إنّ خير من استأجرت القويّ الأمين | من سنن الله في النّفس والحياة

الشيخ الهادي بريك

الشيخ الهادي بريك

هذا القانون جاء على لسان إحدى بنتي الرّجل الصّالح في مدين. إذ قالت لأبيها بعدما التأم شمل العائلة بضيفهم الجديد موسى عليه السّلام (يا أبت استأجره إنّ خير من استأجرت القويّ الأمين). كان عليها ـ بحسب تديّننا نحن اليوم ـ ألاّ تقدّم بين يدي أبيها ولو بمقترح يمكن أن يأخذ به ويمكن أن يرفضه. لا بل كان عليها ألاّ تمدح فحلا لأبيها داعية إيّاه ليكون عضوا جديدا في البيت. تلك شبهة قوية ـ بحسب تفكيرنا نحن ـ أنّ علاقة عاطفية نشأت بينهما. لم يتردّد ذلك الرّجل الصّالح في إنفاذ كلمة ابنته ولم يجل بخاطره ما يجول بخاطرنا. قانون آخر يلتقطه الوحي الكريم من في امرأة. هذه البنت منشغلة بتدبير البيت. فهي واعية بما يحتاجه. الآن بعدما رأت بأمّ عينيها من خلق عظيم يتربّع عليه هذا الفتى فلا شيء يحبسها أن تلتقط الفرصة المناسبة لحسن تدبير بيت أبيها سيما أنّه شيخ كبير. جاء القانون مرّة أخرى مؤكّدا بجملة إسمية. الحديث في سياقه عن استئجار راع. ولكنّه في أبعاده العظمى يرسم سنّة من أقوى سنن العمران البشريّ واجتماع النّاس. وهي سنّة استئمان خلقي القوّة والأمانة معا على معايش النّاس وحرماتهم. هو القانون ذاته الذي انبجست عنه شفتا يوسف عليه السّلام إذ رشّح نفسه لخزانة الأرض في مصر وما يحيط بها شرقا وغربا. قال معلّلا ذلك (اجعلني على خزائن الأرض إنّي حفيظ عليم). ليس حفظ يوسف عليه السّلام إلاّ أمانة موسى عليه السّلام. وليست قوّة موسى عليه السّلام إلاّ علم يوسف عليه السّلام. هو القانون ذاته ولكن ورد بصياغتين مختلفتين. شأن القرآن الكريم في تنوّع نظمه وثراء لفظه ومراعاته السّياق. ذاك مستأجر من عائلة شيخ صالح ليس له ذكور يقومون على رعيه ونعمه في مجتمع لا حظّ فيه للضّعيف. وهذا مستأجر من دولة مهدّدة وجوارها بمجاعة لسبع سنين متتابعات. كلاهما يحتاج إلى القوّة العلمية التي تعني حسن التّدبير واللّياقة العقلية والمؤهّلات الذهنية وإلى الأمانة الحافظة التي تعني إيثار اليوم الآخر والنّصح للنّاس والتعفّف عن أكل أموالهم بالباطل. هي سنّة الدّولة بغضّ النّظر عن هويتها الفكرية ودثارها الثّقافيّ. هي سنّة كلّ مسؤولية من ربّ أسرة أو ربّتها حتّى الدّولة مرورا بالجمعية والمنظّمة والحزب. نحن اليوم أولى النّاس بفقه هذه السنّة والأسى عليها إذ أقفرت أرضنا منها. نحن اليوم نرى بأمّ أعيننا كيف أخذت دول غربية كثيرة بهذه السنّة ـ عقلا لا دينا ـ فتقدّمت وازدهرت وأضحى الإنسان فيها كريما وكيف داسها أكثر العرب والمسلمين فضاعت الحقوق وديست الحرمات. صحيح أنّ اجتماع رأسي الحكمة معا (القوّة والأمانة) في رجل واحد نادر قليل. ولكنّ الأصحّ من ذلك هو أنّ الأمم التي تبحث عن ذلك بجدّ وإخلاص تظفر منهما بحدود دنيا تحول دون حصول ضعف فادح في التدبيرات ودون طروء خيانات تجعل من الغشّ والخديعة قيما. ولك في القرآن الكريم خير دليل. إذ قدّم القوّة على الأمانة في حالة موسى عليه السّلام ثمّ قدّم الحفظ (الأمانة) على العلم (القوّة) في حالة يوسف عليه السّلام. كفاك بذلك فقها أنّه عندما لا تظفر بالجامع بين الخلقين العظيمين معا فإنّك تقدّم ما يقتضي السّياق تقديمه. كانت عائلة شيخ مدين بحاجة إلى قويّ يرعى النّعم ويسقيها فقدّم هذا على ذاك. وكانت دولة العزيز في مصر بحاجة إلى حفيظ أمين يرعى المال أن تمتدّ إليه يده هو أو أيد أخرى بدون حقّ فقدّم هذا.

إنّه من يتّق ويصبر فإنّ الله لا يضيع أجر المحسنين

ورد هذا القانون في سورة يوسف المكية عليه السّلام. ورد على لسانه هو في إثر لقائه إخوته للمرّة الأخيرة قبل التآم شمل العائلة اليعقوبية كلّها. قال لهم ذلك وهو يفصح لهم لأوّل مرّة عن هويته الحقيقية وأنّه يوسف أخوهم. (إنّه من يتّق ويصبر فإنّ الله لا يضيع أجر المحسنين). صيغ القانون مرّة أخرى في شكل جملة إسمية مؤكّدة. ولا ترد القوانين إلاّ بصيغ عامّة لتشمل كلّ من يلبّي شروطها وحتّى لا ينخدع بعضنا بخصوصيات السّياق. إذ العبرة ـ كما قال الأوّلون ـ بعموم اللّفظ. يرسم هذا القانون خارطة طريق الإحسان والفوز في الدّنيا والآخرة. خارطة طريق تتركّب من محلولين يعتلجان صبرا وشكرا وعسرا ويسرا دون ريب. محلول أوّل عنوانه: التّقوى. في مواضع أخرى أخّرت التّقوى وقدّم الصّبر. وذلك في مثل قوله سبحانه (وإن تصبروا وتتّقوا فإنّ ذلك من عزم الأمور). ومحلول ثان عنوانه : الصّبر. هما في الحقيقة لا ينفكّ أحدهما عن الآخر. إذ لا تقوى إلاّ بصبر على ضارعة طاعة وكبدها ـ كما قال إبن القيّم ـ وعلى جاذبية معصية وسحرها وعلى وقع مصيبة. ولا صبر كذلك إلاّ بتقوى تحبس المرء عن اقتراف السّوء. في الحالة اليوسفية ـ التي تمحّضت لها سورة مكية كاملة تقصّ أثرها عسرا ويسرا ـ اختلطت أقتاب التّقوى بالصّبر مرّات وعلى امتداد سنوات طويلات بل ربّما عقود. تعرّض هذا الفتى وهو لا يزال يافعا إلى ظلم إخوته ـ وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة كما قالت العرب ـ ثمّ إلى الرّقّ بدراهم معدودات بخسا وزهدا في غلام لا يسعى ثمّ إلى الفاحشة التي جاءته ساجدة تدغدغ غرائزه التي حقن بها ككلّ امرئ ولم يكن يدر في خلد سيّدة الدّولة الأولى ووليّ نعمته أن يركل فتاها رغبتها وهي التي اشترته بحرّ مالها وهو بين يديها عبد معبّد. أليس يكون الرّجل طالبا والمرأة مطلوبة؟ حتّى عندما انقلب الوضع مع هذا الفتى إذ أضحى هو المطلوب فإنّه اعتصم برشده. لولا أنّ القرآن الكريم هو نفسه من يروي هذا لربّما بالكاد يصدّق المرء هذا. ليس بعد هذا العفاف من عفاف. وليس بعد هذه التّقوى والصّبر من تقوى ولا من صبر. لو أجابها لكان في أعراف كثيرة غير ملام. إذ هو عبد مأمور. ما كان لأحد أبدا البتّة أن يعلم بهذا لو أجابها. إذ غلّقت الأبواب وهما في القصر الذي لا يطمع أن ينال منه أحد شيئا. ثمّ تعرّض إلى السّجن لزهاء عقد من السّنين. رجل قليل فيه أن تقول أنّه صبر. إنّما أضحى له الصّبر عسلا مصفّى عليه يفطر وبه يملج إملاجات. قلّبته اللّيالي كرّا وكرّا فما ظفرت منه بشيء. ثمّ جاءت المرحلة الأخيرة من ملحمته التي اختلط فيها هي الأخرى كذلك الصّبر بالتّقوى. بمثل ما صبر على الفاحشة والسّجن وفراق الأب الحنون الرّؤوم ووطنه فلسطين واتّقى ربّه صبر على أموال النّاس وهو وزير المالية في منطقة الشّرق والشّام. واتّقى ربّه فيها وفي القوافل التي يؤزّها الفقر وتمخرها المجاعات مخرا. يوسف عليه السّلام هو المثال الحيّ لكلّ امرئ. إذ لا مناص من الابتلاء بالشرّ وبالخير سنّة ماضية لا تتخلّف. حظّنا من هذا القانون أنّنا ما خلقنا إلاّ لنختبر ونمحّص. حظّنا منه أنّ البلسم الحافظ لكلّ تلك الابتلاءات تترى عن يمين وشمال إنّما هو خليط من الصّبر والتّقوى. الذي يصبر غير آمل في دار الحيوان أو غير خاش لن يعمّر صبره طويلا. ومثله الذي يتّقي غير مستعين بالصّبر والصّلاة معتصم بهما كلّ الاعتصام فلن تعمّر تقواه طويلا. إنّما تقدّمت التّقوى هنا في الحالة اليوسفية ـ إذ تأخّرت في مواضع أخرى ـ لأنّها ملحمة طويلة مضنية جلبت إليها أنواعا من الابتلاءات مختلفة. وفي مثل هذه الحالات فإنّ التّقوى شديدة المراقبة لله وحده سبحانه تنفث الصّبر نفثا عجيبا. من صور تقوى يوسف عليه السّلام وصبره حلمه على إخوته. وهو حلم بالكاد انبجست به شفتا أبيه إسرائيل عليه السّلام إذ استخدم هذا (سوف البعيدة) وذاك (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم). هي لوعة فؤاد والد حنون رؤوم مضغته الأشواق إلى ابنه ثمّ إلى إثنين آخرين منهم مضغا حتّى غدا كمثل العصف المأكول. تلك هوية هذه الدّار: معركة ضارية مضنية ساخنة شرسة لا هوادة فيها. وما سلاح المجاهد فيها عدا (من يتّق ويصبر فإنّ الله لا يضيع أجر المحسنين). كيف لا؟ وسلعة الله غالية.