قيمة الجمال في الإسلام | الجزء الثاني

الأستاذ إبراهيم بلكيلاني

الأستاذ إبراهيم بلكيلاني

بقلم الشيخ/ عبدالمجيد نوار التلمساني

جمال القرآن الكريم

مَن يقرأ كتاب الله تعالى يجد صور الجمال منثورةً في آياته، وهو یُمثل بحقّ ذروة الجمال، وقمّة الحسن في عالم البیان، وقد سمعه الجنّ فقالوا: (إنا سمعنا قرآنا عجبا)، وسمعه الوليد بن المغيرة فقال: ” والله، إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته” قالوا: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه! قال: (هذا سحر يؤثر) يأثره عن غيره، فنزلت: ذرني ومن خلقت وحيدًا.                                                                                                                 إنّ البيان القرآني يعرض الجمال كعنصر أساسي في بناء الكون، معبرا عنه بألفاظ جمالية متنوعة كالحُسْن والزينة والنضرة والبهجة والحلية، وغيرها.                                                                                                                   يقول الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد: “كتابُ ربِّنا جاء بالجمال، وحكَى الجمال، ودعا إلى الجمال، وامتلأ بمعاني الجمال”. ويقول عمر عبيد حسنة في مقدمة كتاب “علم الجمال رؤية في التأسيس القرآني” : “لا يـملك الباحث في القرآن الكريم إلا أن يندهش للاستعمال المكثف للألفاظ والمفاهيم الجمالية، استعمال لم يأت على نمط واحد، ولم نلحظ في ترداده رتابة أو تكلفا، بل يأتي عذبا زلالا يصف المشاهد الجمالية بلغة مبينة، تعكس المقصود وتجليه، وتبلغ المراد في لبوس يجعل القارئ والمتأمل يسبح في عوالم روحية آية في الجمال، ويتذوق السياقات اللغوية في تنوعها البديع ورصفها المحبوك، فإذا هو مأخوذ قلبا وقالبا في مناجاة يرددها لسانه باللغة القرآنية الآسرة، ويجد رجع صداها هادرا في قلبه وروحه المنتشية بتتالي لوحات الجمال والجلال”.

ومن خصوصيات الرؤية الجمالية للقرآن الكريم أنها تلحظ الجمال وتـبديه في مجالات لـم يعهد الفكر الإنساني وجودا للجمال فيها، كما هو الحال في التعبيرات القرآنية المرتبطة بـ”الصبر الجميل” و”الصفح الجميـل” و”الهجر الجميل”  و”السراح الجميل” 

فكيف يكون الصبر جميلاً؟ وكيف يكون السراح جميلاً والأمر يتعلق بالطلاق؟، وكيف يكون الهجر جميلاً وهو في حقيقته فراق؟ فالسراحُ الجميل ذكر مرَّتين في مُحكم التنزيل، وفيه إشارة إلى الطلاق وهو أبغض الحلال إلى الله، لكنَّه عندما يقترن بالجمال فعلا وقولا يجْمُل هذا السراح، حيث تفارق المرأة بيتها من غير غبن ولا عدوان أو انتقاص للحقوق. إنّ القرآن بهذا يُعطى بُعداً جديداً للسلوك الإنساني، وأنَّ الجمال مطلوب حتى في المواقف التي لا تخلو من حزن وألم. وهكذا دخل مفهوم الجمال في القرآن الكريم مجالات لم يدخلها في الثقافات الإنسانية بمختلف مشاربها، ولم يتعود الناس على أن يروا قيمة للجمال فيها.

من الواضح أنّ كتاب الله للعالمين يشكل بمجموع آياته وسوره لوحةً جماليةً متكاملةً، تعكس بدورها جلال وجمال الخالق البارئ عز وجل، الذي يُعدّ مصدر الجمال في هذا الكون الفسيح.

وردت أربعة ألفاظ متداخلة ومترادفة لمفهوم الجمال في القرآن الكريم والسُّنة النبوية:

الحسن: وهو يدل على الجمال الحقيقي في حقيقة الشيء وجوهره. وهو كل ما هو ضد القبح من أحوال الخَلق والخُلق؛ أو الفعل والصفة [الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن]. ويقول الغزالي رحمه الله: “كلّ شيءٍ فجماله وحسنه في أنْ يحضر كماله اللائق به الممكن له، فإنْ كان جميع كمالاته الممكنة حاضرة فهو في غاية الجمال، وإنْ كان الحاضر بعضها فله من الحسن والجمال بقدر ما حضر”. وفي القرآن الكريم {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7] أي حسّن خلق كل شيء [ابن منظور، لسان العرب]. وجاء في الحديث تعريف للإحسان ‏”‏أن تعبد اللَّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك” فالإحسان هنا هو المرتبة العليا لمعرفة الخالق عز وجل وحسن عبادته.

التسوية: قال تعالى: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} [السجدة: 9]. والتسوية ليست كما قال بعضهم أنها تخص الجسم والخلقة فقط، بل تشمل الجمال الروحي والعقلي، ولا يمكن الفصل بينهما. والتسوية هي ذلك التناسق الجميل والتكامل المبدع ما بين الباطن والظاهر، وهي أعلى درجات الجمال {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار: 7].

الزينة: وهي اسمٌ جامعٌ لكل شيء يُتزين به مادي أو معنوي، والزينة الحقيقة كما قال الراغب الأصفهاني: “ما لا يشين الإنسان في شيء من أحواله لا في الدنيا ولا في الآخرة”. وقيل الزينة على ثلاثة مستويات: زينة نفسية متعلقة بحسن الفهم والاعتقاد وجميل الطيع وحُسن الخلق، وزينة جسدية متعلقة بما وهب الله للإنسان من معالم الوسامة والحسن وكمال الخلق، وزينة خارجية كالمال والأولاد واللباس وغير ذلك. والزينة تكون في الصوت أيضا: عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “زيّنوا القرآن بأصواتكم”[سنن أبي داود].                                                                                                                    وتأتي الزينة مع الإشارة إلى سنة الابتلاء والتمحيص أحيانا مثل قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]، {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28].

يقول صاحب الظلال: ” ونظرة إلى السماء كافية لرؤية هذه الزينة ولإدراك أنّ الجمال عنصرٌ مقصود في بناء هذا الكون، وأنّ صنعة الصانع فيه بديعة التكوين جميلة التنسيق، وأنّ الجمال فيه فطرة عميقة لا عرض سطحي”.

الإبداع: أبدع الشيء أنشأهُ على غير مثال سابق، فهو بديع. يقول الرازي في التفسير: (الإبداع: عبارة عن تكوين الشيء من غير سبق مثال، ولذلك فإن من أتى في فن من الفنون بطريقة لم يسبقه غيره فيها، يقال: إنّه أبدع فيه” (جزء7 ص 124) .قال تعالى: {بديع ٱلسَّمَٰوَٰتِ والأرض وإذا قضي أمرا فإنّما يقول له كن فيكون}. والبديع: من أسماء الله تعالى الحسنى، خلق فأبدع فأذهل العيون بجمال خلقه فتبارك الله أحسن الخالقين.

علاقة مفهوم الجمال بالذكر والعبادة

ينسب إلى داوود الأنطاكي قوله: “الحسن هو ما استنطق اللسان بالتسبيح”، فنحن نسبح الخالق ونحمده عندما نرى الشيء الجميل. وانظر إلى مشهد تسبيح داود عليه السلام، قال تعالى: {وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير}، وجميع المخلوقات تسبح خالقها، قال تعالى: {ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض}.                                                                                             يقول محمد شاكر المودني: “وإن أقل ما يعيشه المؤمن المتفكر المتأمل لجمال خلق الله تعالى هو حرج أداء المقابل مع قصر اليد، وحرج أداء الشكر مع ضيق الصدر وعدم انطلاق اللسان والجوارح، ذلك أن ”الجمال في المخلوقات يستدعي مقابلته بجمال مثله هو جمال العبادة والشكر، وإلا كان في ذلك سوء أدب”. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حينما سألته: “لمَ تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أحب أن أكون عبداً شكورا”.                                             ومقصد التزكية هو الإرتقاء بالنفس البشرية إلى التخلق بكل جميل حسن محمود من النيات والصفات والأفعال والأقوال.

جمال المظهر وجمال المخبر

يحرص الإسلام على جمال الإنسان مظهراً ومخبراً، والمسلم الذي فهم تعاليم دينه تراه مهذب السلوك، راقي في تعامله مع الخلق، أنيقاً في مظهره. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم نظيف الثياب جميل المنظر سر من رآه لبهائه وحسن هيئته، ولكنه كان في نفس الوقت أحسن الناس خُلقا، وأزكاهم نفسا، جمع الله له صفات الكمال في جمال المظهر والمخبر.                                                 وعن الجمال الباطن يقول ابن القيم رحمه الله: “هو المحبوب لذاته وهو جمال العلم والعقل والجود والعفة والشجاعة، وهذا الجمال الباطن هو محل نظر الله من عبده وموضع محبته كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم”.                                                                   وقد ذم الله سبحانه الاكتفاء بجمال المظهر الخارجي فقط، دون الجمال الباطن فقال عن المنافقين: {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم} (المنافقون: 4). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».  ذلك لأن الإنسان إذا غاب عنه جمال المخبر لم يغني عنه جمال المظهر شيئا، ومن ذلك قول الشاعر: لو أن المرء لم يلبس ثيابا من التقى ….. تجرد عريانا ولو كان كاسيا.                                                                                                                                    يقول صاحب كتاب: (الأصول الجمالية والفلسفية للفن الإسلامي): “ولا شك أن هناك أنواع من الجمال المحبوب المحمود عند الله كجمال التقوى والأخلاق والأعمال، وجمال مكروه مذموم عند الله، هو الجمال الظاهر الذي يصحبه قبح باطن سواء في الأقوال أو الأفعال من نفاق أو كبر أو كفر”.                                                                                                                             تجدر الإشارة هنا إلى ضرورة التعامل مع الظاهرة الجمالية دون إفراط أو تفريط، والتمييز بين طائفتين من الناس كل منهما على الطرف النقيـض من الأخرى: الطائفة الأولى: يؤمنون بإطلاق الجمال ويقولون: “ما خلقه الله فلا نبغض منه شيئا، ومن رأى الكائنات منه رآها كلها جميلة” واحتجوا بقوله تعالى: (الذي أحسن كل شيء خلقه (السجدة:7)، وقوله سبحانه: (صنع الله الذي أتقن كل شيء)، وهؤلاء لا يفرقون بين ما يُحمد وما يُذم من مفاهيم الجمال، وغلوا في ذلك غلوا كبيرا.                                                           الطائفة الثانية: قالوا إن الله تعالى ذم جمال الصور وتـمام الخلقة، فقال عن المنافقين: ( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم ) (المنافقون:4)، وقال: ( وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا ) (مريم:74)، وفي صحيح مسلم عنه: ( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ). وهؤلاء لا يهتمون بجمال المظهر ولا  يرون له أي أهمية.                                                                                       ويقول الامام ابن الجوزي في الذين يهملون صلاح الظاهر وزينته: “وهذا ليس بشيء، فإن الله تعالى زيننا لما خلقنا؛ لأن للعين حظاً من النظر، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنظف الناس وأطيبهم، وكان لا يفارقه السواك، ويكره أن تشم منه ريحٌ ليست طيبة” وهو عليه الصلاة والسلام كاملٌ في العلم والعمل، فيه يكون الاقتداء، وهو الحجة على الخلق.

الداعية بين المظهر والمخبر

إن حُسن سمت الداعية وجمال مظهره ورِفعة ذوقه جزء مهم من شخصيته، وأدعى لقبول دعوته والاستجابة لها، لأن النفوس جُبلت على حب الجمال والمظهر الحسن. عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءًا من النبوة»، والمراد بالهدي هنا السيرة والهيئة والطريقة.                    إن أولى الناس بحسن السمت والذوق الرفيع هم الدعاة إلى الله، لأن أناقة المظهر ومناسبته للموقف من عوامل نجاح الداعية في دعوته. ويبقى أن نؤكد على أن جمال المظهر مكمل لكمال المخبر، ولا قيمة لمظهر حسن والقلب خرب، وإنما أردنا التنبيه على الاهتمام بالمظهر مع العناية بالمخبر..

الجزء الأول على الرابط التالي