تراب الأقصى ليس للمقايضة

الشيخ ونيس المبروك

الشيخ ونيس المبروك

علاقة السياسة بسائر أحكام ديننا الإسلامي كانت وستظل المعضلة العقدية والفقهية والاجتماعية الكبرى في أمتنا خاصة، وفي كل أمم الأرض عامة.
وإن كانت قضايا السياسة من كبرى المعضلات ، فإن مسألة الرئاسة والحكم أو بلغة الفقهاء (الإمامة والملك) هي أشدهن خطرا وتعقيدا وأثرا .
أول فتنة دامية بين أفضل جيل، كانت بسبب السياسة، وفي القلب منها الحكم !
وأول فرق و طوائف تشكّلت(الشيعة والخوارج) كانت بسبب السياسة وفي القلب منها الحكم.!
ولم يُسل سيفٌ في تاريخنا كما سُل لأجل قضية الإمامة – كما قال الشهرستاني.
ولا شيء حيّر الفقهاء والعلماء والمثقفين مثل معادلة السياسة والحكم،
وعندما ولجت الحركة الإسلامية المعاصرة أبواب السياسة، كانت قد ورثت أحد المعضلات القديمة وهي “انفصال السلطان عن القرآن” اي انفصال السياسة عن الفقه بمعناه العام، فانفصل الأداء السياسي لبعض الحركات الإسلامية عن التوجيه الفكري والفقهي العام، بحجة أن الفقيه والمفكر لا دراية له بالواقع السياسي.
ولجت الحركات الإسلامية أبواب السياسة، بخلفية دعوية وخاضت غمارها تحت شعار المرجعية الإسلامية، فوجدت نفسها وجها لوجه مع المعضلة المتجددة، والعرف المتجذر، ووقعت في خضخاض التناقضات بين ما ترفع من شعار وما تخوضه من غمار،وتوسلت برجال ليسوا على درجة من التكوين الفكري والفقهي والنفسي والتربوي، فلا هي التي حافظت على أماني الداعية وثوابته ومثاليته في حدود الواقع ، ولا هي التي استجابت لمنطق السياسي ومتغيراته وواقعيته بضوابط الواجب، فتعذر الجمع بين الواقع والواجب على حد تعبير ابن القيم رحمه الله.
ما نخشاه على السياسي الصالح، أن يستدرج ببطء، أو يُستكره بلؤم، للوقوع في فخ المادية الغربية والهبوط في دركات الحداثة، فيتنكّر لدور المثال، والنموذج، والقيم في توجيه الفعل السياسي؛ بحيث يستمد مشروعية فعله السياسي وقيمته من “مجرد وقوعه” حتى يُمسي “الواقع” قيمة كبرى ومحدداً، وأرضاً، وسقفاً في آن واحد، فتضيع القيم تحت مطرقة الواقع، وتتآكل الثوابت تحت سطوة السلطان واستدراج الحيازة. ويصبح غاية نجاحه أن يبقى في مطبخ السياسة، وإن أخذ ركنا مؤقتا يطهو فيه بقايا لحم خنزير.
نحن هنا لا نتكلم عن وسائل سياسية من هدنة وموادعة وصلح، حكمها النظر في العلل والمآلات وتغليب المصالح، إنما أتكلم عن ثوابت وقيم ومباديء راسخات، فالأقصى آية في كتاب الله، لا نقبل فيه تأويلا ولا تحريفا ولا انتحالا، وتراب فلسطين تراب لكل المسلمين، لا فرق بينه وبين صحراء ولا أحراش ولا قيعان، وإن دنس سايكس وبيكو ترابنا بخطوطهم فلا اقل من أن نطهر قلوبنا وعقولنا منها، ومن عجز عن استرداد حقه، فقايض ترابَ فلسطين بتراب داره، فقد خان أمانة العلم والدين، وكذبَ على عامة المسلمين، وفي صمته مندوحة عن الكذب.