كيف نواجه العنصرية؟
العنصرية مُكونة من فكر وسلوك، أما الفكر أو العقيدة: أن يعتقد إنسان أو جماعة من البشر أو شعب بتميُّزِ وتفوقِ فرد أو قبيلة أو شعب على غيره بلونه أو عِرقه أو نسبه أو دمه.
بقلم فضيلة الشيخ/ طه سليمان عامر
يعيش العالم مَوجات من الكراهية والعنصرية تتجدد كل حين، وتأخذ صوراً وأشكالاً مختلفة، ويَصْطلي بنارها ملايين البشر الذين لا يملكون حيلة ولا يهتدون سبيلا، وكأنَّ لسان حالهم يقول: من يوقف تلك الحملات المجنونة؟ وما إنْ تسكن حتى يَنفخ في رمادها أبالسة الجن والإنس، وإذا بها تشتعل مرة أخرى من مكان لآخر، ويدفع ثمنها الضعفاء دوما. ولست أدري كيف تغلَّب الجهلاء على العقلاء، وارتفعت حناجر دعاة الكراهية حول العالم وكسبوا أصواتا وأفراداً كُثر؟ هل تلك الظاهرة الممقوتة مثل زبد البحر ما إنْ يتجلَّى على سطح الماء حتى تأتيه ريح خفيفة فتذهب به، أم يطول أمده ويُعكر الماء النقيَّ الطاهر؟
ما هي المساحات التي تركها العلماء والمفكرون وأولو الألباب لحاملي راية النزعات العنصرية حتى فرَّخوا فيها، وغرسوا بين الناس نبات الحنظل، فتحولت به حياة الجماهير مُرَّا وعلقما؟ ما أومن به أن الله جلَّ في علاه خلق الخلق لمقاصد عليَّة لا تتحقق بغير التآزر الإنساني، والتعاون البشري، والتعاضد المجتمعي. قال لي بعض الشباب الطيبين: هل هناك دليل على أن الأصل في العلاقات بين الناس السلام والتعاون أم أن القَدَر الإلهي هو الصراع والتقاتل حتى البقاء أو الفناء؟ قلتُ: لو كان الأصل هو الصراع لم يكن هناك غاية من خلق الإنسان، فما حاجتنا لوحوش مفترسة في إهاب بشر؟
إن البرِّية زاخرة بصنوف الوحوش التي تعيش على موت غيرها، فحظها في البقاء هو حظ غيرها في الفناء، وهكذا تجرى قوانينهم، أما بني آدم فللمحبة والتعايش والتعاون والتعارف خلقهم الله تعالى، قال ربنا تبارك وتعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (13) سورة الحجرات. ونحن في هذه السطور نرنو إلى الوقوف على أهم أسباب العنصرية وآثارها وسبل معالجتها، متوخين الإيجاز قدر المستطاع، وقد تركت الإكثار من النصوص والشواهد والتركيز على بعض الأفكار والمقترحات بقدر ما أسعفني الوقت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
ما هي العنصرية؟
العنصرية مُكونة من فكر وسلوك، أما الفكر أو العقيدة: أن يعتقد إنسان أو جماعة من البشر أو شعب بتميُّزِ وتفوقِ فرد أو قبيلة أو شعب على غيره بلونه أو عِرقه أو نسبه أو دمه. أو أن القدرات والمواهب مخصوصة بقوم دون غيرهم. السلوك: أن يترتب على هذا التصور المُدان: حرمانٌ من الحقوق، وإلزامٌ بواجبات أكثر من غيرهم لاعتبارٍ يتعلق بالدين أو العِرق أو اللون أو الذكورة والأنوثة.
لماذا تظهر العنصرية؟
تتنوع أسباب التمييز بين الناس سواء على المستوى الفردي أو الجماعي بمستوياته المختلفة، والعنصرية ضاربة في عُمْق التاريخ الإنساني وإن بدأت شرارتها مع إمام الشر وزعيم الكراهية وحامل لواء الفتنة في العالم، إنه إبليس حينما صدر أمر من الله تبارك وتعالى أن يسجد لآدم، ولكنه رأى أنَّ مقامه أرفع من أن يسجد لآدم فقال في صفاقة واختيال "أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ".
ما دَخْل النار والطين في التفاضل هنا؟
إن الله تعالى الذي خلق الأكوان، وهو أعلم بمن خلق. وهو صاحب الخلق والأمر، وما كان لمخلوق يعلم حقيقة نفسه وقَدْر وجلال ربه إلا أن يقول سمعنا وأطعنا بيْد أن الكبر يقتل أهله ويحجزه عن المراتب العالية، واستحق غضب الله وطرده من رحمته.
"العامل النفسي مدخل للعنصرية"
قد يتصور امرؤ في لحظة غفلة أن له قدرة مستقلة يستطيع أن يهب لنفسه أو لغيره شيئا كحالة قارون "إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ"، فبماذا أجاب؟ لقد ظن أنه مالك المال والسلطان وقال في عتوِّ واستكبار، "قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي" قد يغفل بعض الأغنياء أو الأقوياء عن حقيقة الابتلاء فيما أوْلاهم الله، فيظنوا أن سعة المال وبسطة الجسم دليل كرامة من الله وتفضيل، وهنا يأتي البيان القرآني: "فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ" (16) سورة الفجر.
كما بيَّن القرآن الكريم حقيقة إنسانية نراها ماثلة، وهى القوة التي تُغري بالطغيان قال تعالى: "كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ" (7) سورة العلق. لهذا أرسل الله الرسل وأنزل الكتب ليعرف الإنسان حقيقة نفسه وحقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة، وكيف يدير علاقاته مع الناس على أساس العدل والمساواة وترسيخ معاني المواساة والتساند الإنساني. "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ ".. (25) سورة الحديد. إن التفوق والإنجاز مطلب عزيز وهو من ضروب الابتلاء في الأرض كما قال تعالى "لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا" (2) سورة الملك. ولا تصلح الحياة ولا ينهض العمران إلا بالتنافس والتسابق في الأعمال، بيْدَ أن كل إنجاز يجب أن تصحبه مقاصد نبيلة.
وفي ظل سُنَّة التدافع بين الناس قد تمتلئ صدور بعض الرجال بالحسد على من يرونه دونهم في المنزلة وإن سبقوهم في الأعمال، وقديما حسد ابن آدم أخاه وقتله فأصبح من الخاسرين، واستمرت مسيرة الأحقاد، وقال الملأ من المشركين معترضين أن يختص الله برحمته نبياً نبيلاً يتيماً من قريش، "وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ" (31) سورة الزخرف. وهكذا يفعل الحسد بأهله.
"الفكرة العنصرية ليست جديدة"
قسمة بغيضة تلك التي شهدها العالم من قديم في جميع الحضارات، اليونانية والرومانية والهندية والفارسية والجاهلية قبل الإسلام، فمن سوَّل لهم أن يجعلوا الناس طبقاتٍ بعضها فوق بعض غير إبليس؟ كيف يكون إنسان قسيما لأخيه في الخِلقة ويكون عبدا له؟! كيف تتدنى منزلته حتى لا يساوى عقال بعير؟! كيف يعتقدون أن الدم الذي يجري في عروق الملوك أنقى وأطهر من دماء الفقراء والضعفة من الجماهير الكادحة؟! لقد امتنَّ الله على الإنسان فقال جلَّ شأنه: "أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)، سورة البلد. ثم يأتي من بعد ذلك من يجعل نفسه فوق الخلائق، لا لشيء سوى الرغبة العارمة في الغلبة والهيمنة. لقد ساهم في ذلك فلاسفة كبار عبر التاريخ، وفي المجتمع الأفلاطوني لن تجد فيه مكانا لائقا بالمرأة، إنها في عيون الناس -حينئذ- من سُقْط المتاع. إن الله تعالى يفاضل بين الناس في الأرزاق والقدرات كما يفاضل بين مكونات الوجود، فألمانيا بطبيعتها غير أسبانيا غير اليونان غير السويد غير أفريقيا، وآسيا وفي كلِِ أودع الله من الخيرات والبركات، وما ذلك إلا لحكمة التنوع والتكامل والتدافع بين الناس، وليس بين الله وخلقه صلة أو نسب غير العمل. أمَّا أن يظن المرء أنَّ القدر الأعلى قد خصَّه بقدرات ومواهب لاعتبار قومي أو عِرقي أو ديني فهذا هو أصل البلاء ومكمن الداء ومستقر الشرور.
وقد أنذر الرسول صلى الله عليه وسلم أهله المقربين وبين لهم أن معقد الرجاء في الفوز والنجاة ليس بأنهم يُدلون بنسبهم منه فقال: "يا فاطمة بنت محمد اعملي فلن أغني عنك من الله شيئا…". ورسخ القرآن هذه الحقيقة وتلك القاعدة فقال تعالى: "فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ" (101) سورة المؤمنون. إن نظرية البقاء للأقوى هى التي قادت البشرية إلى الهلاك والخسران المبين، ولقد دفع العالم في الحرب العالمية الأولى والثانية ثمنا باهظا تجسَّد في عشرات الملايين من القتلى وأضعافهم من الجرحى، ودُمرت عشرات المدن والعواصم الكبرى بتلك الدعوات القومية التي زعمت أن دما أنقى من دم، وعِرقا أولى بالفضل من عِرق، فحصدوا ما زرعوا علقما لازالت آثاره باقية. ليس هناك شعب أَوْلى بالحياة من شعب. لماذا لا ينعم كل الناس بخيرات الأرض؟ لماذا تستأثر ثُلة قليلة من الناس بكنوز العالم بينما عشرات الملايين يطوون بطونهم على جوع؟ ويفترشون التراب، وتتوسد رؤوسهم الأرض والحجارة؟! أليس هذا من نتائج التفكير الذي يدفع الإنسان ليدور حول نفسه كأن الأرض قد خُلقت له ليضرب فيها يَمنة ويَسرة ولا يرى غيره؟!
"العنصرية وشهوة المال"
لقد دفع ملايين البشر حياتهم في سوق الرقيق، وعلى متن سفن ضخمة سِيقوا كالأغنام من دول أفريقيا إلى عِمارة أرض سيُقبرون في بطنها بعد حين من وصول من ينجو منهم عبر طريق طويل وشاق. وفي ظل الرغبة المحمومة في الهيمنة أُُبيدت الملايين من الهنود الحمر، وسكان أستراليا الأصليين. ستبقى هذه المرحلة جرحا غائرا في ضمير العالم يطارده في صحوه ونومه، ولقد جاء الإسلام ونظام الرقيق من أعمدة الاقتصاد في ذلك الزمان، ووجد أن أفضل منهج في منعه هو التدرج في تحريمه عبر تشريعات وأحكام تفصيلية تصون حقوقهم، وترد لهم كرامتهم، وتنادي فطرتهم أنكم بشر ممن خلق الله، واستمر في تجفيف منابعه حتى تحقق ما تطلع إليه.
هل انتهت تجارة الرق؟
لم تنتهى للأسف الشديد، فهناك الاتجار بالبشر، وتجارة ما يسمى "الرقيق الأبيض" والاتجار في الأطفال وهضم حقوق العمال حول العالم، وفي دول عربية عديدة يلقى كثير من العمال الأجانب معاملة لا تجوز مع البهائم العجماوات، وقد رأيت بنفسي بأحد الفنادق بمكة المكرمة عام 2006 مشهدا لن أنساه كيف تعامل أحد الحجاج مع عامل باكستاني بسيط وأمره أن يحمل الحقائب ونهره بشدة، فانطلقتُ للرجل صارخا لماذا تتعامل معه بهذه بالطريقة؟ أليس له قلب كقلوبنا؟ أليس له مشاعر مثلنا أليس إنسانا يتألم من الكلمة القاسية والإهانة والتحقير؟ ألم تحمله أمه تسعة أشهر مثل أمهاتنا؟ إن من يتتبع أحوال العمالة في عدد من دول الخليج سيجد كوارث إنسانية، فلا كرامة ولا حقوق لكثير منهم، وقد تعرضت كثير من العائلات السورية للطرد والتشريد ظلما -وعدوانا- من بعض هذه الدول. تطردهم دولة عربية وتفتح ذراعها لهم دول غير مسلمة ويلقون فيها الرعاية والعناية.
ماذا عن العنصرية في العالم العربي والإسلامي؟
لا تخطيء العين مظاهر وصور العنصرية التي تتجلى في بلدن من العالم العربي والإسلامي وتُمارَس على نحو واسع، إنَّ حقوق الضعفاء مهضومة، وحريات العباد مسلوبة، وكرامتهم مهدورة، وليس هناك ما يردع عن الظلم والفساد، وقد انقسمت المجتمعات إلى طوائف وشيع كل حزب بما لديهم فرحون، وكادت أو بالفعل اختفت ما يسمى بالطبقة المتوسطة، ولم يعد إلا من هو متخم بالثراء، أومثخن من العراء. وتسللت ممارسات تمييزية إقصائية عند قطاعات من تلك الشعوب، وغدت ثقافة في البيت والشارع والمدرسة والجامعة ووسائل المواصلات وأماكن العمل. وكثرت المظالم الاجتماعية بين الناس على نحو مفجع، فقلما تجد امرأة -في بعض البيئات- ترث من أبيها أو أخيها، وقلما تجد فتاة تختار زوجها بإرادتها.
وأما دعوى الجاهلية التي حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منها وأوضح أن الإسلام جاء ليذيب هذه العصبيات التي أشعلت بين العرب حروبا طاحنة، وما يحزن القلب إحياء تلك العصبيات مرة أخرى، داخل الدولة الواحدة والولاية الواحدة. إن أول خطوة نخطوها في مواجهة العنصرية أن نفتش في قلوبنا ونغربل أفكارنا ونحرر أنفسنا من كل شكل أو صورة منها، وأن نبدأ بأنفسنا أولا فنتحقق بقيمة الأخوة الجامعة، وساعتها لن نجد كثيرا من التهميش الذي يلقاه مسلمو العالم في أماكن كثيرة خارج العالم الإسلامي.
* نشرت في مدونات الجزيرة
- الكلمات الدلالية
- العنصرية
الشيخ طه عامر