خطبة جمعة | دروس الصبر والاحتساب من أهل غزة

.. أمّا بعد،،

فإنّ الكلمةَ اليوم.. هي لأهلِ الموقف.. الذين يُطِلُّونَ على عالَمِنا من بين الأشلاءِ والأنقاض.. ليَمْنَحُونَا دروسَ الصبرِ والاحتساب.. وعِظاتِ الثّباتِ والطمأنينة..

الكلمةُ لهؤلاءِ الذين أصابهم القرحُ وزُلزِلوا زلزالاً شديداً.. وما عهدناهم إلاّ على إيمانٍ ويقين.. واحتمالٍ مُعجِبٍ للبلاء بلا جزعٍ ولا فزع.. وتسليمٍ غامِرٍ بقضاءِ الله وقَدَرِه..

لَكُم الكلمةُ يا أهلَ غزة.. لكُم المنابرُ لترتَقوها.. وقد أنعشْتُم أرواحَ الأمَمِ وأيقَظْتُم قيَمَ الشعوب.. وحرّكتُم المياهَ الراكدةَ من أعماقِها..

لكَ الكلمةُ اليومَ يا أبا ضياء.. لكَ الكلمة يا خالدُ نبهان.. أيها الفاضلُ الوَقور.. الذي عرفناك وأنتَ تحمِلُ حفيدتَكَ الصغيرة.. التي قتَلَها جيْشُ الوحشية بلا رأفة.. أجهز على براءتها الغُزاةُ البُغاة.. عرفناك وأنتَ تخاطِبُها بحُنُوٍّ وعَطْفٍ بيْن ذراعيْك.. بعد أن ارتقَتَ روحُ الصغيرةِ.. وروحُ شقيقِها.. إلى البارئ تبارَك وتعالى..

حملتَ حفيدتكَ الصغيرةَ ريم.. خاطبْتَها بحُنُوّ بالِغ.. وعَطْفٍ سابِغ.. قائلاً لمن مَعَك: هذه روحُ الرُّوح.. روحُ الرُّوح.. وسألتَها بإشفاقٍ وحُبّ.. وقد صارت جسداً هامداً تحمِلُه برحمة.. عن شقيقِها الصغير الذي افْتَقَدْتَه.. الصغيرِ البريءِ الذي أجهز مجرمو الحربِ عليه..: أين طارق؟ وكأنّها ستجيبك في هذا الموقف الذي لا يحتملُ وطأتَهُ إلاّ من كان بمثلِ قلبِك الكبير واحتسابِكَ العظيم..

ثمّ ماذا يا أبا ضياء.. أيها الجَدُّ المكلوم.. ذو الفؤادِ المفجوع بحفيديْه.. الثابتِ على إيمانٍ بالله ويقينٍ لا يتزحزح..

ماذا تقولُ لنا أيُّها الإنسانُ النبيل.. استمعوا بِرَبِّكم إلى ما ذَكَرَهُ لنا ولعالَمِنا من بَعْدُ في مشهدٍ آخَر:

أتقدّم بالشكْرِ الجزيل.. بخالِصِ محبّتي.. لكلِّ إنسانٍ.. تأثّر بلحظةِ وَداعي لطارق وريم.. رُوح الرُّوح..

إنّ محبّتَكم هذه.. ودموعَكم التي انهَمَرَت من أجلِنا.. لامَسَت قلبي وروحي..

هذه الدموعُ الغالية علامةٌ على مدى صِدقِكُم.. ولقد بَكَيْتُ لبكائكم.. ولقد بكيتُ لبكائكم..

إنِّي أحبَبْتُكم دون أن ألتقِيَ بكم.. وأقولُ لكم جميعاً: أبشِروا بالخير.. فإنّ مع العسْر يُسرا.. إنّ مع العسْر يُسرا.. سنلتقي بإذن الله تعالى على الخيْرِ والمحبّةِ والأمَل.

يا لها من معانيَ عظيمة.. يحتاجها كلُّ إنسانٍ اليوم.. جُدْتَ بها علينا يا أبا ضياء..

ثمّ إنّك تُضيفُ قائلاً.. مُخْبِراً عالمَنَا عن سِرِّ هذه العاطفةِ الجيّاشة.. والسكينةِ التي اطمأنّ بها قلبُه في هذا الموقِف العصيب.. يضيفُ موضِّحاً:

لمن يسألُ عن هذا الثباتِ والصبر.. في لحظةِ الوداع..

أقول: إنني تعلّمتُ هذا الصبر.. وهذا الثبات.. وهذه المحبّة.. من إسلامِنا العظيم.. ومن أخلاقِ الأنبياءِ والمُرسلين.. منذ آدمَ عليهِ السلام.. أبي البشر.. مروراً بداوُدَ وسُليمانَ وإبراهيمَ وإسحقَ وإسماعيلَ.. والمسيحِ ابنِ مريم.. وموسى ومحمّد.. صلواتُ ربِّي وسلامُه عليهم أجمعين.

وفي الختامِ أترككم في رعايةِ الله وأمنه.

 هذا ما قاله..

ونحنُ نبادِلُكَ السلام يا أبا ضياء.. ونقول لك: طَمْأنَ الله قلبَك المكلوم.. وأنزل على أهلِكَ وشَعبَك السكينةَ في مُصابِهِم وفواجعهم.. جزاكَ الله عنّا خيراً يا أبا ضياء.. نُشهِدُ اللهَ تعالى أننا أحببناكَ.. فقد وَعَظْتَنا وأحسنتَ الموعظة.. وَعَظْتَ عالمَنا بالموقفِ المشهود والكلمةِ الطيِّبة والدمعةِ الرقيقة والمشاعِرِ الفيّاضة.. حتى خِلْنا أنفسَنا مكانَك.. وقد حمَلْتَ إليْنا نَبْضَ قلبِكَ وصِدْقَ إحساسِكَ ونُبْلَ خُلُقِكَ وجميلَ عَطفِك..

يا أبا ضياء.. إنّا نُقرِئُكَ السلام.. ونقول لكَ ولأهلِ غزّة.. أطفالِهم وأمّهاتِهم.. شيوخِهِم وجدّاتهم.. مرضاهُم ومُصابيهم.. وأهلِ البذلِ والتضحية منهم.. نقول لكم جميعاً: أبشِروا ببيعِكُمُ الذي بايَعَتُم به.. ومَن أوْفى بعهدِه من الله.. أبشروا ببيعِكُم الذي بايعتم به.. وإنّ الله لا يُضيعُ أجرَ مَن أحسَن عملا.. إنّ الله لا يضيع أجر الصابرين المحتسبين..

 ثمّ ماذا بعد؟.. تخاطِبنا أمّ غَزِّية فاضلة.. شاهدناها البارحةَ في مقطعٍ مرئيّ.. عندما جاء مَن يُصَوِّر أحوالهَم تحت العدوان والقصف والتجويع والتشريد والترويع.. كي ينقلها إلى العالم بالمشهدِ المرئي..

فماذا قالت؟ اسمعوا بربِّكم قوْلها:

كلُّ العالم يتفرّجُ علينا.. نحنُ لسنا فُرجَة.. تقولُ بِعِزّة نفسٍ: نحن أشرفُ شعبٍ في العالم.. لا نريدُ أن يصوِّرَنا أحد

هي لا تقولها استعلاءً بل تأكيداً لعزّة نفسها وأصالةِ معدَنِها واستعفافِ مجتمعها واستشعارِها معيّةَ الله الكبيرِ المتعال.. إذ تقول: كلُّ العالمِ المتجبِّرِ يَقِفُ مع المحتليّن.. لكنّ اللهُ معنا.. اللهُ معنا..

فَتَحوا كلّ أبوابِ المُساندةِ للغُزاةِ المحتلين وأُغلقوا كلّ الأبوابِ في وجهنا.. وجهِ الفلسطينيين.. لكنّ باباً فوقهم جميعاً مُنْفَتِحٌ لنا.. هو بابُ الصِّلةِ بالله تعالى.. تقولُها الأمّ الكريمةُ النبيلة.. الواثقةُ من صِحّةِ مَنْطِقِها وهي تَكْنُس الدارَ التي يهدِّدها القصفُ في أيِّ لحظة.. تقولها وهي تُشير بيدها إلى السماء.. ثِقَةً باللهِ تعالى.. واطمئناناً من قلبِها بمعيّةِ اللهِ تعالى في أحلكِ الظروف وهي بين صغارٍ يتهدّدهم السحقُ على مدارِ الساعة ..

تقولُ الأمّ الثابتةُ.. الراسخةُ على الحقّ واليقين:.. لا نريدُ أن يعطِفَ علينا أحد.. فاللهُ معنا.. معنا الله.. وتدلِّل على ذلك بآيةٍ من كتابِ الله تعالى.. تعيشُها واقعاً من حولها في غزة.. فتُضيفُ مُبرهِنَةً على صِحّة موقِفِها وسلامةِ يقينها: ألم يَقُلِ اللهُ تعالى في القرآنِ الكريم: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) سورة البقرة 155

الله أكبر.. الله أكبرُ يا أهلَ غزّة.. ها قد أخَلَيْنا لكم المنبرَ اليوم لِتَعِظونا بالقوْل.. وتُعَلِّمونا بالمثال.. وما أحوَجُنَا وأحوَجُ عالمِنا إلى هذه العِظاتِ البليغة.. وهذه الدروسِ العميقة.. إلى هذهِ المعاني النبيلة وهذه القيَم السامية..

يا أهْلَ غزة.. يا شعبَ فلسطين.. لا تَهِنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون بإيمانكم..

يا أهلَ غزّة.. إن يَمْسَسْكُم قرحٌ فقد مَسّ القوْمَ قَرْحٌ مِثلُه.. وتلكَ الأيّامُ نُداولها بين الناس.. ولِيَعْلَمَ اللهُ الذين آمنوا ويتّخِذ منكم شهداء..

يا أهلَ غزّة.. ها أنتم من فوق الأنقاض تفتحون أبصارَ الأُمَم والمجتمعات على دُروسٍ بليغةٍ وعِظاتٍ عميقة.. تشتدّ حاجةُ البشر إليْها في هذا الزمان..

يا أهْل غزّة.. نسأل الله تعالى أن يتقبّل تضحياتِكِمُ العزيزة.. وأنْ يَرْبِطَ على قلوبِكُم.. وأن يُؤتِيَكم ثوابَ الدُّنيا وحُسْنَ ثوابِ الآخِرَة..

وإنّ قلوبَنا معكُم يا أهْلَ غزّة.. فاللهم بَرداً وسلاماً عليكم.. اللهم برداً وسلاماً على غزّة.. اللهم برداً وسلاماً على الضِّفة.. اللهم برداً وسلاماً على القُدس.. اللهمّ برداً وسلاماً على فلسطين..

اللهم رُدّ كيْدَ المعتدين.. وارْبِط على قلوبِ المكلومين.. اللهم ارحم شهداءهم واشفِ جرحاهم واجبُر كَسْرَهم..

اللهم نسألك صلاةً جامعةً في المسجد الأقصى المبارك.. وقد رُفِع الكرب عن القدس وانجلت الغُمّة عن فلسطين.. ولا تحسبنّ الله غافلاً عمّا يعمل الظالمون..

(.. استكمال الخطبة.. ثمّ الدعاء)

المقالات المنشورة بالموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس الأوروبي للأئمة