Posted on Leave a comment

الدعوة والدعاة في رمضان

الحمد لله حمدا كثيرا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا.

إن الدعاة إلى الله هم الشموع التي تضيء للناس طريق الهدى والخير، وأطباء القلوب والنفوس، وهم قلب الأمة النابض ووعيها المستنير.

والدعوة إلى الله من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله، ولذلك اختار الله للقيام بها صفوة الخلق وأحبهم إليه وهم الأنبياء والمرسلون، وأقربُ الناس إليه تعالى بعدهم أمثلُهم بهم طريقة وأشبههم بهم سلوكًا في العلم والعمل، قال سبحانه: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت/33).

لقد أكرمنا الله ببلوغ شهر رمضان، نسأله تعالى أن يبارك لنا فيه، وأن يوفقنا لصيامه وقيامه، وأن يتقبل منا صالح العمل، وأن يجعل أوله لنا رحمة، ووسطه لنا مغفرة، وآخره عتقا لنا من النار.

شهر رمضان الكريم شهر مليء بالخيرات والبركات والنفحات، التي ينبغي لنا أن ننهل منها ونستزيد؛ فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «افعلوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله؛ فإن لله نفحاتٍ من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم، وأن يُؤَمِّن روعاتكم».

شهر رمضان موسم عظيم من مواسم أهل الإيمان، وخير وضعه الله بين يدي عباده، ويسّر لهم أسباب نواله واغتنامه، ليتقربوا إلى ربهم بما يحبه ويرضاه، وليغتنموا هذه الفرصة الثمينة في الدعوة إلى الله وفعل الخيرات.

وفي طليعة من يجب عليهم الاستزادة من خيرات رمضان وبركاته هم الدعاة إلى الله؛ حيث إنهم طليعة الأمة ومُثُلها العليا، وهكذا يجب أن يكونوا.

واستزادة الدعاة من خيرات رمضان إنما تكون على عدة مستويات:

فعلى المستوى الشخصي ينبغي على الدعاة أن يهتموا بأنفسهم، ويحسنوا الاستفادة من الفرص الثمينة والمنح الربانية في رمضان، ومن ثم يدلوا أفراد الأمة عليها.

والدعاة إلى الله أولى الناس ببذل الجهد من أجل تزكية نفوسهم وتطهيرها من الذنوب والعيوب ليكونوا في مستوى هذا المقام العظيم الذي أكرمهم الله به، وشعار الدعوة الإسلامية: (أصلح نفسك وادع غيرك)، والدعوة بالحال أعظم من الدعوة بالمقال.

رمضان فرصة لمجاهدة النفس والتحرر من الأهواء والعادات السيئة، وإعادة ترتيب وتنظيم أوقاتنا لنستغلها بصورة أكمل لتحقيق أفضل النتائج في أبواب الخير.. نتعلم فيها كيف نتقرب إلى الله بصالح العمل تحقيقا لمعاني التقوى والاستقامة. نتعلم فيها كيف نكون أكثر إحسانا للخلق ورحمة بهم. فعلينا جميعا أن نستغل هذه الفرصة المباركة لإحداث تغيير إيجابي في حياتنا ولتزكية نفوسنا بالتقوى والعمل الصالح.

وعلى المستوى العام يجب عليهم الحركة والتأثير الفعال في المجتمع، مستغلين الأجواء الإيمانية في رمضان، وإقبال القلوب على الخير والعبادة.

فمن فقه الدعاة أن يحسنوا استغلال المواسم والمناسبات الخاصة للقيام بواجبهم الدعوي، وشهر رمضان يتميز على غيره من الشهور بسمات وفضائل تجعل المجال الدعوي فيه مفتوحا أمام الدعاة، حيث تكون القلوب ألين، والنفوس أكثر استعدادا لتقبل النصح والتذكير. فعلينا أيها الأحباب أن نحرص على تحضير البرامج الدعوية المناسبة لهذا الشهر الكريم، مستعملين في ذلك أفضل الوسائل المناسبة لواقع البلد.

والداعية مطالَب بتطوير قدراته دائماً ليحسن توصيل رسالته إلى الآخرين؛ إذ لم يعد يجدي أن ينتظر الداعي في مسجده أو مركزه ليأتيه الناس فيبلغهم دعوة ربهم، بل صار من اللازم أن يتوجه هو إليهم عبر الوسائل الحديثة التي توصل رسالته إلى عدد أكبر من الناس.

إنّ العالم اليومَ أحوجُ ما يكونُ إلى الإسلام ومبادئه، فلنستشعرْ عِظَمَ المسئولية وثِقَلَ الأمانة، ولنتابع الطريقَ مستعينين بالصبر والعبادة، متوكلين على الله، متعاونين مع كلّ الصادقين، متجاوزين كلّ الصعوبات والعقبات، ولن يتحقّق لنا ذلك إلاّ أن نكونَ مسلمين ربانيين حقّاً، فمجرّدُ الانتماء دونَ أن يصدّقَه العمل، لا يُغني من الحقّ شيئا.

وفي الختام نسأل الله العلي القدير أن يبارك لنا في رمضان، وأن يوفقنا فيه لصالح الأعمال، وأن يتقبل منا جهدنا على ما فيه من ضعف وعيوب، وأن يغفر لنا أجمعين.

بقلم الشيخ: عبد المجيد نوّار

Posted on Leave a comment

إنّ خير من استأجرت القويّ الأمين | من سنن الله في النّفس والحياة

هذا القانون جاء على لسان إحدى بنتي الرّجل الصّالح في مدين. إذ قالت لأبيها بعدما التأم شمل العائلة بضيفهم الجديد موسى عليه السّلام (يا أبت استأجره إنّ خير من استأجرت القويّ الأمين). كان عليها ـ بحسب تديّننا نحن اليوم ـ ألاّ تقدّم بين يدي أبيها ولو بمقترح يمكن أن يأخذ به ويمكن أن يرفضه. لا بل كان عليها ألاّ تمدح فحلا لأبيها داعية إيّاه ليكون عضوا جديدا في البيت. تلك شبهة قوية ـ بحسب تفكيرنا نحن ـ أنّ علاقة عاطفية نشأت بينهما. لم يتردّد ذلك الرّجل الصّالح في إنفاذ كلمة ابنته ولم يجل بخاطره ما يجول بخاطرنا. قانون آخر يلتقطه الوحي الكريم من في امرأة. هذه البنت منشغلة بتدبير البيت. فهي واعية بما يحتاجه. الآن بعدما رأت بأمّ عينيها من خلق عظيم يتربّع عليه هذا الفتى فلا شيء يحبسها أن تلتقط الفرصة المناسبة لحسن تدبير بيت أبيها سيما أنّه شيخ كبير. جاء القانون مرّة أخرى مؤكّدا بجملة إسمية. الحديث في سياقه عن استئجار راع. ولكنّه في أبعاده العظمى يرسم سنّة من أقوى سنن العمران البشريّ واجتماع النّاس. وهي سنّة استئمان خلقي القوّة والأمانة معا على معايش النّاس وحرماتهم. هو القانون ذاته الذي انبجست عنه شفتا يوسف عليه السّلام إذ رشّح نفسه لخزانة الأرض في مصر وما يحيط بها شرقا وغربا. قال معلّلا ذلك (اجعلني على خزائن الأرض إنّي حفيظ عليم). ليس حفظ يوسف عليه السّلام إلاّ أمانة موسى عليه السّلام. وليست قوّة موسى عليه السّلام إلاّ علم يوسف عليه السّلام. هو القانون ذاته ولكن ورد بصياغتين مختلفتين. شأن القرآن الكريم في تنوّع نظمه وثراء لفظه ومراعاته السّياق. ذاك مستأجر من عائلة شيخ صالح ليس له ذكور يقومون على رعيه ونعمه في مجتمع لا حظّ فيه للضّعيف. وهذا مستأجر من دولة مهدّدة وجوارها بمجاعة لسبع سنين متتابعات. كلاهما يحتاج إلى القوّة العلمية التي تعني حسن التّدبير واللّياقة العقلية والمؤهّلات الذهنية وإلى الأمانة الحافظة التي تعني إيثار اليوم الآخر والنّصح للنّاس والتعفّف عن أكل أموالهم بالباطل. هي سنّة الدّولة بغضّ النّظر عن هويتها الفكرية ودثارها الثّقافيّ. هي سنّة كلّ مسؤولية من ربّ أسرة أو ربّتها حتّى الدّولة مرورا بالجمعية والمنظّمة والحزب. نحن اليوم أولى النّاس بفقه هذه السنّة والأسى عليها إذ أقفرت أرضنا منها. نحن اليوم نرى بأمّ أعيننا كيف أخذت دول غربية كثيرة بهذه السنّة ـ عقلا لا دينا ـ فتقدّمت وازدهرت وأضحى الإنسان فيها كريما وكيف داسها أكثر العرب والمسلمين فضاعت الحقوق وديست الحرمات. صحيح أنّ اجتماع رأسي الحكمة معا (القوّة والأمانة) في رجل واحد نادر قليل. ولكنّ الأصحّ من ذلك هو أنّ الأمم التي تبحث عن ذلك بجدّ وإخلاص تظفر منهما بحدود دنيا تحول دون حصول ضعف فادح في التدبيرات ودون طروء خيانات تجعل من الغشّ والخديعة قيما. ولك في القرآن الكريم خير دليل. إذ قدّم القوّة على الأمانة في حالة موسى عليه السّلام ثمّ قدّم الحفظ (الأمانة) على العلم (القوّة) في حالة يوسف عليه السّلام. كفاك بذلك فقها أنّه عندما لا تظفر بالجامع بين الخلقين العظيمين معا فإنّك تقدّم ما يقتضي السّياق تقديمه. كانت عائلة شيخ مدين بحاجة إلى قويّ يرعى النّعم ويسقيها فقدّم هذا على ذاك. وكانت دولة العزيز في مصر بحاجة إلى حفيظ أمين يرعى المال أن تمتدّ إليه يده هو أو أيد أخرى بدون حقّ فقدّم هذا.

إنّه من يتّق ويصبر فإنّ الله لا يضيع أجر المحسنين

ورد هذا القانون في سورة يوسف المكية عليه السّلام. ورد على لسانه هو في إثر لقائه إخوته للمرّة الأخيرة قبل التآم شمل العائلة اليعقوبية كلّها. قال لهم ذلك وهو يفصح لهم لأوّل مرّة عن هويته الحقيقية وأنّه يوسف أخوهم. (إنّه من يتّق ويصبر فإنّ الله لا يضيع أجر المحسنين). صيغ القانون مرّة أخرى في شكل جملة إسمية مؤكّدة. ولا ترد القوانين إلاّ بصيغ عامّة لتشمل كلّ من يلبّي شروطها وحتّى لا ينخدع بعضنا بخصوصيات السّياق. إذ العبرة ـ كما قال الأوّلون ـ بعموم اللّفظ. يرسم هذا القانون خارطة طريق الإحسان والفوز في الدّنيا والآخرة. خارطة طريق تتركّب من محلولين يعتلجان صبرا وشكرا وعسرا ويسرا دون ريب. محلول أوّل عنوانه: التّقوى. في مواضع أخرى أخّرت التّقوى وقدّم الصّبر. وذلك في مثل قوله سبحانه (وإن تصبروا وتتّقوا فإنّ ذلك من عزم الأمور). ومحلول ثان عنوانه : الصّبر. هما في الحقيقة لا ينفكّ أحدهما عن الآخر. إذ لا تقوى إلاّ بصبر على ضارعة طاعة وكبدها ـ كما قال إبن القيّم ـ وعلى جاذبية معصية وسحرها وعلى وقع مصيبة. ولا صبر كذلك إلاّ بتقوى تحبس المرء عن اقتراف السّوء. في الحالة اليوسفية ـ التي تمحّضت لها سورة مكية كاملة تقصّ أثرها عسرا ويسرا ـ اختلطت أقتاب التّقوى بالصّبر مرّات وعلى امتداد سنوات طويلات بل ربّما عقود. تعرّض هذا الفتى وهو لا يزال يافعا إلى ظلم إخوته ـ وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة كما قالت العرب ـ ثمّ إلى الرّقّ بدراهم معدودات بخسا وزهدا في غلام لا يسعى ثمّ إلى الفاحشة التي جاءته ساجدة تدغدغ غرائزه التي حقن بها ككلّ امرئ ولم يكن يدر في خلد سيّدة الدّولة الأولى ووليّ نعمته أن يركل فتاها رغبتها وهي التي اشترته بحرّ مالها وهو بين يديها عبد معبّد. أليس يكون الرّجل طالبا والمرأة مطلوبة؟ حتّى عندما انقلب الوضع مع هذا الفتى إذ أضحى هو المطلوب فإنّه اعتصم برشده. لولا أنّ القرآن الكريم هو نفسه من يروي هذا لربّما بالكاد يصدّق المرء هذا. ليس بعد هذا العفاف من عفاف. وليس بعد هذه التّقوى والصّبر من تقوى ولا من صبر. لو أجابها لكان في أعراف كثيرة غير ملام. إذ هو عبد مأمور. ما كان لأحد أبدا البتّة أن يعلم بهذا لو أجابها. إذ غلّقت الأبواب وهما في القصر الذي لا يطمع أن ينال منه أحد شيئا. ثمّ تعرّض إلى السّجن لزهاء عقد من السّنين. رجل قليل فيه أن تقول أنّه صبر. إنّما أضحى له الصّبر عسلا مصفّى عليه يفطر وبه يملج إملاجات. قلّبته اللّيالي كرّا وكرّا فما ظفرت منه بشيء. ثمّ جاءت المرحلة الأخيرة من ملحمته التي اختلط فيها هي الأخرى كذلك الصّبر بالتّقوى. بمثل ما صبر على الفاحشة والسّجن وفراق الأب الحنون الرّؤوم ووطنه فلسطين واتّقى ربّه صبر على أموال النّاس وهو وزير المالية في منطقة الشّرق والشّام. واتّقى ربّه فيها وفي القوافل التي يؤزّها الفقر وتمخرها المجاعات مخرا. يوسف عليه السّلام هو المثال الحيّ لكلّ امرئ. إذ لا مناص من الابتلاء بالشرّ وبالخير سنّة ماضية لا تتخلّف. حظّنا من هذا القانون أنّنا ما خلقنا إلاّ لنختبر ونمحّص. حظّنا منه أنّ البلسم الحافظ لكلّ تلك الابتلاءات تترى عن يمين وشمال إنّما هو خليط من الصّبر والتّقوى. الذي يصبر غير آمل في دار الحيوان أو غير خاش لن يعمّر صبره طويلا. ومثله الذي يتّقي غير مستعين بالصّبر والصّلاة معتصم بهما كلّ الاعتصام فلن تعمّر تقواه طويلا. إنّما تقدّمت التّقوى هنا في الحالة اليوسفية ـ إذ تأخّرت في مواضع أخرى ـ لأنّها ملحمة طويلة مضنية جلبت إليها أنواعا من الابتلاءات مختلفة. وفي مثل هذه الحالات فإنّ التّقوى شديدة المراقبة لله وحده سبحانه تنفث الصّبر نفثا عجيبا. من صور تقوى يوسف عليه السّلام وصبره حلمه على إخوته. وهو حلم بالكاد انبجست به شفتا أبيه إسرائيل عليه السّلام إذ استخدم هذا (سوف البعيدة) وذاك (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم). هي لوعة فؤاد والد حنون رؤوم مضغته الأشواق إلى ابنه ثمّ إلى إثنين آخرين منهم مضغا حتّى غدا كمثل العصف المأكول. تلك هوية هذه الدّار: معركة ضارية مضنية ساخنة شرسة لا هوادة فيها. وما سلاح المجاهد فيها عدا (من يتّق ويصبر فإنّ الله لا يضيع أجر المحسنين). كيف لا؟ وسلعة الله غالية.

Posted on Leave a comment

رمضان الذي فقدته | الشيخ: علي الطنطاوي

هذا الحديث عن رمضان، وفي رمضان النور والعطر وفي رمضان الخير والطهر، وفي رمضان الذكريات الكثر، ففيه نزل الذكر وفيه ليلة القدر وكان فيه نصر بدر وفي آخره عيد الفطر، ورمضان نور على المآذن ونور في القلب ورمضان صوم عن الطعام وصوم عن الحرام.

إن كانت الحياة تنازعًا على الحياة فهذا الشهر إدراك لسر الحياة، وإن كان العمر كله للجسم فهذا الشهر للروح، وإن كانت الدنيا للتناحر والخِصام فهذا الشهر للحب والوئام.

هذا هو رمضان الذي أبصرت وجهه من كوة الطفولية فأحببته ورأيت أثره الخيّر في كل مكان في دمشق، فأكبرته ثم لم أعد أراه أبدًا، فعلمت أني قد افتقدته وأضعته.

رمضان الذي عرفته لم يعد يتردد على دمشق، إن هذا رمضان جديد، يحمل اسم رمضان الأول الذي رأيته أول مرة منذ أكثر من أربعين سنة ولكنه ليس ذلك الـ “رمضان”.

رمضان القديم كان يغمر أرجاء دمشق كلها، فكنت تحس به حيثما سرت، تراه في المساجد الممتلئة بالمصلين والقارئين والمتحلقين حول كراسي المدرسين، وتراه في الأسواق فلا تجد عورة بادية ولا منكرًا ظاهرًا ولا مطعمًا مفتوحًا ولا مدخنًا ولا شاربًا، وتشتري البضاعة وأنت آمن من الغش والغبن؛ لأن أفسق البائعين لا يغش في رمضان، والمرأة تعمل مطمئنة أنها مهما أخطأت فلن تسمع من زوجها كلمة ملام، لأن المسلم الصائم لا يشتم، ولا يلوم في رمضان، والرجل يجيء إلى بيته وهو آمن من أن يجد من زوجته نكدًا أو إساءة لأن المرأة الصائمة لا تؤذي زوجها في رمضان، ولو تركت بابك مفتوحًا لما دخل المنزل لص، لأن اللصوص يضربون عن العمل ويتوبون عن السرقة في رمضان.

أما رمضان الجديد فلا تعرفه هذه الشوارع الجديدة والأحياء الحديثة ولم يعرف بعد الطريق إليها، ودمشق القديمة لم يعد يستطيع أن يسيطر عليها، فالمساجد مملموءة بالمفطرين والصائمون تسوء أخلاقهم في رمضان من الجوع وشهوة الدخان والشياطين تصفد في رمضان لكن الفساق ينطلقون عاملين فيه كما كانوا يعملون قبل رمضان.

في ساعة الغروب

ولقد كان أشد الناس بعدًا عن الدين إذا سمع مدفع رمضان تاب وأناب إلى الله، ونزع نفسه الآثمة واستبدل بها نفسًا زكية متعبدة، كما ينزع ثوبه الوسخ ويستبدل به ثوبًا نظيفًا، والبيوت التي كان يسودها الخصام تتحول في رمضان إلى دور أمن وسلام والمدينة تصير كلها أسرة واحدة أو مدرسة داخلية يأكل الناس فيها بوقت واحد ويقومون في وقت واحد.

إذا دنت ساعة الغروب رأيت الناس جميعًا – مسرعين إلى بيوتهم، هذا يحمل صحن الفول المدمس، وهذا يحمل الجرادق والبرازق، وتكون المائدة منصوبة حتى إن أفقر الناس يجد في رمضان فطورًا شهيًا، لأن كل صائم في رمضان يتفقد جيرانه ومن حوله، فلا يأكل هو الطعام الطيب والألوان الكثيرة وجاره لا يجد الخبز والجبن.

وتصطف الأسرة كلها حول المائدة يجمعها شعور واحد، شعور يجمع الغني والفقير، والأمير والأجير، هو الجوع، أغنى الناس يشتهي قبل المغرب معلقة من حساء أو رشفة من شراب.

والأولاد يقفون على الشرفات أو على جوانب الطرق، فإذا رأوا مصباح المنارة أو سمعوا المدفع صاحوا بنغمة موزونة ولحن موقع: أذن أذن أذن…وطاروا إلى بيوتهم كما تطير العصافير إلى أعشاشها إذا رأت طلائع الليل، وتخلو الطرق وتخف الأصوات ثم ترتفع من كل مكان: من الكوخ ومن القصر على السواء، كلمة الحمد لله، كلهم شبع وكلهم رضى وكلهم شكر..الذي أكل السبعة ألوان والذي أكل الخبز والفول!

ثم يمضي الرجال إلى المساجد ليصلوا صلاة التراويح أو يصلوها مع أهليهم وأولادهم وتكون الأسواق مضاءة ويكون الأولاد مزدحمين فيها على بائع المثلجات إن كان الوقت صيفًا أو بائع الفول النابت. ومن أراد لهوًا لم يجد إلا الحكواتي يقص قصة عنترة وكلها بطولة ونبل لا كهذه القصص الآثمة الداعرة.

فإذا مضت ساعة بعد صلاة العشاء، انطفأت الأضواء وخلت الأسواق وانصرف الناس إلى دورهم ليناموا، والمسحر لا يجيء إلا في وقت السحور، لا يجيء نصف الليل ليوقظك من نومك ويقرع بطبلته رأسك، كما يفعل الآن، وأنت مجبر أن تقول له أشكرك، وتدفع له أجرته على أنه كسر دماغك وحطم أعصابك ولم تكن هذه الإذاعات التي لا تسكت لحظة في رمضان.

إن رمضان لا يستطيع أن يعيش إلا في الهدوء والسكون، فكيف يعيش في هذه الضجة الهائلة؟ وكيف يتوجه إلى ربه؟ وكيف ينام ليقوم إلى السحور؟ إذا كان كل صاحب رادّ: (أي: راديو) لا يسمع وحده، بل يسمع أربعين جارًا، وكانت الأصوات لا تنقطع طول الليل، والمسحر يجيء من الساعة الواحدة وهؤلاء الموسيقيون الفاشلون الذين عجزوا عن أن يكونوا رجال فن، فأسبغوا على غنائهم ثوب الدين، والدين يبرأ منهم وتغزلوا بالرسول (صلى الله عليه وسلم) بدلًا من التغزل بليلى وسلمى، والبياعون يأتون من طلوع الشمس، مصلح البوابير وبياع الحليب والذي عنده سجاد للبيع، والأولاد الذين يتخذون الحارات ملاعب للكرة.

ملك وشيطان

وكيف يشعر بوجود رمضان من يركب الترام فيجد أمامه من يدخن وينفخ في وجهه الدخان، ويرى المطاعم مفتحة والأكلة يأكلون، ويرى الناس إن صاموا عن الشراب والطعام، لا يصوم إلا القليل منهم عن الكذب والغش والغيبة والبذاءة والحلف بغير الله، أو الحلف كاذبًا بالله، ولا يصوم إلا القليل عن الغضب والبطش والأذى، وليس الصيام – في الحقيقة- إلا تدريبًا خلقيًا ليس الصوم جوعًا وعطشًا فقط، خلق الله ملائكة وخلق شياطين، وخلق وحوشًا وسباعًا.

فالملك خير كله والشيطان شر كله، والسبع طبيعته البطش لولاه ما عاش، وخلق الإنسان من الثلاثة جميعًا، ففي الإنسان ملك وشيطان وسبع، الملك له الإيمان والرحمة والطاعة والخشوع والسمو النفسي والشيطان له الشهوة المحرمة والكذب والاحتيال والإفساد والسبع له الغضب والبطش والقهر.

والصيام في الحقيقة صيام عن السبعية والشيطانية لتخلص النفس في هذا الشهر للملكية فإذا لم تظهر على الصائم أخلاق الملائكة وإذا بقي يغضب ويبطش كالسبع ويشتهي ويفسد كالشيطان فإنه لم يعرف حقيقة الصيام.

لقد كان رمضان الذي يجيء دمشق من أربعين سنة رمضان حقيقًا وما أدرى أمات وجاء غيره أم قد شاخ وعجز عن أن يطوف دمشق كلها فصار يثبت وجوده في المفكرة والتقويم وفي أضواء المآذن ومدافع القلعة فقط لا غير، أم أنا الذي تغيرت وتبدلت؟ كنت أنظر قبل أربعين سنة بعين صبي لم يقترف إثماً فكنت أرى رمضان فلم أثقلت الآثام أجفاني لم أعد أراه.

وكان أهل دمشق في مثل طهارة الأطفال لم تشوه أصباغ الحضارة طبيعة الحسن في نفوسهم، ولم تفسد العصبيات جمال الأخوة بين أفرادهم ولم تكن قد هتكت أستار الصيانة ولا مزقت براقع الحياء كانت المرأة لزوجها وولدها وربها، والرجل لزوجته وولده وربه، فكانوا يرون رمضان كلهم. يرون هلاله في الأفق ونوره في القلب، وأثره في البيوت والأسواق والمدارس والمساجد، يشعرون –حقًا- أن قافلة العمر كانت تمشي بهم في صحراء مجدبة، فإذا كان رمضان مشت في الواحة، فيكون من ذلك أنس للنفس وراحة للروح.

قلبٌ مقيّد

فأين ذلك الرمضان؟ أين هو؟ دلوني عليه أجد فيه ماضيًّ الذي فقدته، وأنسى الذي أضعته، رمضان الذي يتوب فيه كل عاص، ويتصل فيه كل منقطع، ويشهد فيه كل محجوب، وتسطع فيه الأنوار في كل قلب، حتى لتمتلئ بالرضا والإطمئنان والحب، ويقوم الناس في الأسحار ساعة يتجلى الله على الوجود تجلى الرحمة والغفران، وينادى المنادى من السماء: ألا من سائل فأعطيه، ألا من مستغفر فأغفر له، فيهتفون من أعماق قلوبهم: يا أرحم الراحمين، ويسألون الله ويستغفرونه، فيحسون أنهم قد صعدوا بأرواحهم إلى حيث يرون الأرض كلها ومن عليها ذرة تجول في هذا الفضاء، ويتذوقون أعظم اللذات، اللذة التي لا تقاربها لذة، لذة الاتصال بالله، ومناجاته في سكنات الليل، وهدأت الأسحار فتسطع أنوار الإيمان في كل قلب، ويمتلئ بالرضا والاطمئنان والحب، والقلب كالنسر الذي يضرب بجناحيه في طباق السماء ولكنا قيدناه بقيود المادة ثم أغرقناه في حمأة المطامع والشهوات، فكيف يطير نسر مقيد الجناح غارق في الطين؟

هذا هو رمضان! فحلوا القيود عن قلوبكم واغسلوها من أوضار الحمأة التي غمستموها فيها، ودعوها ترتفع لتطلّع على جمال الوجود وترى من هذا المرقب العالي جمال رمضان.

المصدر:  حديث إذاعي للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله أذيع في إذاعة دمشق عام 1975.

Posted on Leave a comment

قل هو من عند أنفسكم | من سنن الله في النّفس والحياة

من سنن الله في النّفس والحياة

الحلقة: 1

بثّ الله سبحانه في كتابه العزيز طائفة واسعة من السّنن الماضية الكفيلة ببناء عقل راشد يفقه تضاريس النّفس والحياة. ولا يكون تدبّر جامع للقرآن الكريم حتّى يستقرئ النّاس تلك النّواميس الحاكمة. بل إنّ تلك السّنن لجديرة بإنشاء بيان خاصّ بها نسمّيه (التّفسير السّننيّ مثلا). وإنّنا اليوم لجديرون بذلك إذ أنّ كثيرا من جوانب تخلّفنا تعزى إلى الجهل بالسّنن. أسوق بعضا منها لعلّ التّالين والتّاليات في رمضان (شهر القرآن) يحرّكهم الشّوق إلى استجماع ما ندّ عنّا من أوابد تلك السّنن

قل هو من عند أنفسكم

ورد هذا القانون في سورة آل عمران المدنية في سياق التعقيبات على واقعة أحد. إذ شغب على بعض المسلمين أن تلحق بهم هزيمة عسكرية ثقيلة. (أو لمّا أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنّى هذا قل هو من عند أنفسكم إنّ الله على كل شيء قدير). كبر عليهم ذلك بعد النّصر المعزّر في بدر إذ أصابوا هناك من المعتدين مثلي ما أصيبوا به منهم هنا. لم يدعهم الوحي الكريم فرائس لتأويلات شتّى. إنّما علّمهم أنّ هزيمة أحد سببها الأكبر هو أنفسهم هم. سببها المباشر هو عصيان أمر القائد العسكريّ في تلك الواقعة ـ محمّد عليه السّلام ـ إذ ترك بعض الرّماة مواقعهم ليهتبلها العدوّ أيّما اهتبال ويحيق بهم ما لم يكونوا يحتسبون. كان يمكن أن يعزّيهم سيما أنّهم فقدوا لأوّل مرّة زهاء سبعين من خيرة إخوانهم. كان يمكن كذلك أن يلقي باللاّئمة على عدوّهم الذي جاء يطلبهم في عقر دارهم. لم يكن شيء من ذلك. بل إنّه في هذا السّياق ذاته قال لهم في لهجة عتاب بليغة (منكم من يريد الدّنيا ومنكم من يريد الآخرة). كان قد رسم لهم ـ تعقيبا على واقعة بدر العظمى ـ خارطة طريقة النّصر. ومن فقراتها طاعة الرّسول عليه السّلام التي تكفل صفّا واحدا مرصوصا (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم). لم يخل السّياق من تعزية وسلوان. إذ قال لهم في أثناء ذلك (قد أصبتم مثليها) في إشارة إلى نصر بدر. أنّى هذا؟ كان يمكن أن يكون الجواب ـ أو بعضه ـ أنّ هذا يعزى إلى عدم تكافؤ القوى عددا وعدّة. أهمل الوحي الكريم كلّ ذلك ودعاهم إلى تدبّر سبب واحد للهزيمة عنوانه: أنفسكم أنتم هي التي جنت عليكم. جاء الخطاب عامّا كعادة النّظم القرآنيّ الكريم حتّى لكأنّ النّاس كلّهم شركاء في ما وقع فيه بعض الرّماة. جاء ليعلّمهم أنّ السفينة لا يضيرها أن تغرق بسبب خرق هذا أو ذاك. إذ كلّ خرق يغرقها. جاء هذا الخطاب إلى الأصحاب الكرام وكثير منهم له سابقة الإيمان والهجرة والصّفة البدرية. جاء يعلّمهم أنّ الحقّ أحقّ أن يتّبع. وأيّ علاقة لنا نحن اليوم بهذا حتّى نقرأه ونعتبر به؟ هي علاقة تعبر الزّمان كلّه والمكان كلّه لتعلّمنا نحن اليوم كذلك أنّ ما يحيق بنا من احتلال أرض أو انتهاك عرض أو فساد سياسيّ أو قهر أو جور أو غلبة عدوّ إنّما هو من عند أنفسنا نحن. ليس يعني ذلك براءة الخصم أو العدوّ. إنّما يعني ذلك أنّ خارطة السّؤدد لا عنوان لها عدا هذا العنوان: الصّف الواحد المرصوص حتّى وهو متنوّع وإيثار ما عند الله سبحانه وطاعة الله ورسوله عليه السّلام هو المنقذ من هوان الهزيمة. أمّا العدوّ أو الخصم فهو محكوم بقانون آخر عنوانه (لن يضرّوكم إلاّ أذى) بغضّ النّظر عن قوة ذلك العدوّ أو صلافة ذلك الخصم

إنّ النّفس لأمّارة بالسّوء

ورد هذا القانون في سورة يوسف المكية عليه السّلام. هي سنّة انبجست بها شفتا امرأة العزيز. وليست هي السّنة الوحيدة التي التقطها الوحي الكريم من لسان امرأة لولا أنّا نكابر عنتا. قالت ذلك لمّا حصحص الحقّ بين يدي خروج يوسف عليه السّلام من السّجن(وما أبرّئ نفسي إنّ النّفس لأمّارة بالسّوء إلاّ ما رحم ربّي إنّ ربّي غفور رحيم). سنّة تحكم النّفس البشرية مطلقا دون أيّ استثناء. سنّة أبت إلاّ أن تنتظم في جملة إسمية مؤكّدة بناسخ (إنّ) ثمّ في رحمها بلام التّأكيد وباسم الفاعل بصيغة المبالغة. كأنّما الأمر بالسّوء حرفة تتقلّدها النّفس فلا تنفكّ عنها. وليس الاستثناء هنا إلاّ منفصلا ليعني أنّ الله وحده سبحانه هو من يصرف تلك النّفس الأمّارة بالسّوء عن السّوء. أمّا دثارها فلا ينفكّ عنها ليكون هذا متوافقا مع قوله سبحانه (فألهمها فجورها وتقواها). أيّ حظّ لنا من هذا القانون الماضي؟ حظّنا مركّب مزدوج: حظّ الفقه بتركيب نفوسنا فلا يزكّي المرء نفسه ولا يزكّي غيره إلاّ سترا. وحظّ المعالجة الدّائبة لهذا العدوّ الشّرس اللّدود الذي ما منه من بدّ. قال الإمام الشّاطبيّ في موافقاته العظمى أنّ الدّين جاء لقمع الأهواء. هي النّفس ذاتها التي أمرت أحد ابني آدم بقتل أخيه فقتله. وهي ذاتها التي أمرت امرأة العزيز بمراودة فتاها ففعلت. السّوء حقل واسع شاسع ليس له حدود. تريد النّفس العلوّ والبطر والحسد والمنع والتألّي وأكل أموال النّاس بالباطل والعدوان على أعراضهم وأبشارهم. هي النّفس ذاتها التي بلغت ذروة العلوّ إذ قال صاحبها فرعون للنّاس (ما علمت لكم من إله غيري). النّفس جواد شارد جامح يستنكف أن تضبطه شكيمة أو يحبسه حابس. حتّى النّفس المتديّنة لا تسلم من كثير من الأمراض من مثل الرّياء والمراء والجدل الفارغ وحبّ الرياسة واحتقار النّاس. عدا أنّ الدّين في الأصل يجفّف فيها نوازع الشرّ أو يدعوها إلى التّوبة من قريب. النّفس يمكن أن تتدثّر بكلّ هذه المحطّات المذكورة في الكتاب العزيزة: الاطمئنان ـ اللّوامة ـ الرضى. النّفس زئبقية التّكوين فلا يقرّ لها قرار. ولذلك من العسير أن تظلّ مطمئنّة دوما أو لوّامة بمثل ذلك أو راضية. إذ لو ظلّت مطمئنّة مثلا دوما لربّما ندّت عن قانون الابتلاء. وهذا محال. لذلك خشي الأصحاب الكرام على أنفسهم ما يجدونه في أنفسهم من خواطر يتمنّى أحدهم أن تنشقّ به الأرض دونها. ولذلك كذلك ضمن الله سبحانه غفران تلك الخاطرات التي لا تنفكّ عنها نفس ما لم يتكلّم صاحبها وجاءت بشرى ذلك في آخر آيات سورة البقرة. النّفس الأمّارة بالسّوء ودعوى العصمة لغير الأنبياء عليهم السّلام لا يلتقيان إلاّ عندما تدّعي النّفس الأمّارة بالسّوء ـ أو يدّعى لها ـ أنّها معصومة. لا أمل لأيّ كان أن ينهى عن سوء يصيب النّاس حتّى ينهى نفسه هو أوّلا عن ذلك السّوء أو سوء مثله ولكنّ ذلك لا يتمّ إلاّ بمعافسة الإصلاح صبرا وحلما

لفضيلة الشيخ: الهادي بريك

Posted on Leave a comment

رمضان المبارك .. بقلم: الإمام العلاَّمة: محمد رشيد رضا

أهلاً بشهر أُنزل فيه القرآن، وهو أكبر نعمة من الله على نوع الإنسان؛ لأنَّه صدَّق المرسلين، وزعزع أركان الوثنيين، ووضع أصول الوحدة في الاعتقاد والاجتماع، ودعا إلى الحُبِّ والتأليف، وأسَّس أركان العدالة في الأخلاق، والآداب النفسية والعملية، والأحكام القضائية والمدنية، وساوى بين الناس في الحقوق، وأعتقهم من رقِّ العبودية لغير الله، وتمَّم مكارم الأخلاق، وأرشد إلى الكمالات الروحية، مع عدم إهمال الحقوق الجدية، بل حثَّ على طلب سعادة الدَّارين معًا، وخاطب العقل، وجعله مشرق أنوار الدين، ونبَّه الناس إلى أنَّ للكون سُننًا ثابتة لا تتبدَّل، وهداهم إلى مراعاتها، والاعتبار بها؛ ليصلوا إلى كمالهم النوعي ..

 
فأجدر بالمسلمين أن يجعلوا القرآن في هذا الشَّهر سميرهم ومُرشدهم وأميرهم، وأن يضمُّوا إلى قراءته وإقرائه، التدُّبر لآياته، والمذاكرة في معانيه الشريفة، والاعتبار بحكمه، والاتعاظ بمواعظه، والتأدب بآدابه، لئلا يكون حُجة عليهم، فما أقبح من يَقرأ، أو يُقرأ عليه، مثل قوله تعالى: 
(لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) [آل عمران: 61]، وقوله تعالى: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) [النحل: 105]، وهو من الكاذبين، يسمع المقروء عليه وهو يكذب، ويفرغ القارئ من قراءته فيخوض في الكذب مع الخائضين، فيكون قد لعن نفسه..


أخرج الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، قال: ((اقْرَأِ الْقُرْآنَ مَا نَهَاكَ ، فَإِذَا لَمْ يَنْهَكَ فَلَسْتَ تَقْرَأهُ))، وأخرجه أيضًا أبو نعيم والديلمي وله شواهد عند غيرهم، [قال الزين العراقي في تخريج الإحياء عن هذا الحديث: ضعيف، (ج1/ص373)] ..

 وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى للقرَّاء: (إنَّكم قد اتخذتم قراءة القرآن مراحل، وجعلتم الليل جَمَلاً، فأنتم تركبونه، وتقطعون به مراحل، وإنَّ من كان قبلكم رأوه رسائل من ربهم، فكانوا يتدبَّرونها بالليل، ويُنفذونها بالنهار) [إحياء علوم الدين: (ج1/ص 2500]

وقال ابن مسعود الصحابي الجليل: ((أُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِيَعْمَلُوا بِهِ، فَاتَّخَذُوا دِرَاسَتَهُ عَمَلًا، إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَقْرَأُ مِنْ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ، مَا يُسْقِطُ مِنْهُ حَرْفًا، وَقَدْ أَسْقَطَ الْعَمَلَ بِهِ)) [إحياء علوم الدين: (ج1/ص426)]

وفي حديث ابن عمر، وأبي ذر جندب الغفاري رضي الله عنهم، قالا: لقد عشنا دهرًا، وأحدنا يُؤتى الإيمان قبل القرآن، فتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم، فيعلم حلالها وحرامها، وآمرها وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها، ثم لقد رأيت رجالاً، يُؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته، لا يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه، فينثره نثر الدَّقَل (الرديء من التمر)

 
قال بعض العلماء: يدلُّ قوله: (لقد عشنا).. إلخ على أنَّ ذلك إجماع من الصحابة. وفي حديث سعد عند ابن ماجه مرفوعًا: 
((اقرءوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكَوْا))

قال الإمام الغزالي رحمه الله: (مثال العاصي إذا قرأ القرآن وكرَّره، مثال مَن يُكرِّر كتاب الملك في كلِّ يوم مرات، وقد كتب إليه في عمارة مملكته، وهو مشغول بتخريبها، ومُقتصر على دراسة كتابه، فلعله لو ترك الدراسة عند المخالفة لكان أبعد عن الاستهزاء واستحقاق المقت) .. فعسى أن يُعير القُرَّاء والمستمعون هذه البينات التفاتًا، ولا يكتفوا بالتلذُّذ بالنغم، وحُسن الصوت، والإلقاء ..


أمَّا الصوم الذي هو عبادة الشهر فرياضة بدنية، وتأديب للشهوة البهيمية، وإشعار للغني المنعَّم، بحاجة الفقير المعدم، بحيث تتحرَّك عاطفة الشفقة بالإحسان إليه، ويعظم في نفسه مقدار نعمة الله عليه؛ لأنَّ الأشياء تُدرك قيمتها بفقدها، والأمور تُعرف بضدِّها، فمن غلبته الشَّهوة على نفسه، وملكت عليه أمره فلم يصم، فهو حيواني الطبع، يُزاحم الخنزير والقرد في خاصيتهما، وإنَّ مِن الحيوان ما يُمسك عن الطعام والشراب لعلة الشرف، فيقال: إنَّ الأسد لا يأكل من فريسة غيره ..

وتجتنبُ الأسودُ ورودَ ماءٍ  ***  إذا كان الكلابُ ولغْنَ فيهِ


والذي يُفطر في رمضان أحد رجلين: إما كافر، لا يدين بالإسلام كبعض الذين قتلت أرواحهم أدواء التمدن الإفرنجي .. وإمَّا جهول لئيم ليس له من الإنسان إلا صُورته، ولا من الدين إلا أنَّه من طائفة يُسمَّون مسلمين.
والصوم الصحيح يُهيِّئ الإنسان للتقوى، فتكون مُرْجُوة منه:
 (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183] ..

ومن أدب الصيام كفُّ الجوارح كلِّها عن المحرَّمات، وأيُّ اعتبار للكفِّ عن الشهوات المباحة، كالأكل والوقاع في الحلِّ، مع الانهماك في الشهوات المحرمة، كالخوض في الباطل؛ من كذب وغيبة وفُحش؟!، وفي الحديث الصحيح: ((إنَّما الصوم جُنَّة، فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُم صَائِمًا فلا يرفث- الرَّفَث محرَّكة: فُحش في القول، والجماع ومقدماته- وَلَا يَجْهَل، وإن امْرُؤ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ، فَلْيَقُل: إِنِّي صَائِم، إِنِّي صَائِم)) 
[أخرجه الشيخان وغيرهما] ..

وقد ضرب الإمام الغزالي للصائم المُنْهَمِك في المعاصي مَثل مَن يبني قَصْرًا، ويهدم مِصْرًا، قال: فإنَّ الطَّعام الحلال يضرُّ بكثرته لا بتنوُّعه، فالصَّوْم لتقليله، وتارك الاستكثار من الدواء خوفًا من ضرره إذا تعداه إلى تناول السمِّ كان سفيهًا، والحرام مُهلك للدين، والحلال دواء ينفع قليله، ويضرُّ كثيره، وقصد الصوم تقليله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش)) [أخرجه النسائي و ابن ماجه] ..

بقلم: الإمام العلاَّمة محمد رشيد رضا، مؤسس المنار (رحمه الله)

المصدر: مجلّة المنار، تم نشره في: [رمضان 1316هـ -بمجلة (المنار)، المجلد الأول، عدد (43)، (ج1/ص829)]، بتصرف يسير.

Posted on Leave a comment

خطبة «مقاصد الصيام» | للشيخ: كمال عمارة

«المقاصد العشرة للصيام» خطبة جمعة لفضيلة الشيخ: كمال عمارة «رئيس المجلس الأوروبي للأئمة» وتتحدّث عن:
1.تحقيق مقصد الطاعة والعبودية لله تعالى
2.تحقيق مقصد التقوى
3.تذكر نعم الله تعالى وشكره عليها
4.تزكية النفس والارتقاء بها عن الشهوات والملذات
5.تقوية الإرادة والعزيمة والاستعانة على تجاوز المغريات ومواجهة التحديات.
6.فتح باب التوبة والإنابة وتوفير الفرصة لتكفير السيئات ورفع الدرجات
7.تقوية الشعور بالآخرين والإحساس بمعاناة المحتاجين
8.تحقيق التميز واستقلال الأمة في شرائعها وشعائرها ومشاعرها.
9.تقوية روح الجماعة بين المسلمين وتوحيد الأمة على برنامج يومي واحد في الإمساك والإفطار والقيام والأعياد
10.التشجيع على البذل والإنفاق وسد حاجة المحتاجين.

شاهد الخطبة من هنا:

خطبة «مقاصد الصيام» للشيخ كمال عمارة