح عندنا في ألمانيا أكثر من 2300 مسجد غالبية أئمتهم من خارج ألمانيا.

وقد قام الأئمة في الفترة الأولى من وجودهم بأدوار كبيرةٍ، وجهودٍ مقدورةٍ مشكورةٍ في إيقاظ المهاجرين الأولين من غفلتهم، وتنمية علاقتهم بدينهم، والمحافظة على هويتهم، وتأكيد صلتهم بأمَّتهم، وتوجيهم في تربية أبنائهم على تعاليم الإسلام وآدابه وأخلاقه، بيْد أنني أريد رصد أهم السِّمات التي غلبت على خطبة الجمعة إلى يومنا هذا من جانب نقدي أملاً في التغيير والتطوير:

1- الخطاب الحماسي العاطفي.

 الذي يُغَلِّب خطابَ القلب على العقل، وهذا النوع من الأسلوب يثير الهمة، ويحفز على الخير وصنائع المعروف، لكنه يفتقد لمقومات تحصين المسلمين من الشبهات، وصناعة الوعي عند الجماهير، لهذا يعجز كثير من المسلمين عن التعريف بالإسلام وبقيمه الحضارية ورد الشبهات في وسط الأجيال الجديدة، أو مع غير المسلمين، وهناك أسئلة حائرة وحرجة تدور في عقول أبنائنا، ولا تجد جوابا كافيا شافيا. 

2- الخطأ في معالجة بعض الملفات الحساسة بمنهجية تقليدية.

لا تراعي تلك المنهجية تغير الزمان والمكان والبيئة والحال، كملف المرأة وما فيه من إشكالات كثيرة، وملف الجهاد، وعلاقة المسلم بغير المسلم، وكلها تتطلب فهماً عميقاً، ونظراً دقيقاً، ورؤيةً واسعةُ.

قام خطيبٌ زائرٌ في مدينة ألمانية بتفسير مفهوم القوامة في الإسلام فقال: يحق للرجل أن يضرب زوجته، وكانت النتيجة هجوم إعلامي كبير بقيت آثاره للآن، ومثله في الخطأ وسوء التأويل، وضعف فقه التنزيل كثير، وكم من عبارة خاطئة أودت بجهود متطاولة.

3- ضعف التدقيق في العبارات التي يجب أن تراعي السياق الألماني والأوروبي.

عند معالجة بعض قضايا العالم الإسلامي، يجب أن نكون حذرين في استعمال المصطلحات والعبارات التي قد تبدو لنا مألوفة أو ليس لها دلالات سلبية – من وجهة نظرنا – لكن عند الرجوع لأهل الثقة والعلم بالواقع نجد أننا نتورط كثيرا عندما لا نراجع أهل الخبرة ونعلم محاذير وضوابط الخطاب في ظل تصاعد ظاهرة الإسلاموفوبيا ووصول اليمين المتطرف إلى صناعة القرار داخل حكومات أوروبية عديدة.

فهل يُعقل أن يدعو في مؤتمر جامع إلى تطبيق الشريعة في ألمانيا، ومثله يقلده في دول أوروبية عديدة، وآخر يتناول قضيةَ الجهاد في خطبة الجمعة كأنه على أعتاب بين المقدس وأكنافه، ولا يدري ما يؤول إليه هذا الخطاب من عواقب.

ففي مؤتمر كبير في دولة أوروبية حضره آلاف المسلمين قام بعض الدعاة -وهو يتحدث عن قضية فلسطين- بالهجوم على اليهود فوصفهم ب “أحفاد القردة والخنازير” مما أوقع المؤسسة المنظمة في حرج بالغ، ولازالت تبعات هذه العبارة ليومنا هذا، ولستُ أجيز هذه العبارة في أي مكان، فالمسلم ليس بسبَّاب ولا فاحش، كما علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

4-الغَرَق في تفاصيل ومشكلات العالم الإسلامي.

يشكو بعض المصلين بأنه يشعر أحيانا عندما يأتي الجمعة كأنه يستمع لنشرة أخبار وليس لموعظة ورسالة أسبوعية ينتظرها بشغف، وهذا اللون من الخطاب ساهم في عزلة كثير من المسلمين عن المجتمع والاهتمام بقضاياه. علينا أن نوازن بين وصل مسلمي أوروبا بأمتهم والاهتمام بقضاياها – فهو من مقتضيات العقيدة والأخوة والإنسانية – وبين واجباتنا وأولوياتنا هنا.

5- الخَلْط بين بعض مواقف الحكومات وشعوبها.

نخلط أحيانا بين مواقف بعض الحكومات الأوروبية المتحيزة ضد قضايا العالم الإسلامي – وشعوبها، ولا نوضح الخطوط الفاصلة بينهما، فقضية فلسطين مثلا لها مناصرون كُثر من الشعوب الأوروبية على كافة المستويات، وكثير منا يعلم بالمظاهرات المليونية التي خرجت في شوراع أوروبا تعلن رفضها للحرب على العراق عام 2002، فغض الطرف وعدم تثمين تلك المواقف، ينتج عقولا لا تتحلى بالعدل والإنصاف، وإظهار محاسن الآخرين.

6- الخطاب الاجتراري الاستهلاكي

أقصد به اجترار ماضي الأمة الإسلامية، والاقتصار على جيل الصحابة والسلف الصالح في ضرب المثال في الصدق والأمانة والورع والهمة العالية إلخ، مع ضعف العناية بالنماذج المعاصرة المتميزة، مما وسَّع الفجوة بين المثال والواقع، وكأننا أمام متحف للتاريخ لا يتكرر مرات ومرات.

ويدخل في هذا الخطاب، تكرار الموضوعات دون تجديد في العرض والمضمون، أو الخطب المُعَدة سلفا والتي تفتقد عند الأداء لشخصية الخطيب وروحه.

7- الخطاب الاستعلائي

قال تعالى: “كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، كيف نفسر الآية الكريمة؟

نعم نحن خير أمة أخرجها الله للناس، لتحمل لهم الخير والسعادة والسلام، متوسلين لهذه الغاية أفضلَ الوسائل وأنبلها، وألطفَ الأساليب وأجملها، وأقومَ الطرق وأعدلها، لكنْ يجب أن نُفَرق بدقة بالغة بين الاعتزاز بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة كأعدل وأعظم وأحكم المناهج وبين الاستعلاء الشخصي على أحد من الناس، فالخيرية عطاء وأداء، ومشاركة وبناء، وتواضع ووفاء.

فالاعتزاز لا يكون بالدم ولا بالنسب، ولا بالعِرْق، إنما بالمباديء والأخلاق والقيم، وصناعة الخير، وبناء الإنسان، وإصلاح الأرض، وعمارة الحياة، إننا لا نبني أمجادنا على أنقاض غيرنا، ولا نظهر أجمل ما عندنا بإبراز عيوب الآخرين، لقد أسفت كثيرا عندما استمعت لخطيب وهو يتحدث عن الطهارة والنظافة في الإسلام بقوله: إنَّ الألمان لا يعرفون الطهارة والنظافة وووو.. هلاَّ سكت فغنم وسَلِم، فكان خيرا لنا وله؟

وآخرُ من شَكله يُعمم رسالةً طويلةً عبر وسائل التواصل تؤرخ للنظافة عند الأوروبيين وكيف أنهم لم يعرفوا عادة الاستحمام قرونا طويلة! أضرب كفي عجبا ما هي الرسالة النبيلة التي تبتغيها من هذا المنشور الكبير؟! أهذا طريق النبيين والمرسلين مع أقوامهم؟ أهذا مسلك يُكسبنا القلوب ويجلب لنا المحبة والتقدير؟! أهذه نفسية من يحمل الخير للناس ويرجو لهم النجاة؟ علينا أن نرسخ فقه تكامل الحضارات لا تصادمها، وضرورة العيش المشترك وفق قواعده وأصوله.

لماذا يُصر بعض الدعاة إلى اليوم على استفزاز وتخويف المجتمع من حيث يدري أو لا يدرى؟! تراه سائقا لنصوص صحيحة لكنَّ المناخ الزماني والظرفي غير ملائم البتة، مثل النصوص التي تبشر بأن هذا الدين لن يدع بيت مدر ولا وبر إلا دخله، وكم شكى بعض إخواننا في روما من بعض الخطباء الزائرين من الدول العربية أو من المقيمين الذين لا يدققون في العبارات ولا يدركون مراميها فيصرخ على المنبر “فُتحت رومية”!

ماذا ينتظر الداعية من أجهزة الإعلام وغيرها بعد ترجمة هذا الحديث؟! يجب أن ندرك أننا لا نعيش وحدنا، وأن هناك من يُحصى علينا كلماتنا، ويفسرها على أوجه كثيرة، ولماذا نترك فرصة للنيل منا والتشهير بنا واستنزاف أوقاتنا وجهودنا وتخويف الناس منا بعبارات حماسية تندَّ منا دون أن يكبح جماحها نظر العقل؟!

أتعجب عندما أسمع بعض الدعاة في إسبانيا يتحدث عن تاريخ المسلمين في الأندلس مبشراً باستردادها مرة أخرى، ولا يدرى أنه يُعجل باستعداء القريب علينا قبل البعيد، وعبارات استفزازية من نوع: أن أوروبا حبلى بالإسلام وأنها ستتحول إلى قارة إسلامية بعد عدة عقود!

8- ضَعْف العناية بترجمة خطبة الجمعة.

لا نجد اهتماما كما ينبغي بترجمة الخطب والمحاضرات للمسلمين الجدد أو الجيل الجديد الذي نبت في أوروبا، مما ترتب عليه نفور عدد كبير من الشباب من المساجد، ومعظم المساجد التي تقوم بالترجمة تقتصر على ترجمة خلاصة الخطبة في بضع دقائق!

ويؤسفنى عندما أرى بعض المصلين يستكثر بضع دقائق لترجمة الخطبة لمن لم يفهم العربية، بينما يصبر الأخير نصف ساعة أو أكثر على الخطبة بالعربية وهو لا يفهم منها شيئا! إن فرض الوقت أن نستدرك ما فاتنا، وأن نصحح أخطاء الماضي البعيد والقريب، ليعتدل الميزان وتستقيم الطريقة.

 نكمل في المقال القادم- بحول الله تعالى- حول تطور أداء الإمام في أوروبا، وأهم معايير الخطبة التي نتطلع إليها التي تحقق الغاية المنشودة منها. ودور الجمهور في صناعتها.