كيف تحقق خطبة الجمعة في أوروبا مقاصدها؟ (الجزء الثاني)

الشيخ طه عامر

الشيخ طه عامر

عشرة معالم لخطبة الجمعة بأوروبا

في مقالنا هذا نكمل ما بدأناه في سابقه عن كيفية تحقيق مقاصد خطبة الجمعة، ونَروم هنا تحديدَ أهم المعالم والمعايير التي ننشدها. وأؤكد أنِّي أفَدتُ من نقاشاتٍ واسعةٍ مع ثلةٍ مباركةٍ من العلماء والدعاة على الساحة الألمانية والأوروبية وحواراتٍ مع الشباب وجمهور المساجد.

إن أهم ما ينبغي أن تتحلى به خطبة الجمعة وتراعيه ما يلي:

1- أن تلامسَ الخطبةُ واقع الناسِ وهمومَهم

 وتُحيط خُبْراً بما يكابدونه وما يَلقوْنه من صعوباتٍ، وما يُواجهونه من عقباتٍ وتحدياتٍ في حياتهم الفردية والأسرية. والإنسان بطبعه كلَّما حدثتَه عن نفسه مال بكُلِّيته إليك، وأصغى لك سمعه، وأحضر بين يديك قلبه، وأنْجَحُ الخُطب ما كانت وشيجة الصلةِ بالواقع، وهكذا كانت حياةُ الأنبياءِ والمرسلين حتى قيل: ” وَقَالُوا مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ۙ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا” الفرقان: 7

2– مواكبةُ الخطبةِ لنوازل الوقت وقضايا الساعة

 فمن غير المقبول أن ينشغلَ الناسُ بقضيةٍ ما، أو يعيشون حدثاً يمتد أياماً أو أسابيع حتى يغدو حديث المجالس، ثم لا يكون للمسجد رسالةٌ توجيهيةٌ تضع الضوابط والوسائل للتعامل مع الحدث وفق قاعدة المصالح والمفاسد والموازنات.

وسأذكر بعض الأمثلة:

 حَدَثٌ علميٌ معرفيٌ مثل معرض دولي للكتاب يُقام في المدينة، وهنا ينبغي أن يُوجه الخطيبُ المسلمين للإفادة من هذه التظاهرة الثقافية الكبيرة، وتمثيل حضور مميز للمؤسسات الإسلامية داخل أروقته.

 حَدَثٌ رياضىٌ عالميٌ كبيرٌ “كأس العالم لكرة القدم” فبينما العالمُ منشغل بمجرياته علينا أن نفكر تفكيراً إبداعياً في توجيه الحَدَثِ تربوياً ودعوياً ورياضياً وتواصلياً مع الشباب والمجتمع بالطريقة المناسبة، وسنجد وفرةً في النصوص والقواعد الشرعية المُؤصلة لعملنا.

– انتخابات على مستوى الدولة أو الولاية. على المساجد أن تلعب دوراً في توجيه المسلمين نحو مشاركة سياسية واعية، ونحن هنا لا ندعو لتوجيه المسلم لانتخاب حزب بعينه، لكننا نؤصل لضرورة المشاركة ومآلاتها وقواعدها ومعايير وضوابط الممارسة السياسة على النحو الذي يحقق الصالح العام للمجتمع الأوروبي وللمسلمين. ولا يصح أن نعزلَ المساجد أو يختفي دور الإمام في تحفيز المسلمين وترشيد مشاركتهم مجتمعياً وسياسياً.

 الأحداث المؤلمة – مثل اعتداء على آمنين- فيضانات حول العالم – انتهاك مقدسات- مجاعات وحروب. وعلينا أن نعالجها بحكمة بالغة، وموضوعية، وعلم دقيق، وتوجيه الناس للتفاعل مع الأحداث وفق القيم الأخلاقية والإنسانية والتزام قوانين البلاد. كما لا يصح أن يتفاعل الخطاب الإسلامي مع قضية إنسانية ويهمل غيرها على أساس ديني أو عِرْقي، فيجب أن نعلنَ تعاطفنا دوما مع كل مظلوم ومحروم وعاجز في كل مكان.

أذْكر أننا كنا نجمع التبرعات لصالح متضرري بعض الفيضانات وجاءني أحد الحضور قائلا: أريد أن أتبرع ولكن بشرط! ضاق صدري بقوله، وهممت بوقف الحديث معه، غير أنني قلت له: وما شرطك أيها النبيل؟ قال: أن يذهب مالي للمسلمين فقط!  انتظرت برهة، ولم ينطلق لساني بكلمة، ثم قلت: أي دينٍ هذا الذي يطعمُ جائعاً ويترك جاره يفترسه الجوع لأنه اختار لنفسه دينا آخر، أو رضى الحياة بغير دين؟! لقد خلقنا الله وأجرى علينا منهمرا، ولم يُعَلِّق نَواله على عبادتنا له أو جحودنا لآلائه.  صدق الله العظيم: ” قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ قَتُورًا (100) الإسراء

3- فقه المناسبة

 إذا استفدنا جيدا من المناسبات المختلفة وأحسنا توجيه المسلمين فإننا حينئذ نمضي في الطريق الأرشد نحو المحافظة على هوية الأجيال الجديدة، والتعايش مع المجتمع، وتحقيق قبول مجتمعي واسع، وحضور متميز ودعم للقيم الإنسانية حول العالم. ويجب أن نبحث ونسأل: كيف نستفيد من المناسبات الاسلامية في إحياء معانيها في نفوس المسلمين وأجيالنا الجديدة؟ مثل العام الهجري، ومولد رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسراء والمعراج، وغيرها.

إن حاجة مسلمي أوروبا لإحياء معاني وقيم هذه المناسبات كبيرة، وعلينا أن نبدع في احتفائنا بها مُلتفتين إلى أن أطفالنا يعيشون في مجتمعات تتفن وتغالي بذكرياتها، وينبغي أن نتحرر من الفتاوى العابرة للقارات التي ضيقت واسعا في حكم الاحتفال بالمناسبات الإسلامية، مُلتزمين بضوابط الشرع، وفقه وأدب الخلاف وداعين إليه.

 مناسبات محل خلاف مثل تهنئة غير المسلمين وقد مضى وقت طويل في نقاشها، والأصل أن نسأل: كيف نستفيد من هذا المناسبات في التواصل مع المجتمع بدوائره المختلفة مستحضرين الضوابط الشرعية والفتاوى المعتَبرة التي صدرت من “المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، وغير واحد من الفقهاء الراسخين.  غير أنني أشير إلى ضرورة تحلى الخطيب والداعية بالحكمة في طرح وعرض المسائل الخلافية والرفق بالمخالفين، واختيار الزمان المناسب.

 وقُل مثل ذلك في يوم الوحدة الوطنية في ألمانيا أو في أى قُطْر، أو المناسبات العالمية مثل اليوم العالمي للمرأة، اليوم العالمي لحقوق الإنسان، اليوم العالمي للبيئة، وهكذا يكون المنبر متصلاً بالحياة متفاعلاً مع الأحداث، مُمَلِّكا للناس الموازين والقواعد التي تصنع وعيا ورشدا في التعامل معها.

4- استحضار مقاصد الحضور الإسلامي في أوروبا

 بحيث تكون موجهات كلية ضابطة لخطاب الإمام والداعية في خُطبه ودروسه ومحاضراته، ومن أهم هذه المقاصد الكبرى ما يلي:

 التحقق بالرحمة العالمية للرسالة القرآنية التي تتجلي في كافة جوانب تعاليم الإسلام.

 ترشيد مسلمي أوروبا وتوجيههم نحو موازنة دقيقة بين الانفتاح دون تضييعٍ للفرائض أو تجاوزٍ للحدود، ومحافظة على الشخصية الإسلامية دون جمودٍ أو انكفاءٍ على الذات.

 الانتقال من الوجود الطارئ إلى المواطنة الكاملة، والتفاعل المجتمعي والمشاركة الحقيقية في بناء الأوطان ونشر العمران.

 المساهمة في ترسيخ القيم الإنسانية الكبرى في العالم، مثل العدل والمساواة، والتعاون على الخير ونبذ الكراهية والعنف وجميع صور العنصرية.

ونُحب أن نثمن جهود المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث والمؤسسات الإسلامية الكبرى على الساحة الألمانية والأوروبية في التأصيل والتنظير لتلك المقاصد والقيم.

5- العناية بالفقه الوقائي

 وهو القائم على تحصين المسلمين عَقَديا وروحيا ونفسيا من تيار الشبهات والشهوات، بحيث تنشأ أجيال المسلمين سليمة العقيدة، متوازنة الفكر، معتزة بدينها، منتمية لوطنها، نافعة للناس، ناشرة للخير والسلام.

6- أن يُجسد خطابُ الإمام روح الأخوة الإسلامية والإنسانية

 فيشعر كل مسلم أنه جزء من المسجد وجزء من الأمة، وإذا كنا نُصلى في المسجد التركي، أو البوسنوي، أو الأفغاني صفا واحدا، فيجب أن تكون الروح داخل المسجد واحدة، ومن هنا لا يشعر الداخل إليه بأنه غريب عن أهله.

أفطرتُ يوما في شهر رمضان في مسجد لإخواننا الأتراك وما كنتُ أعرف أحدا فيه، وقد سرَّ قلبي، وأنعش روحي ما وجدته منهم، رأيتُهم يتسابقون في خدمتي، والتلطف معي والترحيب بي، فكلهم كانوا أتراك وأنا الوحيد بينهم العربي فما شعرت إلا أني كأحدهم، وهكذا تكون الأخوة الإسلامية.

فتاة أمريكية غير مسلمة شاركتنا الإفطار في شهر رمضان منذ 4 سنوات، وكان أكثر ما تأثرت به هو مشهد الإفطار الجماعي والروح العجيبة التي لم تجدها في مكان آخر – بحسب تعبيرها-كما قالت إنها قد لاقت ترحيبا كبيرا من النساء كأنها فرد من عائلة واحدة كبيرة.

7- تغليب اللغة الإيجابية

وبث روح الأمل في نفوس الجماهير وهَجْر لغة التشاؤم وجَلْد الناس، والعناية بطرح الحلول العملية المناسبة لما يتجدد من مشكلات في حياتهم.

8- أن تتحلى الخطبة

 باللغة السليمة السهلة، والاستدلال المناسب، والأحاديث الصحيحة مع الإيجاز في الشرح وحسن توجيه النصوص، وتجميلها ببعض الشعر، والقصة المعبرة، وليجعل الإمام نصيبا من دعائه للبلاد وأهلها.

9- رعاية وقت الخطبة

 فالجمهور في أوروبا يختلف عنه في العالم الإسلامي، ويوم الجمعة يوم عمل وهناك كثير من المسلمين يقتنصون ساعة لأداء الصلاة ثم يعودون إلى أعمالهم، وفي حالة إطالة الخطبة تتحول إلى عقوبة فيفقد ما وجده منها ويترقب بفارغ الصبر قول الإمام ” أقم الصلاة “

10- الاهتمام بقضايا وهموم الشباب والأجيال الجديدة

وفهم التحديات التي تواجههم، والصعوبات التي تعترض حياتهم الدينية والدنيوية. وقد وجدتُ أنَّ أحد أهم أسباب انصراف شريحة كبيرة من الشباب عن المساجد أن الخطاب المُقدَّم لهم – في كثير من الأحيان –  لا يُعَبر عنهم، ولا يَشعر بآلامهم، ولا يَستوعب واقعهم.

على الإمام أخيرا أن يشارك جمهوره الرأي، ويفتح نوافذ بينه وبينهم، ويقبل نصحهم ونقدهم ويسمع مقترحاتهم لتكون خطبته عاكسة لما يشغلهم وما يهمهم.