يعلم الناظرون فيما نكتب أن التشبه بالأوروبيين في أزيائهم وعاداتهم قد جرى في الشرق جريان الدم في العروق، فأبناء الدنيا يرون في ذلك شرفًا ورفعة، والمنتصرون للدين يرونه ذنبًا وبدعة، وغلوا في ذلك حتى ذموا تقليد المخالف في كل شيء وإن كان نافعًا مفيدًا، ولكن لما كان الأمراء والكبراء يتفاخرون ويتبارون
في التشبه بالإفرنج، وهم موضع إجلال الدهماء وتعظيمهم، صار سائر الناس يقلدهم في ذلك؛ لأن ناموس التقليد مطرد باحتذاء لهازم الناس وأدنائهم مِثال عليتهم وكبرائهم، وسرت العدوى في ذلك لبيوت العلماء ورجال الدين، وقد ذكرنا في كتابنا (الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية) جملة مسهبة في التقليد والتشبه، بينا حكمه من الجهة الدينية والسياسية، وإننا نذكر هنا نبذة منها تتعلق بأصول سياستنا لمناسبة ما مر وهي:
إذا نظرنا إلى التقليد والتشبه من طرف السياسة تجلى لنا أن الصواب امتناع أمتنا عن التشبه أو التقليد لغيرها من الأمم في الأزياء والعاد، وكل ما لا فائدة فيه،
لا سميا المناصبين والمحادين لنا، والانتداب لتقليدهم في كل ما يعود علينا بالمنفعة وعلى الخصوص المنافع التي تتعلق بالقوة على (الذب) والدفاع عن الحوزة،
وبتوسيع دائرة الثروة، بأن نجتهد بمجاراتهم ومماراتهم، بل بمنافستهم ومسابقتهم إلى أصول المنافع ومقدماتها وأسبابها، لا أننا نقتصر على اجتلاب نتائج صنائعهم وأعمالهم، كالآلات الحربية والبوارج البحرية، إذ تقليدهم في النتائج باتخاذها منهم واحتذائهم فيها، لا يخرجنا عن كوننا عيالاً عليهم، ولا يُرْجَى أن ندانيهم ونقاربهم فضلاً عن أن نساهمهم ونحاذيهم، فضلاً عن أن نساميهم فنسموهم ونبذهم (نغلبهم) لا سيما ونحن الآن كما ترى هذاذيك بذاذيك، ولا كفران لله.
وأما أخذ العلوم والفنون وأصول الصنائع عنهم فلا محذور وراءه، ولا محظور أمامه، ومن هي في أيديهم الآن من أهل المغرب أخذوها منا فهذبوا ونقحوا
واستنبطوا، وكنا أخذناها من غيرنا فهذبناها ونقحنا، نعم لم نصل إلى مداهم وغايتهم التي انتهوا إليها الآن في استثمارها، واستدرار ضروع إنعامها، ولا نيأس
من روح الله في السبق عند الكرة الأخرى {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: ١٤٠) ولا التفات لسفهاء الأحلام، المستغرقين في أودية الأحلام حيث يغمزون الناظرين في تلك الفنون ويلمزونهم، ولا شبهة لهم إلا أن من تُنقل عنهم ليسوا من المسلمين. والخطب سهل، فقد روي عن النبي – صلى الله تعالى
عليه وعلى آله وسلم – أنه قال: (الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق بها) ورواه الترمذي عن أبي هريرة، ورواه العسكري عن أنس مرفوعًا بلفظ:
(العلم ضالة المؤمن حيث وجدها أخذها) وفي رواية عند القضاعي أنه قال آخر الحديث: (حيثما وجد المؤمن ضالة فليجعلها إليه) وروي عن ابن عمر (رضي الله
عنه) موقوفًا عليه أنه قال: خُذِ الحكمة ولا يضرك من أي وعاء خرجت.
وفي نهج البلاغة أن أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه قال: (خذ الحكمة أنَّى كانت، فهي الحكمة تكون في صدر المنافق، فتلجلج من صدره حتى تخرج،
فتسكن إلى صواحبها في صدر المؤمن) وقال أيضًا: (الحكمة ضالة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق) واستدل بعض أهل العلم على مشروعية طلب العلم من أي طريق كان، بحديث (اطلبوا العلم ولو بالصين) ، في زمن لم يكن يسكن الصين فيه غير أصناف المجوس، والحديث أخرجه ابن عدي في الكامل والبيهقي في شعب الإيمان والمدخل وابن عبد البر في العلم والخطيب في الرحلة والديلمي في مسند الفردوس وغيرهم، وله طرق كثيرة يقوي بعضها بعضًا. ولا غرو فإن شرعاً أساسه الحكمة، ودعامته الفضيلة، وغايته سعادة الدارين والظفر بالحسنيين، يأمر بسلوك الجادة، وعدم الاستنكاف عن الاستفادة، وهذه كتب أعلام الملة في تفسير الكتاب الكريم وشرح الحديث الشريف والتصوف والأدب والتاريخ محشوة بكلام حكماء اليونان الذين نقلت علومهم إلى الأمة، وحكماء الفرس الذين خالط أمتهم العرب، وبحكايات أحوال عباد بني إسرائيل ورهبان النصارى ما استحسن منها (بل وما لم يستحسن لكنه لا حجة في هذا).
ولقد كان الشارع – صلى الله عليه وسلم – يعجبه كلام بعض المشركين ويعجب به وكثيرًا ما كان يستنشد شعر أمية بن أبي الصلت ويستزيد حتى أنشد مرة
مائة قافية. أخرج مسلم عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: ردفت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (هل معك من شعر أمية شيء؟) قلت: نعم، قال: هيه،
فأنشدته بيتاً، فقال: هيه، حتى أنشدته مائة بيت، فقال: (إن كاد ليسلم).
ولو أردنا الإطالة لأوردنا ما لا يحصى من النصوص على لزوم الأخذ بهذه الفنون التي هي مبدأ الصنائع, ناهيك أن الركن الركين للمحافظة على الدين ونشر تعاليمه الصحيحة بين المخالفين هو الجهاد، وهو يتوقف في هذا العصر على الفنون المذكورة، وما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب. ولكن الجهل الذي عم في
هذا الزمان وطم، والإغراق في التعصب على المخالف من غير روية ولا فهم، وعدم معرفة مقاصد الشرع، وانتفاء الوقوف على طرائق الضر والنفع – يحمل كل
ذلك الغوغاء من أبناء هاته الأيام على رشق من ينسب لحكماء الفرنجة علمًا أو فهمًا بسهام الملام، وربما طعنوا في دينه وهم ليسوا في ذلك على دين، ولا تنهض لهم حجج قيمة، ولا يأتون بسلطان مبين {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: ٤٦).
وحاصل القول: إن جملة ما يتأتى به التقليد والاحتذاء ينحصر في ثلاثة أمور: (الأول) الفنون والصنائع المفيدة، وهذا ربما يصل طلب التقليد فيه إلى
الوجوب الشرعي، وذلك كالفنون التي تتعلق بالقوى الحربية والصحة الجسدية وسائر ما لا يستغني عنه العمران، ولا وصول إليها أولاً إلا بالتقليد والاقتباس.
(الثاني) ما لا نفع فيه ولا ضرر منه، والأَولى تركه وإن كان مباحاً، وإن لم يكن بد من فعله فينبغي أن لا يلاحظ التشبه بهم ولا يتوخى احتذاؤهم فيه.
(الثالث) ما فيه ضرر لنا، والحكم الشرعي في إتيان المضرات المحققة: الحرمة. والمظنونة: الكراهة. وهناك شبهات يخشى ضررها ولا يرجي نفعها،
وربما لا يظهر ضررها إلا باستعمال السواد الأعظم لها، لا الآحاد والعشرات مثلاً، أعني بهذا: التهافت على استعمال أدوات الزينة والترف الغالية الأثمان، وهم في
كل آونة يخترعون لنا زيًّا، ويبتدعون لنا طرزاً جديداً، يبطلون به ما سبقه، ونحن نتلو تلوهم ونحتذي شاكلتهم في نضد العقار [١] والدياسق [٢] والفواثير [٣]
والجفان [٤] والزلح [٥] والقعون [٦] والصحاف [٧] والسكرجات [٨] والأباريق والسعوف [٩] والورسيات [١٠] والأكواب [١١] والسوملات [١٢] والبهار [١٣] والكؤوس والمثابن [١٤] والعكوم [١٥] والعتائد [١٦] والجناجيد [١٧] والسرو المرسلة [١٨] والمنصات [١٩] والأرائك [٢٠] والنمارق [٢١] والزرابي [٢٢] والكراسي والشجاب [٢٣]
والغدن [٢٤] والمصابيح والزهريات، وسائر الآنية والماعون النفيس وفي التهاويل [٢٥] والأكاليل [٢٦] والمناجد [٢٧] والمناطق [٢٨] والكبائس [٢٩] والأسورة والخواتيم وجميع أصناف الحلي البديع، وفي القنازع [٣٠] والعمارات [٣١] والغواشي [٢٣] والكلل [٣٣] والظلل [٣٤] والسجوف [٣٥] والشفوف [٣٦] والرياط [٣٧] والخميل [٣٨] والقطائف [٣٩] والأقبية [٤٠] والحصير [٤١] والنههة [٤٢] وأبي قلمون [٤٣] والخفاف [٤٤] والتساخين [٤٥] والجوارب [٤٦] والكوث [٤٧] والقفاز [٤٨] ، وغير ذلك من أنواع اللبوس والنسيج. يتخذ ذلك أولاً المتطرسون المتطرزون في الملبس والمأكل والمشرب، من أهل النفع والثراء للزينة والتفاخر والتكاثر والخيلاء، فتتسع به دائرة السرف والترف، ويسري سمه في روح الأمة فيهب المعوزون للتقليد، وتجنحنفوسهم للإفناق (التنعم بعد البؤس) وتعدم الصبر على حالة الإملاق لا سيما أرباب المظاهر الذين منحهم صنفهم نظر الاعتبار، وحالتهم في الاشتهار لا تساعدهم عليها حالتهم في الدينار فتسقم العواطف الشريفة، وتفسد السرائر والضمائر الصادقة، وتعتل الأفكار الصحيحة، وتغلب على أفراد الأمة الأثرة ويستحوذ عليهم الضعف، ويكون مآلهم شر مآل.
من نواميس الكون وسنة الله تعالى في الخلق أن الاسترسال في الترف والتوغل في الرفه والانغماس في التنعم مبدأ لانحلال الأمم، وعلة لسقوطها في
هاوية العدم، إذا لم يقترن ذلك بعلم وتربية يكونان علاجًا لأبنائها، يقيهم أمراض تلك الصفات وأدواءها، ولقد كان سلف الأمة الذين تنجلي بهديهم كل غمة متيقظين لعلل الترف وأدوائه، محذرين من فتنته وبلائه.
هل أتاك حديث عمر بن الخطاب إذ كتب إلى عتبة بن فرقد الذي أَمَّرَهُ على جيش العجم: يا عتبة بن فرقد إنه ليس من كدك ولا من كد أبيك ولا من كد أمك،
فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك – انظر كيف أمره بمساواة الجيش وهو أميره – وإياكم والتنعم وزي أهل الشرك ولبوس الحرير؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبوس الحرير قال: إلا هكذا، ورفع لنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أصبعيه، رواه مسلم، قال الإمام النووي: وقد جاء في
هذا الحديث زيادة في مسند أبي عوانة الإسفراييني بإسناد صحيح قال: (أما بعد: فَائْتَزِرُوا وارتدوا وألقوا الخفاف والسراويلات وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل وإياكم
والتنعُّم وزي الأعاجم، وعليكم بالشمس؛ فإنها حمام العرب، وتمعددوا واخشوشنوا واقطعوا الركب وابرزوا وارموا الأغراض) ، قال النووي: ومقصود عمر رضي
الله تعالى عنه حثهم على خشونة العيش وصلابتهم في ذلك ومحافظتهم على طريقة العرب في ذلك. اهـ.
قلت: يعني أنه خشي أن يضعفوا عن الجهاد إذا هم أخلدوا إلى التنعم الذي يستدعي حب الراحة، لا أن كل واحدة من هذه الأشياء التي نهاهم عنها محرمة أو
مكروهة لكونها من زي العجم، كيف وقد كان النبي وأصحابه يلبسون الطيالسة الكسروية وغيرها من لبوس العجم، حيث كانوا في مأمن من الاستغراق في الترف
الذي خشيه عمر على جيشه بسبب مخالطة الأعاجم والاستئناس بنسائهم وأحوالهم الذي ينتجه تكرار النظر. ومما نهاهم عنه الخف والسروايل، وكانوا يلبسونهما في الحجاز بلا نكير … إلخ.
بقلم العلّامة: محمد رشيد رضا