Posted on

العشر الأواخر : موسم العفو الرحماني الجامع

التدبر المتأني المليّ المتريث في عبادة الصوم في رمضان تمنحك أن رمضان مدرسة تربوية إصلاحية جامعة، وأن عشره الأواخر هي موسم العفو الرحماني الجامع. مما تبين لي تدبرا أن الله سبحانه منّ علينا بربيعين: أوّلهما ربيع العشر الأواخر من رمضان إذ فيها أغلى ليلة في الحياة وهي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وذلك إذ تقالّ عليه السلام أعمار أمته قياسا مع أمم سالفة فوهبه الله سبحانه لأمته هبة نوعية أي أن الأعمار قصيرة ولكن بركتها بليلة القدر خصبة وسخية، ألا تستحق أمة محمد عليه السلام ذلك وأكثر؟ بلى.

وثاني الربيعين هو ربيع العشر الأوّل من ذي الحجة الحرام وذلك بسبب أنها تحتضن أغلى يوم في الحياة وهو يوم عرفة، علمنا الله سبحانه سنة التفاضل بين الأزمنة والأمكنة والأعمال، وذلك حتى لا ييأس من روح ربه من فاته هذا الربيع أو تلك الليلة، أو ذلك الزمن المحرم فهو متشوف مشرئب العنق إلى ربيع آخر وزمن آخر.

فقد يكون المرء ضعيفا أو مريضا أو على سفر، أو حتى عاصيا، فإذا عادت مياهه إلى مجاريها أو تاب الله عليه فتاب فإنه يلفى ما فاته وزيادة، ألم يبشر عليه السلام الأمة قاطبة جمعاء بهذه البشرى العظمى أنه من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا فقد غفر له ما تقدم من ذنبه؟

ألم يقل عليه السلام أن الأعمال بخواتيمها ومعنى ذلك هو أن خواتيم رمضان وهي العشر الأواخر وفيها ليلة القدر لمن استثمر ذلك ملؤها مغفرة ورحمة ولطف إذ لا يريد الله بنا سبحانه عدا اللطف والعفو، أخبر الصحابة الكرام عنه أنه يجتهد عليه السلام في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرهن كما أخبروا أنه كان إنفاقا كالريح المرسلة، وكان أجود ما يكون في رمضان عندما يأتيه جبريل عليه السلام فيدارسه القرآن بل إنه اعتكف في رمضان، الذي سيموت بعده عليه السلام عشرين يوما كاملة.

وكل ذلك يخبرنا أن فضل رمضان بصفة عامة وفضل آخره بصفة خاصة هو فضل عظيم فما علينا سوى أن نفعل كما يفعل إذ أخبر عنه أصحابه أنه إذا دخل العشر الأواخر، شمّر على ساعديه وأيقظ أهله وأحيا ليله، كل ذلك يخبرنا أن العشر الأواخر هي موسم العفو الرحماني الجامع التي لا يحرم فضلها إلا شقي والعياذ بالله.

Posted on

رمضان مناسبة للفحص الفني الجامع

الإسلام كما هو معلوم حِكَم وأحكام وكذا تشريعاته وتعليماته، مما لا مناص اليوم من إبرازه من لدن الخطباء والأئمة، فيما أظن، هو استخلاص الحِكم والعبر من تلك التشريعات في مختلف الحقول والمجالات ذلك أن من أسباب تأخرنا، وهي كثيرة مُعقدة، أن أكثرنا عكف على الأحكام مباني وصورا وأشكالا ومقولات غافلا عن الحكم والمعاني والأسرار والمقاصد والمرادات.

ألم يؤسس حجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة مشروعه في آخر حياته «إحياء علوم الدين» بسبب ما رآه من غفلة من الناس عن تلك الحكم الكفيلة بتدين متجدد لذيذ؟ لذلك ألّف كتابه الذي كان سيكون مقدمة مثل مقدمة ابن خلدون في علم الاجتماع لذلك المشروع الإحيائي الكبير.

مما ورد في الاعتكاف في الصحيحين وغيرهما أنه كان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، إلاّ في رمضان الذي مات بعده صلى الله عليه وسلم فإنه اعتكف العشرين يوما الأخيرة منه، كما اعتكف نساؤه من بعده عليهن الرضوان، وبذا كان الاعتكاف سنة نبوية معلومة ولئن اختلف العلماء كثيرا في كثير من أحكامه العملية فإن المؤكد أن حكمها أعظم وأكبر لمن يريد اجتناء العسل المصفى واجتباء الرحيق من أمه.

 تدبرت في هذه العبادة فتراءى لي أنها فرصة مناسبة في كل رمضان لإجراء فحص فني شامل جامع من الإنسان على نفسه وجهازه المعنوي وذلك كما يفعل بسيارته أن تكون مؤهلة للعطب فلا تحمله فيما بقي من الأيام أو تجرّ على مستعملي الطريق متاعب.

أظن أن الحكمة العظمى من عبادة الاعتكاف هي الاختلاء بالنفس في زمن معين محدد لمحاسبتها عن عام مضى وتأهيلها لعام أتى، أو ليست الركعات والسجدات وما فيهن وما بينهن من تلاوات متدبرة متأنية خاشعة كفيلة بزاد خصيب من التقوى، أليست هي مناسبة لشحن النفس كما يشحن الواحد منا هاتفه أو أي آلة كهربائية أن تقعد به فلا يستطيع استخدامها؟

أظن أن الحكمة الكبرى من عبادة الاعتكاف هي أن يفعل المرء بنفسه ما يفعل التاجر الحاذق الأريب مع حساباته في آخر كل عام، يكون شحيحا مع نفسه فيضبط بضاعته وأمواله ويحسب ما له عند الناس ومن نجاحات في صفقات سالفة وما عليه لهم وهي عملية يحتاج إليها التاجر ليستأنف رحلة تجارية جديدة، أظن أن المؤمن الذي دعي لأن يكون تاجرا مع ربه سبحانه لهو أحوج إلى ذلك من التاجر نفسه.

أظن أنها مناسبة بل هدية من الرحمان سبحانه إذ يحتاج المرء حتى في اليوم الواحد لخلوة مع نفسه بعيدا عن الضوضاء والضجيج والجلبة، تلك مناسبة لا تفوتنك فاهتبلها وحاسب نفسك بشحّ وأقبل على الله سبحانه لعلك تشحن تلك النفس الأمارة بالسوء بما يحجزها عن ذلك.

كل ما في هذا الدين هدايا ونعم وعطايا لو أحسن المرء استثمارها ولا يحسن ذلك، إلاّ عندما يعي أن الإسلام حِكم وأحكام من أعلى هامته إلى إخمص قدميه.

أظن أننا مقصرون كثيرا في طرح هذا السؤال الكبير الذي به هو وحده نجني رحيق تلك الحكم: لماذا؟ فلا تفوتنك «لماذا» هذه قبل البدء في كل عبادة، سؤال «كيف» مطلوب ولكن تعلم الكيفيات يسير سهل لا يتطلب جهدا كبيرا، ولكن يظل سؤال بمناسبة هذا الوباء جديرا: هل نقيس أنفسنا على المحصر فنعتكف في البيوت إذ حيل بيننا وبين المساجد أم لا؟ لعل العلماء يجيبون أو لعلهم أجابوا.

Posted on

رمضان مدرسة نتعلم فيها حقوق الطفل

ربّما نظل في رمضان لهذا العام 1442 ـ2021 في منازلنا بسبب وباء الكورونا عافاكم الله جميعا، وعندها نصلي ما كتب الله لنا من قيام أو تهجد عدا الصلوات المكتوبات فيها، وهو مناخ جديد لم نتعود عليه وسنتعرض إلى لَعب الأطفال وصياحهم ولهوهم وربما بكائهم وغير ذلك مما يحدث في كل بيت فيه أطفال.

ربما يكون لنا ذلك داعيا لأن نتدبر فقه محمد صلى الله عليه وسلم مع الأطفال، كان عليه السلام كما هو معلوم من سيرته الصحيحة ينزل من منبره وهو يخطب عندما يرى أن أحد ابنيه -سبطيه- يتعثر في قميصه فيحمله ويحضنه ويعود إلى منبره، ويواصل خطبته وكأن شيئا لم يكن والناس يرون.

وكان عليه السلام يصلي بالناس إماما فيصعد فوق ظهره أحدهما أو غيرهما من الأطفال، وهو في حالة ركوع أو سجود فيظل هكذا راكعا أو ساجدا حتى يقضي ذلك الطفل وَطَرَه والناس من خلفه رُكَّعا أو سُجَّدا، لا يدرون ما الذي حدث وبعد الصلاة يقول لهم: أن إبني فلان صعد ظهري فلم أرد إزعاجه ويمرّ كل شيء وكأن شيئا لم يكن، بل كان يريد أن يقرأ بالناس في الصلاة الجهرية أو غيرها سورة من المفصل كعادته دوما «صاد مثلا أو قاف أو غيرهما» فإذا سمع صوت صبي يبكي فإنه يتجوز في صلاته ويشرح للناس الموقف بعد ذلك، ذلك هو الفقه النبوي الكريم مع الأطفال في المساجد وهو فقه نحتاج إليه نحن اليوم في بيوتنا لأجل مقاومة العدوى عافاكم الله جميعا.

فهل نؤتى قبسا من ذلك الفقه النبوي العظيم أم نعود إلى أعرافنا وتقاليدنا فنحَول البيوت لعنات وتبرمات وغضبات أن الأطفال لم يتركوا لنا مساحات للصلاة والتهجد والقيام؟ أنحن أتْقى وأعلم أم هو عليه الصلاة والسلام؟ هل كان يتبرم من تلك المرأة التي تحمل صبيها الرضيع إلى المسجد؟ أم كان لأجلها ولأجل خشوعها ورحمة بحق ذلك الطفل الباكي يتجوز في صلاته؟

كان يحضن الأطفال من أهلهم وأمهاتهم ولم يسأل يوما واحدة منهن عن طهارة ابنها ولا تحسس بيده الكريمة ذلك الطفل لعله يكون به بلل، هو فقه، حتى نكون مع أنفسنا صرحاء، بعيد عنا بعدا كبيرا، هو فقه عظيم كريم نحن مبتعدون عنه كثيرا، هو فقه لا تهواه أنفسنا ولكنه هو الذي فعل ذلك عليه السلام وقال لنا: لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به، ألا نحتاج إلى إعادة تصميم للدين في عقولنا؟ أجل.