Posted on Leave a comment

غزوة بدر الكبرى: دروس وعبر

ليست السيرة النبوية مجرد وقائع تاريخية ولى زمانها، ولا ذكريات من أجل التغني بأمجاد الماضي، بل هي مدرسة بما فيها من دروس وعبر، يستمد منها المسلمون زاد مسيرهم جيلا بعد جيل. فمن خلال صفحات السيرة النبوية يقف المسلم على حقائق الإسلام الكبرى مجسدة في حياة رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) باعتباره القدوة الحسنة للمؤمنين في كل زمان ومكان، قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}.

وقد حفلت معركة بدر بدروس نافعة وعبر عظيمة، من أهمها:

  1. أهمية التربية في إعداد جيل النصر المنشود: إن غزوة بدر لا يمكن عزلها عما قبلها، فالسنوات الأولى للدعوة، كانت كافية لتربية جيل الصحابة رضي الله عنهم على مبادئ الإسلام وقواعده المتينة، فكانوا بحق مؤمنين ربانيين عقيدة وفهما وعملا. فمن مقومات جيل النصر المنشود أن يأخذ حظه كاملا من التربية والتكوين، وبدون ذلك نكون قد تجاوزنا الخطوة الأولى التي تمثل الدعامة الأساسية في بناء الصف المسلم.
  2. إن الإخلاص والصدق من أهم أسباب النصر والتمكين، قال تعالى: ﴿ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾، وإنما نصر الله أهل بدر بما حملت قلوبهم من صدق وإخلاص، رغم قله عددهم وعٌدتهم. وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه قال: “جاء رجل إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: “يا رسول الله، أرأيت الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: “من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله”. فإخلاص النية لله تعالى وابتغاء مرضاته شرط أساسي لمن أراد أن يرزقه تأييده ونصره: {ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورياء الناس..}. وقديما قال ابن الجوزي رحمه الله: (إنما يتعثر من لم يخلص)، وقال الإمام الشهيد رحمه الله: (الإخلاص أساس النجاح).
  3. بيان أهمية الدعاء في حياة المُسلم، وأنّه جزءٌ مهم من أسباب النصر، فقد أنزل الله ألفاً من الملائكة تُقاتل مع الصحابة في غزوة بدر بعد تضرعهم ودعائهم، قال تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ). عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: لمَّا كان يومُ بدْر نظر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثُمائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبيُّ الله -صلى الله عليه وسلم- القبلةَ، ثم مدَّ يديْه، فجعل يَهْتِف بربِّه: «اللهمَّ أَنْجِزْ لي ما وعدْتَني، اللهم آتِ ما وعدْتَني، اللهمَّ إنْ تَهْلِك هذه العِصابةُ من أهْل الإسلام لا تُعْبَد في الأرض»، فما زال يَهْتِف بربِّه، مادًّا يديْه مستقبلَ القِبلة، حتى سقط رِداؤه عن مَنْكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رِداءه، فألقاه على مَنْكبيه، ثم التَزَمه مِن وَرَائه، وقال: يا نبيَّ الله، كفاك مناشَدَتَك ربَّك، فإنَّه سيُنْجِز لك ما وعَدَك، فأنزل الله -عز وجل: {إذ تستغيثون ربَّكم فاستجاب لكم أنِّي مُمِدُّكم بألف من الملائكة مُرْدِفين} [الأنفال: 9]. وإذا كان الدعاء مطلوب لعموم الخلق فإن الدعاة إلى الله تعالى أحوج إليه من غيرهم، لما يجدونه في طريقهم من تحديات وهموم، ولحاجتهم المستمرة لعون الله وحسن توفيقه. قال ابن القيم رحمه الله: “الدعاء من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب، وهو من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء يدافعه، ويعالجه ويمنع نزوله ويرفعه، أو يخفضه إذا نزل”.
  4. إن الشعور بمعية الله والمداومة على ذكره يكسب المؤمن قوة روحية عظيمة، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون}، فكلما ضاقت السبل وعظم البلاء تذكر قوله تعالى: {لا تحزن، إن الله معنا} {قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ}. إن استحضار معية الله سبحانه وتعالى في جميع الأحوال هو منهج الأنبياء، وشعار الصالحين، ودأب المخلصين. فما أحوجنا اليوم إلى اللجوء إليه سبحانه وتعالى، التماسا لمدده وعونه، وهو نعم المولى ونعم النصير، مستحضرين قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}.
  5. والشعور بمعية الله يذكرنا بحسن التوكل عليه، وهو من أهم أسباب النجاح والتوفيق في حياة المسلم. قال تعالى: ﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران: 160]. وفي غزوة بدر نصر الله المؤمنين بصدقهم وتوكلهم عليه رغم قلة عددهم وعُدتهم، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَٱتَّقُوٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123]، وهٌزموا يوم حنين حينما أُعجبوا بعددهم وعُدتهم: { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } [التوبة: 25]. فبعد الإعداد والأخذ بالأسباب يكون المؤمن على يقين تامٍّ أن الأمر كله بيد الله، وعليه فليتوكل المؤمنون.
  6. أهمية التخطيط والأخذ بالأسباب: مع حسن التوكل واليقين في نصر الله، لابد للمسلم أن يأخذ بالأسباب على الوجه الأكمل: فقد أخذ رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بكلِّ ما في وُسْعه من أسباب؛ رغم كمال توكله على الله، ويقينه في نصره. وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين هذين الأصلين في الحديث الصحيح، حيث يقول: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز). ودعاة الإسلام اليوم مطالبون بأن يحسنوا الأخذ بالأسباب المناسبة لعصرهم والمجتمعات التي يعيشون فيها، مع جميل التوكل على الله واليقين في نصره وتأييده لعباده المؤمنين.
  7. 7-     بعد انتصار المؤمنين يوم بدر، أراد الحق سبحانه وتعالى أن يذكرهم بأن النصر والتمكين نعمة منه يقر بها أعين عباده المخلصين، فلا مجال لغرور ولا عٌجب مع نشوة النصر. قال تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ، وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ، وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الانفال: 17] {وَمَا جَعَلَهُ اللَّـهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ ۗ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّـهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126].
  8. من شروط النصر والتمكين التزام الصبر والتقوى {بَلَىٰ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ..} فالصبر نصف الإيمان، والتقوى عماد الدين كله، وإنما يتقبل الله من المتقين. والتقوى والصبر متلازمان لا يقوم أحدهما إلا بالآخر، قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] [آل عمران:200]. وما أحوجنا اليوم إلى دعاة ربانيين يجمعون بين التقوى والصبر معاً، ولا سبيل لتحقيق التقوى على الوجه الذي يرضي ربنا تبارك وتعالى إلا بالصبر، ولا سبيل للنصر والتوفيق إلا بالصبر مع التقوى.
  9. وبعد قوة العقيدة تأتي قوة الأخوة بين المؤمنين والتآلف بين قلوبهم، وهذه نعمة من الله ومن أهم أسباب النصر، يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿… هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ (الأنفال: 62 – 64).  ولقد مَنَّ الله على عباده المؤمنين بهذه النعمة وهو ينهاهم عن ضدها: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ (آل عمران). إنَّ الدعاة إلى الله في حاجةٍ ماسةٍ لتجديد معاني الأخوة الإيمانية في حياتهم حتى تتوثق أواصر الوحدة بينهم، فلا تذهب ريحهم وتتشتت جهودهم. ولنا في رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الاسوة الحسنة حين آخى بين المهاجرين والأنصار كخطوةٍ أساسيةٍ بعد ترسيخ الإيمان في قلوب المؤمنين. لقد أقام النبي (صلى الله عليه وسلم) المجتمع الإسلامي الأول على دعامتين: الإيمان بالله، والأخوة في الله، وعليهما يقوم بناء جماعة المسلمين أينما كانوا.
  10. إن الصحابة رضي الله عنهم ضحوا بكل غال ونفيس فداء لهذا الدين العظيم الذي أكرمهم الله به، تركوا أموالهم وديارهم، وهاجروا بدينهم إلى طيبة، لا يملكون شيئا من متاع الدنيا، حتى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما رأى حالة فقرهم الشديدة قال: (اللهم إنهم جياع فأطعمهم، وعراة فاكسهم، وحفاة فاحملهم). فليعلم دعاة الإسلام أن هذه الدعوة لا يصلح لها إلا من حاطها من كل جوانبها، ووهب لها ما تكلفه إياه من نفسه وماله ووقته وصحته. (ولا تنجح الفكرة إلا إذا قوى الإيمان بها وتوفر الإخلاص في سبيلها وازدادت الحماسة لها ووجد الاستعداد الذي يحمل على التضحية والعمل لتحقيقها) وعلى قدر النية والجهد يكون التوفيق في الدنيا، والجزاء عند المنعم في جناد الخلد إن شاء الله.
  11. التأكيد على مبدأ الشورى في حياة الجماعة المسلمة: فهذا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو المؤيّد بالوحي من ربه يستشير أصحابه في غزوة بدر أربع مرّات، ليؤكد لنا أن الشورى سنة نبوية ثابتة ومبدأ قرآني لا غنى عنه، وأساس كل نظام ينتمي للإسلام أو يرفع شعاره. قال تعالى ” وشاورهم في الأمر ” هذا خلق الحبيب صلى الله عليه وسلم بعثه الله به، وعلى أتباعه أن يتخلقوا به.

هذه بعض الدروس والعبر المستفادة من ذكرى غزوة بدر، نسأل الله تعالى أن ينفعنا بها، وأن يوفقنا لتحقيق معانيها في أنفسنا، وأن يبارك لنا في ما بقي من رمضان ويرزقنا فيه التوفيق والقبول والغفران، آمين.

بقلم الشيخ: عبد المجيد نوّار

Posted on Leave a comment

وما كان ربّك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون | من سنن الله في النفس والحياة

 الحلقة: 8

وما كان ربّك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون

ورد هذا القانون بهذه الصّيغة في سورة هود المكية. من يقرأ القرآن الكريم بتدبّر ونظر وتأمّل لا يفوته أن يعلم أنّ لله سبحانه سنّة ماضية في الأمم المكذّبة. وخاصّة الأمم الصّادّة عن سبيل الله سبحانه. تلك هي سنّة الإهلاك ولو بعد إمهال لعقود طويلات بل لقرون أطول. حتّى إنّه اتخذ سلسلة سباعية من الأمم التي تعرّضت إلى ذلك في إثر تكذيبها أنبياءها وصدّهم عن سبيل الله. تلك السّلسلة السّباعية لا يفتأ يذكرها بانبساط مرّة وباقتضاب مرّة أخرى. أو يجمع بين انبساط وانقباض في السّياق ذاته أحيانا. وكلّ ذلك بحسب مقتضيات السّياقات. يتركّب ذلك السّلم في العادة الغالبة من قوم نوح ثمّ من قوم هود (عاد) ثمّ من قوم صالح (ثمود) ثمّ من قوم لوط وأحيانا بذكر عمّه إبراهيم عليه السّلام ثمّ من قوم مدين (شعيب) ثمّ من قوم موسى (بني إسرائيل ومختلف المفردات: فرعون ومن معه) . تلك هي أهمّ مركّبات تلك السّلسة التي اتخذها القرآن الكريم مثلا غالبا للتّكذيب المشفوع بالإهلاك. وقد تتغيّر بعض حلقات تلك السّلسلة ولكنّها تغيّرات طفيفة جدّا. كأن يتغيّر اسم القوم مثلا أو تعريجا على آخرين. ولكن مركّبات: قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب وقوم موسى هي مركّبات ثابتة. كلّ ذلك بطبيعة الحال في رسالة إلى قريش أصالة وإلى النّاس عامّة حتّى يوم القيامة. ولا ينفع القول هنا أنّ عاقبات التّكذيب أو الصدّ تغيّرت إذ هي تغيّرت فعلا. ولكنّ قانون الإهلاك ماض مطّرد ثابت. عدا أنّ صوره تغيّرت وليس أصله. هذا أمر يغفل عنه النّاس. بل حتّى بعض المسلمين. كما أنّ قانونا آخر قد يشغب على النّاس فيجعلهم يغفلون عن هذا القانون (قانون الإهلاك) وهو قانون الاستدراج أو المدّ أو الإملاء بحسب تغيّر التّعبير عنه باللّفظ القرآنيّ. هما قانونان يسيران جنب إلى جنب. فلا يشغب أحدهما على الآخر. قانون المدّ من جهة لمن تمرّد على التّكذيب والصدّ حتّى أضحى ذلك له مهنة وحرفة لا يحيد عنها. وقانون الإهلاك من جهة أخرى. وهو يصيب النّاس من بعد آخر بعثة رسالية بصور أخرى مختلفة عن صور الإغراق والسّحق والمحق والصّعق وغير ذلك. كلّ ما تقدّم كان ضروريا للحديث عن قانون الإصلاح الذي هو طارد لقانون الإهلاك. قوام هذا القانون هو أنّ الله سبحانه يهلك في العادة الظّالمين سيما بمعنى الصّد عن سبيل الله سبحانه من بعدما تبيّن لهم الحقّ. ولكنّه يؤخّر هذا القانون عندما يهرع النّاس إلى الإصلاح. جاء الحديث عن الإصلاح في جملة حالية (وأهلها مصلحون). هي (واو) الحالية. فكون حال بعض أهل تلك القرية ـ التي أهلها ظالمون ـ هي حال إصلاح فإنّ الإهلاك بعيد عنهم. ومن ذا امتلأ الكتاب العزيز بالدّعوة إلى الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر والإصلاح والصّلح الذي عدّه دوما خيرا (والصّلح خير) والدّعوة إلى الخير. وأردفت السنّة ذلك بالقيم ذاتها داعية إلى إعمال النّصيحة التي عدّها هي الدّين ذاته (الدّين النّصيحة) وغير ذلك ممّا امتلأ به الوحي الكريم من قرآن وسنّة. إنّما يحيق الإهلاك بالأمم والشّعوب عندما تقفر أرضهم من قيم الإصلاح بالكلّية. هذا تكريم لقيمة الإصلاح ولعمل المصلحين. أرأيت كيف أنّه لم يعلّق الأمر على بلوغ الإصلاحات مداها. إنّما وعد بطرد الإهلاك لمجرّد قيام الإصلاح الذي هو من المعلوم بالتّجربة الصّحيحة بالضّرورة أنّه لا يبلغ مداه حتّى يعوّق ويهدّم ويسجن أهله وينفوا من الأرض ويقتّلوا تقتيلا. هذا يجعلنا نلتقي مع قانون ماض عنوانه (الله يريد الآخرة). أي أنّه لا يريد أن تصل الإصلاحات إلى آمادها المسطورة ليعمّ العدل عموما. وإنّما هو سبحانه يبتلى النّاس: هل يتجشّمون طريق الإصلاح الذي دونه كلّ المهالك التي يخشاها الإنسان على نفسه جبلّة ـ وليس خوفا مكروها ـ أم يسكنون في الدّعة. بقيت كلمة (بظلم) هل تعني نفي الله عن نفسه سبحانه الظّلم وهذا مؤكّد معروف. ولكن هل هذا هو المعنى هنا. أم أنّها تعني السّببية ليكون المعنى: وما كان ربّك ليهلك القرى بسبب ظلمهم. المعنيان محتملان. وتلك هي طبيعة النّظم القرآنيّ العظيم العجيب عندما يريد تحدّي العرب الأقحاح. وعندما لا يكون الموضع في سياق نصّ دينيّ يتوقّف عليه خير أو شرّ أو حلال أو حرام أو واجب أو فريضة. أمّا التنطّع الحامس انتصارا لهذا المعنى أو ذاك في المتشابهات ـ التي أريد لها أن تكون كذلك ـ فليس من العلم ولا من الحكمة

والله يعلم وأنتم لا تعلمون

ورد هذا القانون بهذه الصّيغة في سياق الحديث عن القتال في سورة البقرة. إذ قال سبحانه (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبّوا شيئا وهو شرّ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون). ولكن ورد في مواضع أخرى ربّما تعالج فيما يأتي إن شاء الله. عادة ما يأتي هذا القانون عندما يخشى على الإنسان أنّه يجد في نفسه حرجا فيما ورد من تشريع أو تكليف. ورد هذا في موضع عدم عضل المرأة المطلّقة أن تعود إلى زوجها إذا تراضيا. والمفهوم هنا أنّ الخطاب موجّه إلى الأولياء الذين لا يريدون عود المرأة إلى زوجها الذي طلّقها. فهم من شدة شنآنه يذهبون إلى عقابه وشطب أيّ إمكانية أخرى لعودة حياة زوجية. كما ورد تعقيبا على الذين يحاجّون فيما ليس لهم به من علم من الإسرائيليين. إذ أنّ بعضهم يحاجّ في إبراهيم الذي أنزلت التّوراة والإنجيل من بعده. فهي إذن محاجّات مدحوضة لا سلطان للعلم فيها. كما ورد تعقيبا على حادثة الإفك في سورة النّور المدنية منبّها المسلمين إلى أنّ شيوع الفاحشة في صفوفهم ـ بتدبير من المنافقين وغيرهم من أعدائهم ـ هو الخطر المحدّق عينه. فلا تساهل مع هذا ولا غفران. لأنّ السّفينة عندما تخرق تغرق. ولا يشفع من بعد غرقها أحد لأحد. ولن يتلطّف البحر بأمواجه العاتية وظلماته المدلهمّة بغارق لم يكن من المساهمين في ذلك الخرق. ورأينا أنّ هذا القانون (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) كيف أنّه جاء تعقيبا على كتب القتال. ذلك أنّ النّفس تخاف القتل الذي هو ثمرة ممكنة للقتال. ولكنّ موت بعضنا ـ إذا لم يكن من ذلك بدّ ـ لأجل حياة الآخرين آمنين في أوطانهم وحرماتهم وكراماتهم وحرّياتهم هو أيسر من موتنا جميعا تحت نير الرّق الشّنيع والذّلة المهينة. هي قيم فطرية. ولا أدلّ على ذلك من أنّ العرب أنفسهم في جاهليتهم الأولى أقرّوها إذ قالوا: تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها. وقال شاعرهم الكبير: لا تسقني ماء الحياة بذلّة بل فاسقني بالعزّ كأس الحنظل. وربّما ـ ولأسباب أخرى ـ بسبب هذه العزّة العظمى المتأصّلة فيهم وتلك الأنفة أنزل الله عليهم سبحانه كتابه وجاء منهم رسوله عليه السّلام. (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) قانون ماض مطّرد صارم وسنّة مسنونة. بل هي حقيقة لا أظنّ أنّ أحدا يجادل فيها. من يراجع حياته فينا يلفى بيسر محطّات كثيرة فيها لم يكن فيها مختارا كلّ الاختيار. إنّما ساقته أقدار الرّحمان سبحانه إليها سوقا جميلا دافئا عجيبا. بل ربّما وجد في بداية ذلك السّوق تردّدا منه أو خوفا. ثمّ ما لبث أن اطمأن إلى محطّته الجديدة وألفها كلّ الإلف حتّى إنّه ليتردّد في العود إلى ما سلف. خير تعبير في القرآن الكريم عن هذا القانون هو ما جرى للغلام الذي قتله صاحب موسى عليهما السّلام جميعا. وما فعله إلاّ بإذن من ربّه سبحانه. إذ قال تعقيبا على ذلك (وما فعلته عن أمري). ثمّ أخبرنا سبحانه ـ رحمة بنا ولطفا ـ أنّه فعل ذلك لأنّه يعلم أنّ ذلك الغلام لو عمّر لكان فرعونا سابقا لفرعون موسى الذي هو رمز الكفر والقهر سواء بسواء. وأنّه لو عاش لكان ويلا وثبورا على أبويه. وبذلك يجمع بين الكفر والقهر والعقوق. وهي كفيلة بالخلود في النّار. أليس هو مشهد بالصّوت والصّورة رأيناه وسمعناه وتعلّمنا منه أنّ الله سبحانه يعلم ونحن لا نعلم؟ بلى وربّ الكعبة. هل هناك بعد هذه القصّة زعم داحض أنّ الإنسان يأسى على ما فاته أو يموت كمدا على ما لم يغنم حتّى لو سعى إليه السّعي كلّه؟ ولكن ذلك لا ينفي الحزن الخفيف أو حتّى البكاء. ولكنّه لا يتحوّل إلى سخط على قضاء الله سبحانه أو رفض لقدره الغلاّب القاهر. هذا القانون (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) لكم يسكب في النّفس من رضى وطمأنينة وسعادة غامرة وسكينة أحلى من الشّهد المصفّى وأزلّ من الماء الزّلال في ظمأة القائلات اللاّظية. من سلّم لله سبحانه فيما يريد سكب في فؤاده من الرّضى ما به تغدو الحياة كلّها وبما فيها من وقعات وسخطات مرفأ دافئا. ولكنّ ذلك لا يعني عدم إعمال الإرادة البشرية أو إحلال التواكل بدل التوكّل أو القعود بدل المقاومة. لا . الأمران يسيران جنبا إلى جنب. ثمّ يقضي سبحانه ما يريد ابتلاء لعبده هل يرضى أم يسخط. حتّى عندما تخفق حركات مجاهدة لاستعادة وطن سليب أو مقاومة لاستعادة تحرّر وسيادة أو عندما لا يظفر امرئ بفؤاد امرأة أحبّها من سويداء قلبه أو بشهادة سهر لأجلها اللّيالي فإنّ ذلك يظلّ محكوما ـ لنيل الرّضى وطرد اليأس والكفر ـ بهذا القانون الغلاّب (والله يعلم وأنتم لا تعلمون). وسبحان من يعلم كلّ شيء

بقلم الشيخ: الهادي بريك

Posted on Leave a comment

ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي النّاس | من سنن الله في النّفس والحياة

 ورد هذا القانون في سورة الرّوم المكية. هو قانون عمرانيّ اجتماعي عامّ لا يخصّ قوما دون غيرهم ولا زمانا دون زمان. هو قانون صارم مطّرد يفرض سلطانه على المؤمنين وعلى الكافرين سواء بسواء. نصّ القانون هو (ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي النّاس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلّهم يرجعون). الفساد عادة ما يرد في الكتاب العزيز بمعنى العدوان على الإنسان أبشارا وأموالا وأعراضا. هو شبيه بما أسمته سورة المائدة المدنية حرابة. هذا مفهوم بسبب أنّ العدوان على الإنسان الذي أوكلت إليه مهمّة عمارة الأرض هو عدوان على إرادة الله نفسه سبحانه.

هو تعويق لوسيلة الإعمار ولغايتها كذلك. إهلاك الإنسان بغير حقّ وإهلاك حرثه وكسبه وتعويق حرّيته وتهديد حرمته وغير ذلك كلّه فساد بالمنطوق القرآنيّ. والحديث هنا عن ظهور الفساد أي تبرّجه وعلوّه وعمله بحرّية وإستعلان. الفساد لا يجتثّ من الأرض بالكلّية ولكنّ استعلاءه واستعلانه هو المشكلة بسبب أنّه يبثّ الخوف وينثر الفزع ويعوّق العمارة. ومن ذا تأسن الحياة. ولذلك جاء التّهديد في الحديث النّبويّ ضدّ المجاهرين بالفساد والمعاصي أكثر من الفاعلين لها مستترين. أمّا قوله (في البرّ والبحر) فالأغلب أنّه يقصد به علوّ ذلك الفساد وانتشاره. كمثل قوله مرّات كثيرات (ما بين أيديهم وما خلفهم) إذ المقصود هنا وهناك الشّمول وليس الجهة. إذ ليس هناك في المكان عدا البرّ أو البحر. وما يظنّ أنّه جوّ هو في الحقيقة برّ. لأنّه دائر في فلك القشرة المحيطة بالأرض. الباء هنا سببية ليكون أصل الكلام: بسبب ما كسبت أيدي النّاس. وهي جزائية كذلك ليكون المعنى : جزاء بما كسبت أيدي النّاس. ولم يتردّد القرآن الكريم في النّصّ على المقصد الأسنى من ظهور هذا الفساد الذي هو بسبب كسب النّاس أنفسهم وهو قوله سبحانه (ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلّهم يرجعون). إذ عندما يذوق النّاس عاقبة فسادهم ومرارة الفساد الذي أصابهم يكون ذلك رادعا لهم وزاجرا فتتحرّك فيهم إرادة الرّجوع إلى طريق الصّلاح.  وقوله (ليذيقهم) مجاز يغلب أن يكون نكاية. هو قانون صارم مطّرد يشكّل دورة حضارية متعاقبة قوامها أنّ الله سبحانه يرسل الرّسل لهداية النّاس. فإذا فاؤوا أغدق عليهم بالطّيبات. وإذا فسقوا أمدّ لهم في فسقهم واستدرجهم في فسادهم حتّى يكون ظاهرا مستعليا مستعلنا متوسّعا ليصيب مساحات واسعة منهم ويفرض عليهم حالات شديدة من الاختناق ممّا يدفع المصلحين منهم إلى مباشرة دورة إصلاحية جديدة في إثر النّبوّة.

ومن ذا يكون رجوع إلى الله سبحانه بسبب ما أذيقوا من ويلات الفساد المستعلن. وليس هذا خاصّا بالمسلمين. إذ تتعرّض الأمم الأخرى إلى مثل هذا. كما وقع في أوروبا قبل عقود طويلات. إذ عربدت الكنيسة المتحالفة مع رأس المال الفاجر والقيصرية الماجنة. فلمّا أضحى ذلك غير مطيق هرع المصلحون إلى الإصلاح. فكانت ثورة جاءت بحدود دنيا من كرامة الإنسان ولجم الكنيسة الغاشمة. فيما أظنّ سيكون مثل ذلك بشكل ما عندما تتقدّم دعوات المثلية الجنسية وإشاعة الحرّيات الجنسية غير منضبطة حتّى بقيود الفطرة ـ وليس الدّين ـ. أظنّ أنّ ما يحيق بالأسرة الأوربية اليوم مقدّمة لمثل ذلك. ذلك أنّ الأسرة محطّة من محطّات إنفاذ الله سبحانه لإرادته. فإذا تعرّضت تلك المحطّة إلى ما يشبه الفناء الكامل فإنّ فسادا ما سيظهر بما كسبت أيدي النّاس الذين تمرّدوا على وظائفهم الإنسانية وجبلاّتهم البشرية بما يدفعهم إلى مراجعة أنفسهم. من لطف الله سبحانه أنّه لا يدع النّاس في غمرة ـ حتّى بعد انقضاء زمن النّبوّات ـ بدون حدود. إذ ينذرهم بفساد مستعل مستعلن يحوّل حياتهم إلى جحيم بسبب ما اقترفت أيديهم ليذيقهم

غلوّهم وليهبّ المصلحون منهم إلى إنقاذ الحياة من ذلك الجحيم. وبما أنّ الدنيا دار عمل لا دار جزاء فإنّه سبحانه قال (ليذيقهم بعض الذي عملوا). بعضه فحسب. وهذا متوافق مع قوله سبحانه (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابّة).  والله أعلم

ومن كلّ شيء خلقنا زوجين

ورد هذا القانون في سورة الذاريات المكية (ومن كلّ شيء خلقنا زوجين لعلّكم تذكّرون). وهو القانون ذاته الذي سار عليه نوح عليه السّلام وهو يملأ سفينته بزوجين من كلّ شيء. يسمّى قانون الزّوجية أو سنّة الازدواج. وله علاقة وطيدة بسنّة التنوّع أو الاختلاف الواردة في مواضع أخرى. أو ناموس التّعدّد. لا مشاحّة في المصطلح إذن. ناهيك أنّه سبحانه ـ وكما هو في اللّسان العربيّ القحّ ـ لم يؤنّث كلمة زوج. وذلك حتّى يكون التّطابق بين الزّوجين ـ سيما في الدّائرة الإنسانية ـ أكثر. فلا زوج بلا زوجه. ولا يكون الزّوج إلا بزوجه. المقصد الأسنى من هذا القانون هو الدّلالة العقلية المنطقية الصّارمة على أنّ كلّ شيء يتزوّج ويتعدّد ويتنوّع ويختلف إلاّ الله وحده سبحانه. فهو أحد فرد صمد ليس كمثله شيء. ذلك هو المقصد الأسنى. لأنّ الهدف الأعلى من القرآن الكريم هو تعريف النّاس كلّهم بربّهم الحقّ لإزالة كلّ صور الشّرك الغابرة والحاضرة. وإلاّ فإنّ العقل كفيل ـ بإذن ربّه سبحانه ـ بالكشف عن هذا القانون سيما عندما يتقدّم العلم وتنداح المعارف. ولكن بادر القرآن الكريم به خدمة لمقصده الأسنى. أي تعريف النّاس بربّهم الحقّ أنّه أحد فرد صمد لا تجري عليه ما يجري على الأشياء. ومن ذا يعظّمونه ويوحّدونه ويعبدونه عبادة خالصة. ولكن قليلا ما تجد من يثير هذا المقصد الأسنى من هذا القانون. إذ يذهب كلّهم تقريبا ـ إلا قليلا ـ إلى بيان منافع الزّوجية قانونا ومصالح الازدواج والتنوّع والتعدّد والاختلاف ناموسا. هذا مقصد ثان لا أوّل. هذا مقصد عمليّ لا عقديّ. هذا مقصد يمكن الكشف عنه عقلا. أمّا المقصد الأوّل فلا بدّ فيه من وحي سماويّ ثابت صحيح. خلق سبحانه كلّ شيء طرّا مطلقا ودون أيّ استثناء على أساس الزّوجية والازدواج الذي يعني القيم التّالية: قيمة الاشتراك في المصدرية الخلقية إذ كلّ شيء منه سبحانه. قيمة الاختلاف تنوّعا وتعدّدا وإزدواجا في بعض الوظائف والصّفات والأعراض.

قيمة التّكامل المراد من تعالج تينك القيمتين الأوليين. أي قيمة الاشتراك وقيمة الاختلاف. تلك هي أمّ الفلسفة الإسلامية في الوجود والكون والحياة. من يبدأ معرفته الإسلامية وفقهه النّظريّ من تلك البداية فلن يضلّ بإذن الله سبحانه. لأنّه أمسك بالبوصلة الفكرية العليا التي تبيّن له معاني الاختلاف ومعاني الاشتراك ومعاني التّكامل. ولكنّ الله سبحانه أراد قانون الاختلاف بغاية الابتلاء ولذلك قال سبحانه (ولو شاء ربّك لجعل النّاس أمّة واحدة. ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربّك ولذلك خلقهم). هو شيّد كونه وخلقه واجتماع عباده على قانون الزّوجية بغرض الابتلاء والتّدافع بينهم حتّى يكون الكون كلّه حديقة غنّاء فيها كلّ الألوان والأصوات والرّوائح. إذ لو كان الأمر غير كذلك لما كان معنى للابتلاء والتّدافع. ولأسنت الحياة أسونا. ومات الفعل. هي حكمة بالغة. عدا أنّه قليل جدّا ـ ومن المسلمين أنفسهم إلاّ في أزمنة قليلة لا تكاد تذكر ـ من النّاس من يفقه هذا القانون حقّ الفقه. وأقلّ من أولئك هم من فقه القانون علميا ومعرفيا حقّ الفقه. ولكنّه في الممارسة يقترف أسوأها. إذ يتّجه في الاتجاه المضادّ لهذا القانون. القيمة العظمى التي يدندن حولها الكون كلّه شرقا وغربا وباسمها تذبح شعوب ذبحا وتسلخ أمم سلخا أي قيمة الدّيمقراطية لا مشروعية لها إلاّ من هذا القانون. لو كنّا نعلم. لا أمل في أن يكون المرء ـ بغضّ النّظر عن دينه ـ ديمقراطيا بمعنى أنّه يرعى الاختلاف ويعتبر التنوّع وينسجم معه بدون سحق ولا محق ولا حتّى ضيق حتّى يتشبّع بقيمة الازدواج تشبّعا معرفيا صحيحا ثمّ ينضبط لذلك انضباطا يحتاج إلى معركة هادرة مع نفسه الأمّارة بسوء الاستبداد واسترقاق الآخرين واستعبادهم. ولكن النّفاق جهنم هذه الحياة الدّنيا. فهو لا يدع مجالا لعقل أن يتعلّم أو لنفس أن تتهذّب. النّاس كلّهم وبغضّ النّظر عن دينهم بحاجة ماسّة مؤكّدة إلى حسن تمثل قانون الزّوجية علما وعملا معا. ويحتاج الأمر علما إلى دقائق معدودات. ولكنّه يحتاج إلى جبال من الصّبر لضبط النّفس عليه.

لن أتردّد يوما في القول أنّ المسلمين الذين هم أولى النّاس بهذا القانون الأعظم فشلوا فشلا ذريعا في تاريخهم وحاضرهم في استيعاب هذه السنّة. وخاصّة في تمثّلها عملا إلاّ في عقود قصيرات من بعد موته عليه السّلام. ومن ذا أوصى الإسلام بالتّعارف المتبادل المشترك بين النّاس المختلفين. وجعل اسم الأسرة زواجا. لأنّه تزاوج بين مشتركين في الأصل مختلفين في بعض الوظائف عملا وليكون من ذلك تكافل بين الزّوجين. فلا يطغى مشترك على مختلف. ولا يسطو مختلف على مشترك

Posted on Leave a comment

كيف تحافظ الأسرة المسلمة على دينها في الغرب؟

كيف تحافظ الأسرة المسلمة على دينها في الغرب؟ لقاء مع عميد الكلية الأوروبية للعلوم الإنسانية ورئيس لجنة الفتوى بألمانيا الدكتور: خالد حنفي. في برنامج #أيام_الله على قناة الجزيرة مباشر

شاهد اللقاء من هنا

https://fb.watch/czMcbJZg6j/

Posted on Leave a comment

في الحاجة إلى الاعتكاف

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه

كثيرة هي السنن الواردة عَنْ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وآله وسلَّمَ، غير أن بعضها يكاد العمل به يُنسى فلا يُذكر إلاّ همسا. من ذلك سنة الاعتكاف، فعَن عبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ـ رضى الله عنهما أنه قَالَ : «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ» رواه البخاري. فما السبيل إلى إحيائها علّ قلوبنا تحيي بها.

‏إن من أهم ما تهفو إليه قلوب المؤمنين في شهر الصيام هو أن توافق ليلةَ القدر التي صحّ عن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّمَ أنها في العشر الاواخر منه و بالأخص في لياليه الوترية، عن عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه و آله وسلَّمَ قال: «تَحرُّوا ليلةَ القَدْر في العَشْر الأواخِر من رمضانَ»  رواه البخاريُّ ومسلم، و ، و عنها رضِيَ اللهُ عنها أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه و آله وسلَّمَ قال: «تَحرُّوا لَيلةَ القَدْرِ في الوَتْر من العَشرِ الأواخِرِ من رمضانَ »  رواه البخاريُّ.  و لأجل إدراكها و نيل فضلها يُسنّ للمسلم الاعتكاف في هذه العشر ليصير بذلك مغمورا في رحمات الله، مبتهلاً إليه قائماً لياليها مرابطاً أيامها ذكراً و قراءةً و تدبراً، منتظراً الصلاة بعد الصلاة، راجياً من الله أن تمحى سيئاتُه و ترفع درجاتُه: عن أَبي هريرة رضِيَ اللهُ عنه أَنَّ رسولَ اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّمَ قالَ: «أَلا أَدُلُّكُمْ عَلى مَا يمْحُو اللَّهُ بِهِ الخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا: بَلى يَا رسولَ اللَّهِ. قَالَ: إِسْباغُ الْوُضُوءِ عَلى المَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الخطى إِلى المَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بعْد الصَّلاةِ، فَذلِكُمُ الرِّباطُ، فَذلكُمُ الرِّباطُ» رواه مسلم. وعَنْه رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَال: «… وَإِذَا دَخَلَ المَسْجِدَ، كَانَ فِي صَلاَةٍ مَا كَانَتْ تَحْبِسُهُ، وَتُصَلِّي – يَعْنِي عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ – مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ » رواه البخاري ومسلم

جعل الله القرآن الكريم مُبارَكاً وللأنفس مُبارِكاً، وزاد من بركاته في الأيام والليالي المباركة وأعلاها ليلة القدر، حيث جعلها خيرا من ألف شهر، دون أن يحدد لفضلها عددا ـ وهو سبحانه الواسع العليم ذو الفضل العظيم ـ وما ذاك إلا ليتفضّل على عبده ويوسّع له في المدد إن هو تعرّض فشمّر واستعدّ، وفي هذا حديث مرفوع اختُلف في إسناده رواه الطبراني عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أنه قال: « إن لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها » ولأجل هذا نصح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أن تُلتمس ليلة القدر في العشر الاواخر من رمضان، والالتماس طلب جادّ !  

إنه ليجمل بأهل الفضل أن يحيوا هذه السنة الكريمة على قدر المستطاع ولو لأيام، بل ليوم وليلة حسب ما هو مقرر عند المالكية، فمن لم يستطع فله أن ينوي ذلك ولو لساعة عند الآخرين إذ الاصل في الاعتكاف مكوثُ مدّة في المسجد للعبادة، وقد نبّه القرآن ضمنيا إلى فضيلة الاعتكاف بذكره في سياق الحديث عن آيات الصيام {… وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (البقرة 187)، بل ختمها به في تناسق بين الألفاظ والمعاني، حيث يُندب أن يُختم به شهر الصيام وهو أفضل أوقاته عند الفقهاء.

لعلنا نستثقل أمر الاعتكاف فنتثاقل عنه ونحن أحوج ما نكون إليه. نحتاج في هذا إلى إمعان النظر وتقليب الفكر ليتبين الأمر.

للعبد حاجات في الدين والدنيا يكدح من أجلها وقد يبلغ بعضها أو جلّها، وفي كل أطواره هو محتاج إلى ربه من أجل ضبط سيره، وأيم الله إن الاعتكاف لفرصة كبرى تفتح للعبد أبوابا للخير أولُها إصلاح القلب الذي عليه المعوّل. ورحم الله الامام ابن عطاء الله القائل: «ما نفع القلبَ شيء مثل عُزلة، يدخل بها ميدانَ فكرة». إنّ ميدان الفكر يحتاج إلى الذّكر وكلاهما أساس لبناء القلب لعله يصحّ من العبد فيصحّ.

ذكر الامام الغزالي في كتاب التفكر من الإحياء من مجاري الفكر ما يوسّع آفاق النظر القلبي في الكون والنفس وفي علاقة الإنسان بربّه وبغيره. إنّ الواجبات والمندوبات كثيرة والأعمار قصيرة ولا بركة لها في غير مجال القران الكريم. فعلى المؤمن أن يقف وقفة تأمل ومحاسبة لتصحيح السير قبل أن ينقطع به، وذلك من خلال تدبّره لكلام ربّه.

من أجل هذا نسوق تساؤلات يشترك فيها المؤمنون والمؤمنات بطرحها على أنفسهم بكامل الصدق:  ماحقيقة إيماني ومعرفتي ؟ وماذا قدمت من أعمال ليوم غد؟ وماذا عملت فيما علمت؟ وما حقيقة إخلاصي فيما فعلت؟ ما موقعي بين الناس في دنيا الناس؟ بل ما مقامي عند رب الناس؟ وهل أنا مما ينتفع به الناس؟ وهل أحسنت الاستفادة من الناس؟ كلّ الناس! وهلمّ جراّ. ولكلّ هموم وشجون

 في زحمة الدنيا وهمومها قد تفوت العبدَ فرصةُ هذه التأملات، لذا فالأجدر به أن يستغل هذه الأيام والليالي المباركة للتدبر في آلاء ربه وسبر أغواره نفسه حتى تنجلي له صورتها فيعرف بفضل الله مكامنَ الخير والشر منها ليزكّيها. فإنّ تزكيتها منوطة به لا بغيره بل هي رأس الواجبات، وقد أقسم الله في سورة الشمس على هذه الحقيقة بمختلف ظواهر هذه الكون لشدة تقلّبات هذه النفس. فلا بد من تزكيتها، ولا يحصل لها ذلك إلاّ بالتعلق والإنابة إلى بارئها سبحانه القائل: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (النور 21)، والله سميع الدعاء عليم بحال وصدق من مدّ يد قلبه وتوجّه إليه.

ما أعظم العبرة في أن يذكر الله الدعاءَ في قلب سياق آيات أحكام الصيام، ولا شك أنّ الاعتكاف معين عليه ظاهرا بفتح مجال التفرغ له وباطنا بإزالة الشواغل الصارفة عن إجابته: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ» رواه الترمذي والحاكم.

 وحول ضرورة الدعاء أوصى رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بطلب العفو عند التماس ليلة القدر لأنه من أهم مستلزمات العبادة، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: قلتُ يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ إن علمتُ أيَّ ليلةِ القدرِ ما أقولُ فيها؟ قال: قولي: اللهمَّ إنك عفوٌّ تُحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي» أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد.

إنّ العفو هو مفتاح معراج الروح لأنّ محو الذنوب أساس طهارة القلوب لتصلح للقرب من علّام الغيوب، ولا انتفاع للعبد بغير سلامة قلبه في المآل: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}. (الشعراء 89).

ليس لنا أن نحجّر واسعا فندّعي أنّ الاعتكاف هو السبيل الأوحد لنيل فضل ليلة القدر، وإنما نذكّر أنه أفضل ميدان للذكر والفكر، لترتيب أولويات الملفات قبل الفوات.

اللهمَّ إنك عفوٌّ تُحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّا. آمبن

أخوكم عبد الجليل حمداوي

Posted on Leave a comment

إنّ الحسنات يذهبن السّيئات | من سنن الله في النّفس والحياة

 ورد هذا القانون في سورة هود المكية. ومناسبته أنّ رجلا نال من امرأة لا تحلّ له شيئا. منهم من قال إنّه نال منها قبلة أو قبلات. ومنهم من قال إنّه نال منها أكثر من ذلك عدا الإيلاج. جاء هذا الرّجل إلى النّبيّ محمّد عليه السّلام متطهّرا فنزل عليه ـ عليه السّلام ـ قوله سبحانه (أقم الصّلاة طرفي النّهار وزلفا من اللّيل إنّ الحسنات يذهبن السّيئات ذلك ذكرى للذّاكرين). فقال الرّجل: أهذا لي خاصّة؟ قال عليه السّـــــــــــلام: لا بل هو للنّاس عامّة. وهو مستفاد من قوله سبحانه (ذلك ذكرى للذّاكرين).

هذا قانون من قانون التديّن قوامه أنّ من أساء فأحسن أذهب صالح عمله سوءه. ويؤكّده حديثه عليه السّلام (اتق الله حيثما كنت وأتبع السّيئة الحسنة تمحها وخالق النّاس بخلق حسن). كما أفاد هذا أنّ الصّلاة من الحسنات التي تذهب السّيئات وهو ما يصدّقه قوله عليه السّلام (الصّلاة إلى الصّلاة والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان والعمرة إلى العمرة مكفّرات لما بينهنّ).

زاد بعضهم: إذا اجتنبت الكبائر. ويغلب أنّها زيادة تفسيرية من بعض الصّحابة. ومعلوم أنّ السّيئات التي تذهبها الحسنات ليس منها العدوان على الإنسان عرضه وماله وبشرته وما يتقوّم به ويتبلّغ. وليست الصّلاة هنا ـ على عظم قدرها وأنّها محطّة تكفير دون ريب ـ عدا مثالا من الحسنات. إذ ثبت أنّ الصّحابة يتصدّقون عندما يقترف بعضهم سوء ليس فيه قصاص ولا حدّ ولا تعزير. وهو ما يصدّقه قوله عليه السّلام (الصّدقة تطفئ غضب الرّحمان). الصّلاة إذن والصّدقة محطّات تكفير. ولكنّ التّكفير لا يتوقّف عندهما فحسب. ذلك أنّ هذا يلتقي مع قانون آخر وهو أنّه عندما يكون التّكفير من جنس السّيئة يكون غفران الله سبحانه على مرمى حجر أو هو أقرب. يصدّق ذلك أنّ من وقع في عرض أخيه يكفّر عن ذنبه بالذبّ عنه. ومن فوائد هذا القانون كذلك أنّ السّيئة هنا ليست هي الكبيرة سواء بالعودة إلى سياق مناسبة الآية أو إلى السّياق العامّ. إذ لو كان شأن هذا الرّجل مع تلك المرأة أكثر من ذلك ـ بأن واقعها مثلا ـ فلا تكفيه حسنة الصّلاة. إنّما لا مناص من العقوبة المعروفة إذا رفع الأمر إلى القاضي. هنا تشتبك نصوص من الوعظ مع نصوص من الفقه. يشغب هذا كثيرا على كثير من النّاس إذ يعتصم بعضهم بالفقه الذي هو باتّ في التّمييز بين السّيئة والكبيرة وأنّ الأولى تكفّرها مثل تلك الأعمال في حين أنّ الأخرى أثقل من ذلك. ويعتصم آخرون بالمواعظ التي وردت على ألسنة بعض الصّحابة أو غيرهم ممّن ألف فيها (السّكندريّ مثلا). من ذلك ما قاله أحد الصّحابة أنّه لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار. هذه وردت مورد الوعظ. إذ لا يسلّم الفقه أنّ بعض الكبائر سيما المتعلّقة بحقوق العباد يذهبها الاستغفار. كما أنّ السّيئة ـ التي عبّر عنها كثيرون باسم الصّغيرة ـ أو هي اللّمم في قول بعضهم يذهبها الاستغفار وتجدّد التّوبة. سيما أنّ بعضها لا يسلم منها أحد عدا من عصم الله سبحانه من الأنبياء.

لا مناص للمؤمن من الجمع بين قوانين الفقه في دقّته وصرامته وبين حليات المواعظ. ولكنّهما يتكافلان معا على صناعة الشّخصية المسلمة المتوازنة. ودون شغب من الموعظة على الفقه ولا من الفقه على الموعظة. هذا تعالج معروف في تاريخنا بين هؤلاء وأولئك. ولكن يظلّ للموعظة وقعها ما نأت عن سنّ القوانين ويظلّ للفقه سلطانه ما لزم الدّقة والتأصيل. وما يهمّنا هنا هو أنّ هذا القانون سنّه القرآن الكريم نفسه. وهو تبشير للمؤمنين ونأي بهم عن اليأس والقنوط ودفع لهم نحو الإيجابية واعتراف بالواقعية وبقصور الإنسان وتأكيد لرحمة الله سبحانه. جاء هو كذلك ـ كالعادة تقريبا ـ مرتديا جملة إسمية مؤكّدة. كما جاء عامّا للذّاكرين جميعا. إذ ليس في هذه القوانين من خصوصية بزمان أو مكان أو فلان. يستنكر بعض الشّباب كيف يقع هذا من رجل يفترض أنّه صحابيّ ـ على خلاف معروف في تعريف الصّحابيّ ـ. كيف يقبّل امرأة لا تحلّ به أو ربّما كيف ينال منها أكثر من ذلك؟ هؤلاء عليهم أن يفقهوا حقّ الفقه أنّ الشّريعة لم تأت لتصنع من عالم الإنسان فضاء ملائكيّا خالصا. إنّما جاءت لتزكّي النّاس وتطهّرهم وتفتح أمامهم أبواب الأمل فلا يقنطوا من رحمة الله سبحانه. ومن أروع ما صاغ السّكندريّ قوله (ربّ معصية ورّثت ذلاّ خير من طاعة ورّثت كبرا). ومن رحمة الله سبحانه بنا أنّه أخبرنا أنّ من يجتنب الكبائر فحسب يغفر له ما اقترف من السّيئات وهي التي يسمّيها النّاس صغائر. الذين لا يرحّبون بهذا على خطر عظيم ويعسر جدّا أنّ يفيئوا إلى الله سبحانه فيئة صادقة كفيلة بالغفران

سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم

ورد هذا القانون في سورة فصّلت المكية. هو وعد منه سبحانه ـ بل ربّما يكون وعيـــــدا ـ أنّه مظهر دينه بما يري النّاس من آياته العظمى أنّه الإله الواحد الأحد الأوحد فهو الجدير بالعبادة. الآيات المقصودة هنا يغلب أن تكون من جنس الآية التي جاء بها القرآن الكريم. أي آية العقل والإقناع ومخاطبة النّفوس والإحاطة بها من كلّ الجوانب ترغيبا لها في الإيمان ونبذ الكبر الذي يثمر الكفر. قد يري الله سبحانه النّاس في زمن ما ومكان ما آياته الخارقة التي تظلّ الأعناق لها مشرئبّة. هذا ممكن ووراد ولكنّه ـ بعد اكتمال الدّين وإتمام النّعمة ـ ليس هو الأصل. هذا موضوع شغل الكتاب العزيز فيما لا يحصى من المواضع أنّه لن يلبّي الرّغبات الجانحة المجنونة للنّاس أنّه ينزّل عليهم آية من السّماء خارقة. كما كان يفعل بالأقوام السّالفين. كما بيّن سبحانه في مرّات كثيرات أنّهم لا يطالبون بتلك الآيات الخارقات بسبب نقص في الرّسول أو بسبب نقص في كتابه الذي جاء به. ولكن بسبب كبر آثم في صدروهم. إذ يريدون معاندة الوحي وتعجيز الرّسول والسّخرية منه والتّفصّي من الإيمان فيعمدون إلى المطالبة بآيات خارقات ولا يكفّون عن ذلك. لا يستطيع المرء الجزم بأنّ تلك الآيات المادية انتهى دورها بالكلّية.

ولكن يستطيع المرء أن يطمئنّ إلى أنّ الأصل في الآية التي على أسّها يؤمن النّاس أو يكفرون إنّما هي حصرا وقصرا القرآن الكريم الذي يخاطب العقول والنّفوس والأرواح ويحيلها إلى النّظر في تضاريس الكون وتضاريس النّفس وتضاريس التّاريخ حتّى يكسبوا إيمانا صحيحا سالما متجدّدا. ذلك هو الأصل ولكنّه سبحانه قد ينزل بعضا من تلك الآيات المادية في زمن ما ومكان ما لحكمة يعلمها وحده سبحانه. هو قانون في ثوب وعد أو وعيد. هو وعد لأنّ القرآن الكريم ولاّد بآياته العقلية التي يحيل النّاس فيها على أنّه معجز ـ ليس من النّاحية البيانية كما نقول نحن اليوم وبالأمس كسلا منّا أو عجزا وقصورا ـ إنّما هو معجز بكلّ ما فيه من تشريعات عقدية وقيمية وتعبّدية وأسرية عائلية ومالية اقتصادية وإدارية وسياسية وغير ذلك. مناط الإعجاز فيه شامل جامع. ولكن تأخّرنا كثيرا حتّى نصوغ ذلك في مدوّنات تترجم إلى اللّغات التي يرطن بها النّاس من حولنا. وهو وعيد كذلك إذا احتملنا أنّه سبحانه ينزل يوما ما آيات مادية خارقة.  تكون تلك الآيات في الآفاق وفي الأنفس. الآفاق ليس بمعناها المادّي فحسب. إنّما هي آفاق علمية معرفية عقلية. في الآفاق العائلية الأسرية اليوم مثلا تبيّن لكثيرين ـ من مفكّرين إنجليز مثلا ـ أنّ التّشريع الإسلاميّ في بناء الأسرة وإدارتها وعلاجها هو الأنسب. في الآفاق التحرّرية تبّين كذلك لكثير من الغربيين والغربيات في العقود الأخيرة أنّ الحرّية المزعومة التي لا تعرف حدودا هي حرّية الحيوانات والعجماوات وليست هي الحرّية المناسبة للإنسان.

من الأمثلة النّاصعة على ذلك الإعلامية الألمانية التي أنتجت باقة طيّبة من الكتب في هذا الاتجاه والتي وقع طردها من المؤسّسات الإعلامية الفضائية الألمانية بسبب ذلك (إيفي هرمان). وأمثلة أخرى يضيق عنها المجال هنا. هي آفاق كثيرة ستظهر فيها ـ بل بدأت بالظّهور ـ آيات الله سبحانه أنّه هو الحقّ. وأنّ تشريعه في كلّ مجال وحقل هو الأنسب للإنسان. ستظهر هذه الآفاق في المجال الماليّ الاقتصادي عمّا قريب إن شاء الله بسبب ما ترزح منه البشرية جمعاء قاطبة تحت وطأة المعاملات الرّبوية التي أنهكت أزيد من أربعة أخماس البشرية. وآفاق أخرى تنظر دورها. وهي آيات في النّفوس كذلك. المقصد الأسنى من إراءة الله سبحانه النّاس آياته في الآفاق وفي أنفسهم هو تبيّن الحقّ. قال سبحانه (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتّى يتبيّن لهم أنّه الحقّ). يتبيّن للنّاس جميعا أنّ هذا الكتاب هو الحقّ. وهو من عند الحقّ سبحانه. وقوله الحقّ الذي ليس بعده إلاّ الضّلال. هذا من رحمة الله سبحانه بالنّاس. هو لا يحيلهم إلى النّظر في الكون والتّاريخ فحسب. وإنّما يبيّن لهم آياته في آفاق حياتهم وآفاق معاشهم وفي أنفسهم. كيف يكون ذلك في أنفسهم؟ ربّما يكون في الحياة الفردية لكلّ واحد منهم إذ أنّ الإنسان أبصر بحاله وبنفسه. وربّما يكون ذلك في الجهاز النّفسيّ لكلّ واحد منهم إذ الإنسان هو جهاز نفسيّ مركّب معقّد مزدوج التّركيب. وليس البدن إلاّ وعاء يحفظ ذلك الجهاز إلى حين. وربّما يكون ذلك في البدن ذاته بما تقدّمت فيه علوم الطبّ والتّشريح وغير ذلك. كلّ ذلك محتمل من قوله سبحانه (وفي أنفسهم). الآفاق تكون بعيدة والنّفوس تكون قريبة. وهو تقابل بينهما جميل يعني أنّ الآيات عندما تأتي تجمع القريب بالبعيد والأقصى بالأدنى.

بقلم الشيخ/ الهادي بريك

Posted on Leave a comment

رؤية الله سبحانه وتعالى ورؤية النبي ﷺ في الدنيا والآخرة

*”في الدنيا، هل نرى ربنا سبحانه وتعالى، ونبينا ﷺ، واليوم الآخر ومصيرنا؟!”*

النفس متشوقة إلى *”ما فوق المعرفة”* إلى *”الرؤية”* إلى الارتقاء من المعرفة إلى العِرفان، من عِلم اليقين إلى عين اليقين، فهي متشوقة لرؤية ربها تعالى ونبيها ﷺ واليوم الآخر ومصيرها، ولذلك جاء الإسلام *بما يروي عطش الفِطرة في الدنيا توطئة للارتواء الأعظم في الآخرة*، ومن ذلك:

–  *رؤية الرب تعالى* في “مقام الإحسان” (كأنّك تراه) متفق عليه، ورؤية كمالات الله بأسمائه الحُسنى وإحسانه ورؤية كلماته وملكوته سبحانه. وأما في الآخرة فقال تعالى ﴿وُجوهٌ يَومَئِذٍ ناضِرَةٌ ۝ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ﴾.

– *ورؤية النبي ﷺ* رواية ورؤيا، رواية بما ثبت من أوصافه وسيرته وسنته ورسالته ﷺ، ورؤيا بما ورد في الحديث: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة – أو كأنما رآني في اليقظة، لا يتمثّل الشيطان بي) متفق عليه، وأما يوم القيامة فالمؤمن يرى نبيه ﷺ عند الحوض والميزان والصراط وعند مرافقته في الجنة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سألتُ رسولَ اللهِ ﷺ أن يشفعَ لي يومَ القيامةِ، فقال: أنا فاعلٌ إن شاء اللهُ تعالَى. قلتُ: فأين أطلُبُك قال: أوَّلَ ما تطلُبُني على الصِّراطِ. قلتُ: فإن لم ألْقَك على الصِّراطِ. قال: فاطلُبْني عند الميزانِ. قلتُ: فإن لم ألْقَك عند الميزانِ قال: فاطلُبْني عند الحوْضِ، فإنِّي لا أُخطِئُ هذه الثَّلاثَ مواطنَ) الترمذي وصححه الألباني.

– *ورؤية الآخرة*: قال رسول الله ﷺ: من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي العين فليقرأ: إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وصححه الألباني في السلسلة وصحيح الجامع. وأما في الآخرة، فقال تعالى: ﴿فَبَصَرُكَ اليَومَ حَديدٌ﴾.

– *ورؤية المصير*: فهناك المبشّرون بالجنة، وهناك من صفاتهم كصفات أهل الجنّة، وجعل الله المحبة بريدَ المصير فعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: “أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: (وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا)؟

قَالَ: لاَ شَيْءَ، إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﷺ.

فَقَالَ: (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) .

قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ، فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) متفق عليه.

وقال ﷺ: (ألا أُخْبِرُكُمْ بِرِجَالِكُمْ مِن أهلِ الجنةِ؟ النبيُّ في الجنةِ، والصدّيقُ في الجنةِ، والشهيَدُ في الجنةِ، والمولَوْدُ في الجنةِ، والرجلُ يزورُ أخاهُ في ناحيةِ المِصْرِ لا يزورُهُ إلَّا للهِ عزَّ وجلَّ، ونِساؤُكُمْ من أهلِ الجنةِ الوَدُودُ الوَلودُ العؤودُ على زوجِها، التي إذا غَضِبَ جاءتْ حتى تَضَعَ يَدَها في يَدِ زَوْجِها، وتقولُ: لا أَذُوقُ غَمْضًا حتى تَرْضَى).

وقال ﷺ: (أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْ مَلَأَ أُذُنَيْهِ مِنْ ثَنَاءِ النَّاسِ خَيْرًا، وَهُوَ يَسْمَعُ، وَأَهْلُ النَّارِ مَنْ مَلَأَ أُذُنَيْهِ مِنْ ثَنَاءِ النَّاسِ شَرًّا، وَهُوَ يَسْمَعُ). رواه ابن ماجه.

بل بعض الأرواح تدخل الجنة قبل يوم القيامة فيصيبها بعض نعيمها، كرامة منه سبحانه وتعالى.

يقول النبي ﷺ: (إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَيْرٌ يَعْلَقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ) رواه مالك في الموطأ وصححه ابن عبد البر في “الاستذكار”، ونسمة المؤمن: روحه، ويعلَقُ: أي يأكل.

يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه “حادي الأرواح”: “وهذا صريح في دخول الروح الجنة قبل يوم القيامة”.

والمؤمن تبشّره الملائكة عند الاحتضار ويرى مقعده من الجنة في قبره ويوم القيامة هو أعرف بمنزله في الجنة من منزله في الأرض.

فهذه *عِبارات ومعابر* يرجى بها نباهة العاقل وتنبيه الغافل، والكل إلى الله سائر وصائر، *والله يفتح البصائر* من علم اليقين إلى عين اليقين إلى حق اليقين، اللهم آمين.

بقلم الشيخ/ أحمد محمود عمورة

Posted on Leave a comment

حتّى يغيّروا ما بأنفسهم | من سنن الله في النّفس والحياة

ورد هذا القانون مرّتين في الكتاب العزيز. مرّة في سورة الرّعد (إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم) ومرّة في سورة الأنفال (ذلك بأنّ الله لم يك مغيّرا نعمة أنعمها على قوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم). هذا أوّل قانون في أبجديّات الإصلاح والتّغيير وهو يرسم قاعدة الانطلاق ومرتكز العمل. ورد في الموضعين ـ كعادة كلّ قانون تقريبا ـ مؤكّدا بجملة إسمية وباسم الله العلم المفرد سبحانه (الله).

ورهن تغيير الله سبحانه حال النّاس ـ أفرادا وجماعات ـ بقيامهم هم أنفسهم بتغيير أنفسهم. ويكون ذلك في كلّ الاتجاهات: سواء من الأسوأ إلى الأحسن أو من الأحسن إلى الأسوأ. لأنّ التّغيير يشمل تحويل الحال بصفة عامّة بخلاف الإصلاح الذي يعني التّحويل من السّوء إلى الحسن فحسب. مرّة أخرى نعود إلى مربط الفرس: النّفس. الإنسان في الإسلام وسيلة وغاية معا وفي الآن ذاته. هذا القانون يلقي كذلك بأضواء كاشفة تجلّي عقيدة القدر التي ضلّ فيها أناس كثيرون في الغابر والحاضر. هذا ناف لإرادة الله سبحانه وذاك ناف لإرادة الإنسان. وكلاهما في ضلال مبين. ممّا عرفت من الإسلام ودرست أنّ الإسلام نظام مركّب مزدوج. وليس هو أحاديّ البعد. ومن ذا فإنّه لا ينتفع به عدا صاحب العقل المركّب المزدوج الذي يطيل النّظر ويبحث في كل الآفاق والأبعاد. وعندما يلتقي دين مركّب مزدوج متعدّد الأبعاد مع عقل مثل ذلك فإنّ الإصلاح يكون ميسورا بإذن الله سبحانه. وذلك بسبب أنّ الواقع المراد إصلاحه هو نفسه مركّب مزدوج متنوّع الأبعاد. الإيمان بالقدر مثل ذلك. يلتقي فيه الإيمان بإرادة الله سبحانه وعدم محدودية مشيئته المتدثّرة بالحكمة كلّها مع إرادة الإنسان. مضمون هذا القانون الإصلاحيّ الأعظم في مادّة التّغيير هو أنّ الله سبحانه لا يبدّل حال الإنسان ـ فردا وجماعة وفي كلّ حقل ـ بمعجزة إلهية من عنده من دون إرادة الإنسان ذاته إلاّ في حالات محدودة ذهبت مع الأنبياء عليهم السّلام وجاءت لغرض خاصّ. إنّما يبدّل الله سبحانه الحال ـ من السّوء إلى الحسن وفي الطّريق المضادّ كذلك ـ بإرادة الإنسان ذاته. وهو ما عبّر عنه في الموضعين بقوله (بأنفسهم). النّفس هي مركز التّغيير وقيادة التّحويل وغرفة التّبديل. النّفس هي الجهاز المعنويّ الذي يقوم بمهمّة السّفن في الإنسان الذي يقاد من ذلك الجهاز ويقود هو نفسه غيره بالجهاز نفسه. عندما وعى المسلمون الأوائل هذا القانون طفقوا يجوبون الأرض شرقا وغربا فأسال الله لهم عيونها ومكّنهم من أسرارها وطوّع لهم القلوب. وعندما تسلّل الانحطاط إلينا وظننّا أنّ الله سبحانه يغيّر حالنا بغير إرادة منّا وبدون جهد منّا فقعدنا قعدت بنا الدّنيا. ربّما لا يجانب المرء صوابا إذا قال أنّ أكثر عامل ساهم في تخلّفنا من بعد سؤدد هو تحوّل عقيدتنا في القدر تحوّلا شنيعا جعلنا متواكلين بدل متوكّلين وقاعدين بدل عاملين. لا تكاد تظفر اليوم بعالم أو داعية أو خطيب يذكّر النّاس بقالات جريئة صحيحة كلّ الصحّة عن القدر من مثل ما قال الفاروق وعبد الله ابن المبارك وابن القيّم وغيرهم أنّ المرء المؤمن بحقّ يفرّ من قدر الله إلى قدر الله. أو أنّه يفرّ من قدر إلى قدر أحبّ منه. أو أنّه يحارب قدر الله بقدر الله سبحانه. كلّ هؤلاء يفقهون قوله عليه السّلام عندما سئل عن الأدوية هل تردّ من قدر الله سبحانه (هي من قدر الله).

هذا الجواب يلخّص كلّ القضية. كلّ شيء هو من قدر الله سبحانه. ولذلك ورد في حديث جبريل عليه السّلام أنّ قدر الله سبحانه خير وشر. عدا أنّه لا ينسب إليه سبحانه الشّر. مازلنا بحاجة ماسّة كبيرة إلى تفعيل هذه القيمة وهي أنّ حالنا الأسوأ اليوم لا يتغيّر إلاّ بفعل وعمل وإرادة منّا نحن. وأنّ الله سبحانه يكون عند ظنّ العبد نفسه. كما قال هو سبحانه في الحديث القدسيّ (أنا عند ظنّ عبدي بي)

. ومعنى ذلك أنّ من يظنّ أنّ الله سبحانه سيغيّر حاله بدون عمل منه فهو ظنّ سيّئ. ومن يظنّ أنّ الله سبحانه يغيّر حاله بفعل منه هو نفسه فهو يبارك له في ظنّه وعمله ويغيّر الله سبحانه حاله. أغلب المسلمين اليوم لا يفقهون ما معنى أنّ الله سبحانه يقول للشّيء كن فيكون. إذ يحملون ذلك على المعجزة فحسب. هذا صحيح في حال المعجزات النّبوية. أمّا في الحالة البشرية العادية فإنّ معنى قوله سبحانه (كن فيكون) هو أنّ الله سبحانه يبارك في عمل عبده وإرادته ويجعل منه حقيقة فوق الأرض. (كن فيكون) ليس بالضّرورة معناها الآن.

هذا القانون ليس خاصّا بالمؤمن إذ هو ينسحب على غيره كذلك وهو يلتقي مع قانون آخر في سورة الإسراء (كلاّ نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربّك). أي أنّ العامل يلقى جزاء عمله بغضّ النّظر عن دينه عدا أنّ هذا القانون الأخير (قانون الإسراء) محصور في العطاء الدنيويّ. خلاصة هذا القانون هي أنّ النّفس المريدة العاملة يستجيب لها قدر الله سبحانه. وأنّ النفس العاطلة الرّاكدة يستجيب لها قدر الله سبحانه. ولكن بمزيد من السّحت والمحق والسّحق. التّغيير في كل الاتجاهات ليس بالأمانيّ ولا برؤى المنام وليست بالمعجزات وليست حتّى بالأدعية فحسب. إنّما هو بالعمل والتّوكّل وإعادة تركيب النّفس ذاتها بما هو صالح لذلك من أغذية روحية وفكرية

كلاّ نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربّك

ورد هذا القانون في سورة الإسراء المكية وذلك في قوله سبحانه (كلاّ نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربّك وما كان عطاء ربّك محظورا). وهو تعقيب على قوله سبحانه قبل ذلك (من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثمّ جعلنا له جهنّم يصلاها مذموما مدحورا. ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا). القانون متعلّق بما سبقه فلا يفهم إلاّ في سياقه. (كلاّ) معناها: كلاهما سواء الذين يريدون العاجلة أو الذين يريدون الآخرة. هؤلاء وأولئك في عطاء الدّنيا سواء. ولكن بحسب إرادتهم التي تكرّرت مرّتين. فلا مدّ لا لهؤلاء ولا لهؤلاء إلاّ بإرادة من هؤلاء وأولئك على حدّ سواء. وأكّد ذلك بقوله (وما كان عطاء ربّك محظورا) فما كان ممنوعا لا على مريدي العاجلة ولا على مريدي الآخرة. ولكنّ العبرة كلّها هنا بالإرادة. هذا قانون الدّنيا كلّها بمؤمنيها وكافريها. إذ يغدق سبحانه فيها على كلّ من طلبها وسعى لها سعيها وهو مثابر فيها بغضّ النّظر عن هويته الدينية. جاء هذا القانون مؤكّدا بنون العظمة التي عادة ما يتحدّث بها ربّ العزّة عن نفسه لعلّ النّفوس تستعظم ذلك وتخشى فتأخذ الأمر بجدّ لا هزل معه. لمّا أراد التّسوية بينهما في العطاء الدّنيويّ لم يقل (هؤلاء وأولئك) حتّى يميّز بينهم. إنّما جمعهم في قوله (هؤلاء) فحسب. دقّة عجيبة ساحرة تخلب الأبصار وتغري الأفئدة وهي تتدبّر هذا النّظم القرآنيّ العجيب. ولكن ألا يريد المؤمن نفسه العاجلة؟ لا. الإرادة كبيرة فلا تصرف في شيء زهيد قال فيه سبحانه مرّات كثيرات (وما الحياة الدّنيا إلا متاع الغرور). وخلع عليها نعوت اللّهو واللّعب والزّينة التي سرعان ما تحرقها الشّمس بأشعّتها فتسقط سقوط أوراق الخريف البالية. كما أنّه هنا خفض قدرها إذ سمّاها العاجلة. ولكن تظلّ مشيئته سبحانه هي الحاكمة دوما. حتّى في الدّنيا فلا يظفر طالبها إلاّ بما يريد الله سبحانه (عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد). ومضات ضرورية لتصحيح الاعتقاد.

ما نشاء من إملاجات. ولمن نريد من عبيدنا. أمّا إرادة الآخرة (والله يريد الآخرة) فلا مناص من سعي مسعيّ وعمل معمول وكدّ مكدود وجدّ مجدود وكدح مكدوح وكبد مكبود. هو السّعي ذاته الذي يسعى به مريد العاجلة. ولكن تختلف الوجهات فحسب. المؤمن إذا لا يريد العاجلة. ولكن يريد الآخرة ويبتغي فيما أوتي من ربّه سبحانه في الدّنيا الدّار الآخرة. وهي النصيحة التي وجّهت إلى قارون (وابتغ فيما آتاك الله الدّار الآخرة). المؤمن يستمتع بطيّبات الدّنيا ولذّات العاجلة. ولكنّه لا يريدها إرادة. لأنّ الإرادة تتعلّق بالمعالي. حظّنا نحن من هذا القانون هو تخليص الأفئدة لله وحده سبحانه ولما أعدّ للمؤمنين في دار الحيوان. حظّنا منه هو الرّضى بما كتب لنا بشرط استفراغ الإرادة كلّها لكسب العاجلة. وخاصّة ما فيها من قوّة تحصّن بيضة الأمّة وتحرّر الأرض وتعتق العرض وتدكّ صياصي الظّلم. حظّنا هو عدم الوقوع في فتنة الكافرين. إذ نظنّ أنّ الله إنّما أمدّهم بالعاجلة لرضاه عنهم أو لأنّهم يصلحون أو يحسنون عملا. حظّنا هو تحرير الإرادة لنيل العاجلة التي بها ينداح الإسلام وتصل كلمته إلى النّاس كافّة. حظّنا هو تحصيل العلوم والمعارف التي بها يقوم القسط بين النّاس. هذا السّؤال يطرحه اليوم كثيرون من المسلمين الذين لم يفقهوا عقيدة القدر كما يجب أن تفهم : كيف يقوّي الله سبحانه الكافرين المعتدين وهم كذلك ولا يقوّي المؤمنين وهم مؤمنون؟ لك أن تقول أنّ السّؤال مشروع ولكنّ هذا القانون يجيب عنه بقوّة وجلاء. الله قوّى جانب أولئك لأنّهم أرادوا العاجلة وهم عبيده مثلنا. ولكنّه لم يكسبنا من تلك العاجلة ما كسبوا هم لأنّنا قعدنا. من ينظر في التّاريخ يرى الصّورة المضادّة لهذه.

بقلم الشيخ/ الهادي بريك

Posted on Leave a comment

ليظهره على الدّين كلّه | من سنن الله في النّفس والحياة

ليظهره على الدّين كلّه

ورد هذا القانون مرّتين في الكتاب العزيز. (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه). مرّة في سورة التّوبة وهي من آخر ما نزل ومرّة في سورة الصّف. وكلتاهما مدنية. الإظهار هو التّغليب والإعلاء والنّصر. قال تعالى (فلا تكوننّ ظهيرا للكافرين). وقال سبحانه في موضع آخر (وكان الكافر على ربّه ظهيرا). وقال عن بني قريظة في واقعة الأحزاب (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم). إذ ظاهروا قريشا وغطفان. هذا وعد إلهيّ صادق قوامه أنّ الإسلام سيظلّ ظاهرا منصورا منداحا ولو كره المشركون والكافرون. ألسنا نرى هذا اليوم بأمّ أعيننا. إذ كلّما تعرّض الإسلام إلى محاولات إبادة شرسة ـ تغدق عليها ما لو أغدق على الأرض لأضحت حديقة ذات بهجة ـ خرج منها أقوى. بعض النّاس من المسلمين يستعجبون كيف أنّ الإسلام يتعرّض إلى مثل هذا. العجب كلّه هو عدم حصول ذلك. ألم نخلق لغاية واحدة لا ثاني لها وهي الابتلاء؟ بأيّ حقّ ينعم هؤلاء بالجنّة خالدين فيها يوم القيامة وأولئك يشقون في النّار خالدين فيها إذا لم يكن ذلك مسبوقا بملاحم من الابتلاء شديدة عاتية ضارية؟ نخن غافلون عن هذا: الله يريد الآخرة. إرادة الله الآخرة معناه أنّه يريد تمحيص النّاس ليستحقّ كلّ واحد منهم مقعده في الآخرة من بعد محاكمة آلتها الموازين القسط. فلا تظلم نفس شيئا. ألم يقتل أنبياء كثيرون؟ كيف يدع الله سبحانه نبيّا هو من أرسله يقتل؟ معنى ذلك أنّ الدّنيا لا عبرة بها إلاّ بما فيها من تدافعات لا يهدأ لها أوار بين المؤمنين والكافرين.

تشغب علينا الشّاغبات كثيرا وتغشانا أهواء وغفلات حتّى نظنّ أنّ الله سبحانه يريد منّا تحقيق النّصر والغلبة في هذه الدّنيا. لو كان يريد ذلك لم لم يتحقّق ذلك على أيدي الأنبياء. كم عدد الأنبياء الذين انتصروا حتّى شيّدوا للنّاس دولة؟ قليل من قليل. ذلك هو معنى أنّه سبحانه يريد الآخرة. ولكن قضى سبحانه في شأن الدّين الأخير الخاتم أنّه يظلّ ظاهرا نافذا لا يمحى له أثر مهما تداعت عليه كآبات المجرمين. علينا أن نميّز هنا بين الدّين والإسلام. الله سبحانه تعهّد بحفظ الدّين بما هو عقائد وعبادات وقيم وغير ذلك ممّا هو إلى الدّائرة التّوقيفية أدنى. ومن ذلك حفظه كتابه العزيز أن يزيّف أو يزوّر. ولكنّه سبحانه عهد إلينا نحن بحفظ الإسلام بما هو آثار عملية في شتّى الحقول لذلك الدّين. الإسلام ـ من حيث أنّه دين موقوف لا مناص منه للزوم الصّراط المستقيم عقيدة وعبادة وما هو إليهما أدنى ـ محفوظ ظاهر. ولكنّه من حيث أنّه سلطان وحضارة وتقدّم وغلبة وقوّة وصفّ واحد وغير ذلك من الأبعاد التي يغلب عليها الطّابع التّكافليّ موكول لنا نحن. فإن حفظنا تلك الأبعاد بذلك القلب الدّينيّ النّابض الحيّ غلبنا وعصمنا أنفسنا من قهر الرّجال.

وإن لم نفعل بسبب وعي منخول أو ركون إلى الدّعة افترستنا ذئاب الأرض دون رحمة. هذا القانون كفيل بزرع الأمل وبثّ اليقين وشحذ الهمم. فلا يلقي أحد فسيلته مهما تجاسرت الكلاب وعوت الذئاب. ألسنا نرى بأمّ أعيننا أنّ الرّدة عن الإسلام لا وجود لها إلاّ في أذهان المفلسين. وأنّ الإسلام ظلّ يشهد مذ ولد وحتّى اليوم ردّات إليه زرافات ووحدانا عدا أنّنا لا نراها بالعين حتّى نقرأ عنها؟ كثيرون لا يحصون يدخلون في دين الله سبحانه وحدانا في صمت وهدوء خوفا من بعضهم على نفسه أو على ما تحت يديه وإهمالا من وسائل الإعلام أن تتحدّث عنهم. لو لم يكن الأمر كذلك ما كان لهذا الدّين أن يصمد في وجه حملات قاسية لو سلّطت على الجبال الشّامخات الرّاسيات لأضحت أثرا من بعد عين. كيف لا يغري هذا الدّين النّاس وهو يلبّي داعيات الفطرة؟ بل كيف وهو يتحدّى النّاس في كلّ زمان ومكان بما يفتخرون به أنّه من كسبهم إذ استغنوا عن الدّين والغيب؟ أليس النّاس اليوم يغترّون بعلومهم ومعارفهم واكتشافاتهم واختراعاتهم؟ أليس قد ظنّوا أنّهم أفلحوا في طرد فكرة الغيب والدّين في القرن الميلاديّ المنصرم حتى أينع الإلحاد وأضحى محلّ افتخار؟ لم يعمّر الأمر عدا قرنا واحدا حتّى جاء كتاب القرن ـ كما أسمّيه ـ ليعلن فيه أساطين الفيزياء في أروبا أنّ الإلحاد خرافة وأنّ الله هو خالق هذا الكون. كان ذلك منذ أسابيع خلت في مهرجان علميّ بباريس قدّم فيها مؤلّفو الكتاب ما توصّلوا إليه في سفرهم العظيم باللّغة الفرنسية: الله ـ العلم ـ البراهين. هذا غيث منهمر لن يتوقّف عند نظرية أنّ الله هو الخالق لهذا الكون. السّؤال الآخر الذي سيطرح عمّا قريب هو : ما هو حقّ الله علينا وما هي العلاقة معه؟

ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون

ورد هذا القانون في سورة القصص المكية. ورد في سياق إرادة الله سبحانه أنّه يمكّن للمستضعفين ويقوّض سلطان العتاة المجرمين. ورد في سياق أطول قصّة حفي بها القرآن الكريم. وهي قصة موسى عليه السّلام مع قومه بني إسرائيل ومختلف فقرات القصّة. قال سبحانه (ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّة ونجعلهم الوارثين ونمكّن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون). عندما يقول الله سبحانه أنّه يريد شيئا أو أنّه أراده فما على أهل التدبّر إلاّ التمهّل طويلا ليقرؤوا على مكث. الله عندما يريد شيئا فلا معقّب لإرادته. كلّ شيء طوعه.

وعندما يأتي فعل الإرادة منه سبحانه بصيغة المضارع فإنّ ذلك يعني أنّ تلك الإرادة ماضية لا تتخلّف. تصيب المتأخّرين كما أصابت المتقدّمين. الحديث في سياقه الأوّليّ عن بني إسرائيل. ولكنّ العبرة دوما بعموم اللّفظ. سنّة مسنونة وقولا واحدا فصلا. معقل هذا القانون هنا هو قوله (منهم). ومعنى ذلك أنّ الله سبحانه ينفّذ إرادته بالمستضعفين أنفسهم. وليس بمعجزة خارقة تظلّ أعناقهم لها خاضعة مشرئبّة. كلمة (منهم) هذه يعدّها العبد الفقير مفتاحا من مفاتح فقه الكتاب العزيز وسننه في الحياة. معنى ذلك أنّ الله سبحانه ينتصر للمستضعفين المقهورين المظلومين. ولكن بهم هم أنفسهم. إذ ينطلقون مقاومين مجاهدين مناضلين دون حرّيتهم وكرامتهم وحرماتهم وأوطانهم وعقائدهم. أمّا من رضي بالخنوع فلن ينصره الله سبحانه ولن يمكّن له في الأرض ولن يمنّ عليه لا بإمامة ولا بوراثة. قدرا فإنّ الله سبحانه هو من يفعل كلّ ذلك فهو (بنون العظمة) من يمنّ على المقهورين ويمكّن لهم ويجعلهم أئمّة وهو من يري الجبّارين المجرمين زوال ملكهم. وهو الذي يحذرونه كلّ الحذر. ولكن عملا فوق الأرض ـ أو قدرا شرعيا ـ فإنّ الله سبحانه ينفّذ إرادته تلك بالإنسان نفسه. يمكن لك أن تقول أنّ كلمة (منهم) هنا تعني (بهم). وهي صنو قوله سبحانه لنبيّه محمّد عليه السّلام (هو الذي أيّدك بنصره وبالمؤمنين). فإذا قاوم المستضعفون جاءهم نصر الله سبحانه وإذا قعدوا حاق بهم قدره. وهو قدر الهزيمة النّكراء. ليس فرعون وهامان وجنودهما عدا رموز للكبر والقهر والظّلم والطّغيان. فرعون نفسه ليس اسما لإنسان. إنّما هو اسم لمؤسّسة.
معنى ذلك أنّ القرآن الكريم لا يفقه إلاّ موضوعيا مقاصديا جامعا. إذ هو يعبر الزّمان والمكان ويقدّم للنّاس خلاصات التّاريخ الغابر. وما يحذر سلالة فرعون وهامان وجنودهما شيئا عدا زوال عروشهم المتهافتة المتهالكة. ومن ذا يأخذهم سبحانه بأيدي الذين كانوا يعذّبونهم ويسترقّونهم على حين غرّة لتتهاوى مملكاتهم في طرفة عين. عزو الفعل كلّه إلى الله سبحانه لا يعدم إرادة الإنسان. وإرادة الإنسان لا طول لها ولا حول إلاّ إذا زكّاتها إرادة الله سبحانه. ولكنّ الله سبحانه كتب على نفسه أنّه ينتصر للمظلوم ولو بعد حين ما تجشّم أمواج الجهاد وركب أفلاك الخطر. هذا قانون جرى على الأنبياء أنفسهم فقتل كثير منهم وعلى الأصحاب الكرام فلقوا المصرع ذاته. هل ترانا نعفى منه؟ ألم يقل سبحانه في قانون صنو له (أكفّاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزّبر)؟ فلا كفّارنا اليوم ـ سيما بمعنى الظّلم والقهر والعدوان ـ خير من كفّار قريش مثلا فيحابون. ولا نحن خير من الأنبياء والأصحاب فنعفى من هذا القانون. ألم يقل سبحانه: فلن تجد لسنّة الله تبديلا ولن تجد لسنّة لله تحويلا؟ معالم الطّريق أجلى من الجلاء وأبهر من البهار لمن يريد علما ومعرفة

بقلم الشيخ: الهادي بريك

Posted on Leave a comment

إنّه لا ييأس من روح الله إلاّ القوم الكافرون | من سنن الله في النّفس والحياة

إنّه لا ييأس من روح الله إلاّ القوم الكافرون

ورد هذا القانون في سورة يوسف عليه السّلام وهو على لسان نبيّ الله يعقوب عليه السّلام. إذ حرّض بنيه على التحسّس من يوسف وأخيه. وعبّأهم رجاء في الله وأملا فيه فقال لهم (إنّه لا ييأس من روح الله إلاّ القوم الكافرون). كالعادة سنّة ماضية حاكمة لا تتخلّف في ثوب جملة إسمية مؤكّدة. صحيح أنّ الأيّام التي تفصله عن فلذة كبده يوسف عليه السّلام طويلة وهي عاتية أليمة. وصحيح أنّه فقد ابنه الآخر من بعد يوسف. هكذا تتتابع الآلام في الحياة الدّنيا وتتعاقب وتترى مدلهمّة حالكة.

وما ذلك سوى ليمحّص الله سبحانه الصّابرين من المرجفين والمؤمنين من المنافقين. إذ لولا الابتلاء لتدثّر كلّ واحد منّا بدثار أبي بكر أو الفاروق أو غيرهما من الذين صبروا حتّى أصبح الصّبر لهم سليقة. الرّوح: مصدر من فعل راح يروح روحا وروحانا. الرّوح أصله العود والثّوب والأوب. روح الله يعني عود فضله وثوب رحمته وأوب كرمه ومجيء حلمه. ذلك أنّ الله سبحانه هو من يروح على عبده فيأذن بروحان عبده إليه. كما أنّه هو من يتوب على عبده فيتوب عبده إليه. وليس يفهم ذلك فهما جبريا يعدم إرادة الإنسان في التّوب أو الثّوب. ولكن لا يتوب تائب ولا يثوب ثائب ولا يؤوب آئب إلاّ بإذن التّواب سبحانه. الرّوح هنا أعمق من الرّحمة. فإذا راح الله إلى عبده رحمه. قال في أهل الجنّة من المقرّبين (فروح وريحان). روح عليهم بكلّ شيء ماتع لذيذ سارّ. ورضوان الله سبحانه عليهم هو أروح الرّوح. صيغ هذا القانون بصيغ أخرى في الكتاب العزيز منه قوله سبحانه على لسان إبراهيم الخليل عليه السّلام (ومن يقنط من رحمة ربّه إلاّ الضّالون). اليأس هو القنوط. والرّوح هو الرّحمة. والكافرون هم الضّالون.

قال العلماء بحقّ: أعظم الذّنب هو اليأس من رحمة الله سبحانه. وهذا متوافق كلّ التّوافق مع أنّ الشّرك هو أكبر الذنب. ذلك أنّه لا يشرك بربّه امرئ حتّى يمتلئ صدره يأسا منه وقنوطا من رحمته. مهما احلولكت اللّيالي حول إسرائيل عليه السّلام وادلهمّت حتّى كانت كقطع اللّيل المظلم فإنّها لم تغتصب منه شعاع الأمل في ربّه أنّه يجمعه بفلذة كبده. وبمثل ذلك امتلأ فؤاد الخليل إيمانا وثقة ويقينا أنّه يرزق الولد على الكبر والعقم. لو طلب من العبد الفقير اجتراح عنوان لهذا الدّين ما تردّدت طرفة عين لأقول أنّه دين الأمل والرّجاء واليقين والثّقة والعزم الذي لا يعرف تردّدا ولا تلعثما. لو لم تكن في هذا الدّين عدا هذه الفضيلة لكفته وزيادة. فكيف وكلّه فضائل ومحامد؟ من ملأ صدره بالأمل في ربّه سبحانه عند ادلهمام الظّلمات من حوله تغشاه غشيانا فهو المؤمن الحقّ. الحديث عن الأمل في الله والرّجاء فيه أيسر من شرب الماء الزّلال. ولكنّ كسبه أشقّ من تحويل الرّاسيات الشّامخات من الشّرق إلى الغرب. إلاّ من يسّر الله له ذلك. بين المرء والكفر شعرة رقيقة دقيقة باطنها الأمل فيه وظاهرها اليأس منه. وما عدا ذلك صور ومظاهر وأشياء نتقلّدها في الأذقان وعلى الرّؤوس. سرعان ما نبرح الإملاجات المعتّقة التي تجعل منّا مؤمنين حقّا ثمّ نهرع إلى تلك الصّور والمظاهر. وسرعان ما ننخدع بها.

ولذلك جاءت مشاريع المصلحين في كلّ زمان تردّنا إلى العبادات القلبية التي بها هي نكون مؤمنين موقنين من مثل الرّجاء والأمل والخوف والحبّ والضّراعة وما يختلج في الأفئدة ويعمّر القلوب. كلّ إصلاح دينيّ لا يضع هذا في خطّته محكوم عليه بالفشل. الأمل في الله سبحانه له أسبابه هو كذلك. من تلك الأسباب تذكية الأمل في النّفس التي بها يمخر المرء عباب الدّنيا بمشاقّها مخرا صابرا دائبا. فمن فقد الأمل في نفسه لن يكون آملا في ربّه. ومن تلك الأسباب كذلك الأمل في الإنسان الذي يقيّضه الله سبحانه للسّعي في حاجة أخيه الإنسان. أمّا القائلون أنّا في الله آملون وفي النّاس قانطون فهم أكذب النّاس. بعضهم يقول ذلك تواضعا. ولكنّه تواضع مزيّف. لذلك علّمنا سبحانه أنّه ينصر نبيّه محمّدا عليه السّلام بنصره وبالمؤمنين أنفسهم كذلك. وعلّمنا أنّ الاستعانة به سبحانه قيمة تتحقّق بالاستعانة بالصّبر وبالصّلاة. وهذا يعني أنّه على النّافر لأجل طلب الأمل في الله سبحانه أن يتسلّح بأمل في نفسه ليصبر ويصلّي وبأمل في النّاس. عدا أنّ هذا القانون العظيم منضبط بقانون آخر يحدّ من غلوائه إذا غالى صاحبه. تلك هي القيم: لا مناص لها من نسبيّة حتّى تتكافل فلا تتصادم. القانون الآخر عنونه (فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون). وبذلك تكون النّفس دوما تحت سقف الأمل في روح الله سبحانه سيما إذا أسرفت إسرافا ومنضبطة بسقف عدم الأمن من مكر الله سبحانه. النّفس مثل المفاعل الكيميائيّ الذي يتركّب منه الماء. فإن فقد عنصرا من عناصره الكيميائية لم يعد ماء ينفع النّاس. التّطواح بالأمل دون حدود لا يجعل المرء آمنا من مكر الله سبحانه. والخوف منه سبحانه دون حدود لا يجعله آملا في روحه. هي معادلة على المؤمن حسن معالجتها في نفسه بنفسه

إنّ الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها

ورد هذا القانون في سورة النّمل المكية وعلى لسان امرأة هي بلقيس ملكة سبإ. كالعادة بجملة إسمية مؤكّدة. جاء في سياق حوارها مع جندها في المجلس القوميّ للأمن. هذه امرأة احتفى بها القرآن الكريم كثيرا. أخبرنا أنّها كانت على خلق عظيم. هو خلق الشّورى ونبذ الاستبداد بالرّأي. كما أخبرنا عن حكمتها. إذ هي صاحبة هذا القانون   وهي التي اختبرت سليمان عليه السّلام بهدية لتنظر هل هو ملك يريد الدّنيا فيستزيد أم هو نبيّ يريد الله فيركل هدايا الأرض. ثمّ أخبرنا سبحانه أنّها أسلمت مع سليمان. تدرّج جميل في حياتها: كأنّ الله يريد أن يعلّمنا أنّ الإسلام ليس صدفة عمياء أو لحظة صمّاء لا مقدّمات لها. كأنّ الإسلام رحلة رشد بدأت بكرامة الإنسان الذي لا مناص من استشارته في شأن البلاد ومرّت بإعمال الحكمة. قالت ذلك لجندها كأنّها تحذّرهم عاقبة معالجة سيئة لكتاب سليمان الذي خلعت عليه صفة الكرامة. كلّ ذلك كان منها وهي مشركة تسجد مع قومها للشّمس. كأنّ الله سبحانه إذا أراد بعبد خيرا وهبه عقلا حصيفا. قالت لهم (إنّ الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزّة أهلها أذلّة وكذلك يفعلون). إذا كان سليمان صاحب هذا الكتاب الكريم ملكا وليس نبيّا كما يزعم فهو داخل علينا قريتنا (سبأ) ومفسدها.

ومن أكبر علامات الإفساد جعل الأعزّة أذلّة. لؤلؤة أخرى: أفسد الإفساد إذلال النّاس بعد أن كانوا أعزّة. كذلك كان تاريخ كلّ الملوك الذين لم يؤمنوا بالله واليوم الآخر. ليس هناك من شيء يضمن عدم الإفساد ويؤمّن كرامات النّاس وحرماتهم عدا الإيمان بالمحكمة التّعقيبية العليا الأخيرة ليوم القيامة. من خشيها أصلح. ومن كفر بها أفسد. حظّنا من هذا القانون هو تأمين البلاد بقيمة العدل ومنه مشاورة النّاس بصفة عامّة وأهل الحلّ والعقد كما سمّوا في القديم بصفة خاصّة إذ هم من يخوض الحرب أو السّلم. والنّاس لهم تبع. ومن حظّنا منه كذلك توقّي الفساد والإفساد ما استطعنا وتوريث ذلك للنّاشئة قيما وأسبابا وقوى وحديدا. من حظّنا كذلك استئمان رجال على دولتنا أو نساء أكفاء أقوياء أمناء يرعون مصلحة البلاد ومصلحة العباد وفي الآن ذاته أذكياء كمثل ذكاء بلقيس التي اختبرت سليمان عليه السّلام بهدية ظلّت ناظرة صداها. من حظّنا كذلك أنّ أمّ الإفساد هو العدوان على الأحرار والحرائر لتحويلهم من بعد عزّتهم أذلّة. الإذلال هو الإفساد. والحرية هي العزّة. من حظّنا كذلك أنّ الإسلام الذي ندعو إليه ليس صدفة عمياء. إنّما هو مراكمة لوجبات عقلية. كما وقع مع هذه المرأة العظيمة بلقيس: حكمة مع جندها وحكمة مع سليمان ثمّ آل المآل إلى إسلامها مع سليمان. أسلمت إسلام العقلاء الحصفاء الرّشداء. وليس إسلام التّبع الإمّعات. قالت : مع سليمان. وليس خلفه ولا وراءه ولا بسببه ولا في إثره ولا بفضله. كأنّما أسلما في طرفة عين واحدة.

الإسلام لله سبحانه يستوي فيه كلّ النّاس مع كلّ النّاس. يختلفون في التّقوى والإحسان والمثابرة ولكنّهم في الإسلام يستوون. كلّهم مسلم. والمسلم له واحد أحد سبحانه. لم يجل بخاطرها ما يجول بخاطرنا نحن أنّها امرأة. آنّى لها أن تسوّي نفسها مع سليمان عليه السّلام وهو نبيّ رسول ملك كريم مسخّر له كلّ شيء.

بقلم الشيخ: الهادي بريك