يقول الحق تبارك وتعالى {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:160]
يقول العلامة ابن عاشور ليس المراد من هذا ظاهر الإخبار “فإن مثل هذا المعنى محقّق في جانب الله لا يجهله معترف بإلوهيته، مؤمن بوحدانيته، وهل بعد اعتقاد نفي الشريك عن الله في ملكه مجال لاعتقاد وجود ممانع له في إرادته؟”.
ويذهب ابن عاشور إلى أن في هذه الآية تسلية المؤمنين، و”تنبيه إلى أن نصر الله قوما في بعض الأيام، وخذله إياهم في بعضها، لا يكون إلا لحِكم وأسباب، فعليهم السعي في أسباب الرضا الموجب للنصر، وتجنّب أسباب السخط الموجب للخَذل”.
فالمؤمن مطالب بقراءة الدروس من تجارب النصر والهزائم “وفي التفكير في ذلك مجال واسع لمكاشفات الحقائق والعلل والأسباب والحكم والمنافع والمضار على قدر سعة التفكير في ذلك، ففي هذا الخبر العظيم إطلاق للأفكار من عقالها، وزجّ بها في مسارح العبر، ومراكض العظات، والسابقون الجياد”.
تقرر هذه الآية حقيقية سننية، طالما نغفل عنها، رغم تشبّعنا بها، ويقيننا فيها، إلا أن النفوس تركن إلى الدنيا، وكلما زاد ركونها، أُشبعت حبّا لها، فيغفل القلب والعقل عن أقرب الحقائق التي تظلّل حياته. فإرادة الله نافذة في كل وقت وحين، ومن فضله أن كتب الله على عباده المؤمنين، أن جعل نصرهم في نصره، وخذلانهم في خذله. فكلما كان سعينا في نصر الله بالتجرّد والإخلاص والصدق والتقوى والبذل، كلما قربنا من عطاء نصرنا.
فقد كُتب على هذه الأمة أن نصرها في نصر الله تعالى، ونصر الله يتحقّق بشيوع قيم الحق والعدل والحرية فينا، وتطهير بواطننا من كل قيمة إبليسية تدفعنا إلى النكوص عن طريق الله. فلا عزّة لنا إلا في هذا الطريق. ومن عجائب التاريخ أن يذكّرنا الله من حين إلى آخر بهذه الحقيقة، فتعلو النفوس لتحاذيها، وتنهل من معينها، ولكن ما إن يجذبنا النسيان إلى ناحية بعيدة عنها حتى تحلّ بنا الهزائم وتكسونا الذلّة!.
تُذكّرنا فلسطين في هذه الأوقات بهذه الحقيقة العظيمة، فما إن مال قلبها النابض، وأزالت ما ران على قلبها من درن، واتجهت إلى نصرة الله، حتى احتضنت النصر، وبنصرهم انتصرت الأمة. ياله من درس عظيم تقدّمه لنا فلسطين!. ونحن نعلم أن أفواج حفظة كتاب الله، وتقاة الله، هم من يتصدّرون قوافل العطاء، فكانت معية الله معهم أينما كانوا، وكان الله هو الذي يرمي برميهم، فأوجعوا عدوّهم كما لم يوجع من قبل.
هذه الأمة جُعل نصرها في ما تأسست عليه، ويتقوّم وجودها به، هو الدين في معناه السامي الذي يعلو على كل الألوية، وقيمه السمحة التي تنبع من الفطرة، وروحانيته المتعالية التي ترفع النفوس لتزاحم الملائكة في نقاوتها، فتحتضنهم الذات العليّة فتزيدهم من فضله، وتعطيهم في أضيق الممرات، وأحلك الأوضاع، ما لا يخطر على بال. فيأتي النصر من أضعف ما خُيّل وتوهّمنا ضعفه، ولكن الله أودع فيه من القوّة وسدّد رميه، لا تدركها الحسابات البشرية. اللهم لك الحمد والمنّة. وهذا درس جديد تُعطاه الأمة في أصعب ظروفها، فهل نلتقطه ونبني عليه، أم نضيّعه ونضيع!.