Posted on Leave a comment

الإمام الأوروبي: إنما الإمامة التيسير

الإمام الأروبي: «5» إنما الإمامة التيسير

بقلم فضيلة الشيخ الهادي بريك

قال الإمام عليّ عليه الرضوان للصحابة يوما من بعد موت نبي الرحمة محمد عليه الصلاة والسلام (هل أنبئكم عن الفقيه كل الفقيه؟ قالوا: بلى. قال: الفقيه كل الفقيه من لا يوئس الناس من رحمة الله ولا يؤمنهم من مكره).

وهو ولا ريب يستلّ ذلك من قوله عليه الصلاة والسلام (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين). ولكن المشكلة ليست في هذه التعليمات إذ هي أجلى من الشمس في رائعة النهار. إنما المشكلة هي في التوازن بين التيسير والتعسير إذ كلاهما مطلوب. ولذلك فهم أكثر الشباب المتدين حديثا أن التيسير تفصّ من تكاليف الإسلام فحاربوا التيسير وربّما رأوا أن كثيرا ممن يدعو إلى التيسير يضعه في غير مكانه ولكن ذلك كله لا يبرر هجران التيسير ولا الكفر به.

من يدرس الإسلام في مصدريه الأوليين الناطقين بإسمه ( القرآن والسنة ) يستنبط بيسر أن تعاليم الإسلام جامعة بين تيسير في مكانه وتعسير في مكانه. لا شك أن الجرائم التي وضع لها سبحانه عقوبات في الدنيا ومثلها التي توعد عليها بمثل ذلك في الآخرة لا يصلح معها عدا التعسير والتشديد. منها على سبيل الذكر الطعن في حرمات الناس دماء وأموالا وأعراضا وحقوقا وكرامات وحريات. أزعم أنه لا شيء أغضب لله بعد الإشراك به أكثر من العدوان على الإنسان ولذلك لا تجد عقوبات خمس متتابعة تزمجر بالنذر إلا في قتل النفس بغير حق وذلك في مثل قوله سبحانه (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عظيما عظيما).

في مثل هذه الجرائم لا بد من التعسير والتشديد حتى إن حبر الأمة إبن عباس لما سأله سائل هل للقاتل توبة أجاب بالنفي إذ قاده حدسه أن السائل مقبل على إزهاق نفس بغير حق ولكنه أجاب وربما في المجلس نفسه بالإيجاب إذ لمس من السائل ندما إذ هو قتل وفرغ من جريمته. ما يتراءى لي هو أن التيسير عادة ما يكون في الفرديات أي الأعمال الفردية الخاصة الشخصية بالتعبير المعاصر فلا تتعدى إلى الناس من جهة ولا تقترف ما قدسه الله سبحانه من مثل الحياة الإنسانية من جهة أخرى وأن التعسير عادة ما يكون في الأعمال الجماعية التي تحميها عصبة أو دولة أو هيئة ويستعان عليها لتكون حرابة بالتعبير القرآني ذلك أن عدوان الجماعة ليس كعدوان الفرد وأن عدوان الفرد على نفسه ليس كعدوانه على غيره إذ أن عدوان المرء على نفسه نادر والإنسان مفطور على حفظ نفسه وليس على العدوان عليها.

لا أتردد في القول أن الله وهو الرحمان الرحيم سبحانه متشدد إلى أبعد حدود التشدد فيما يجني على البشرية عدوانا وغزوا ونهبا وسلبا وإذلالا. بل إنه لك أن تقول أن التيسير الحقيقي لا بد له من مواضع تعسير حتى ينشأ المشهد المتوزان المعتدل فهما إذن صنوان يتعاونان على بناء الشريعة ولكن تنكب الناس لذلك التوازن هو الذي يجعل الخطاب في بعض الأحيان ميّالا إلى التيسير غير ذكّار للتعسير حتى في مواطنه بل حتى عند وقوع أسبابه أو يجعله ميّالا إلى التعسير غير ذكّار للتيسير حتى في مواضعه.

وأظن أن ذلك هو ما حمل الإمام عليّا عليه الرضوان على إجتراح هذه القاعدة العظمى التي يتوجه بها إلى الأئمة والخطباء والعلماء والفقهاء والمنسوبين إلى الدعوة والإفتاء والتوجيه بصفة عامة ليذكرهم بأمرين: أوّلهم الجمع بين الطرفين تعسيرا وتيسيرا من جهة وثانيهما وضع اليسر في مكانه ووضع العسر في مكانه من جهة أخرى وثالثهما التوسط في ذلك والإعتدال والتوازن من جهة ثالثة حتى لا يقنط الناس من رحمة الله سبحانه لفرط ما يسمعون من ذلك الداعية أو المتكلم من إهتمام بالشدائد ولا يأمنوا مكر الله سبحانه لفرط ما يسمعون منه من إفراط في التيسير.

من خير الأمثلة على ذلك أنه عليه الصلاة والسلام قتل رجال بني قريظة المقاتلين الخائنين عهودهم في ساعة عسرة شديدة إذ كانت المدينة بأسرها مهددة قاب قوسين بل أدنى من جيش عربي قرشي غطفاني عرمرم يعد زهاء إثني عشر ألفا. ذاك تعسير مطلوب لأنه الجريمة خيانة وغدر وليس رأيا أو كفرا أو حتى ردة. ولكنه لما فتح مكة تخول مع الناس التيسير بصفة عامة وذلك بسبب أنهم لم يكونوا خونة بل كفارا محاربين. وذاك تيسير منه عليه الصلاة والسلام ليعلمنا أن خلل الغدر والخيانة هي التي لا دواء لها لأنها متأصلة في النفس تأصل النفس أو الدم ولكن الكفر المستعلن حتى لو صاحبه عدوان فهو قابل للتزحزح إذا ووجه بالحكمة. ألا ترى أن أغلب الخطاب الديني اليوم يرتدي ألبسة التخويف والتعسير وناكية النواكي أن أغلب ذلك يكون في مسائل يسعها التيسير؟ وعندما يكون ذلك الخطاب نفسه من أهله أنفسهم يهون من الجرائم العظمى التي تسلخ الإنسان شعوبا ومجتمعات وهويات أو لا يتعرض لها بالمرة فإنه عليك أن تعيد رسم لسانك وقلمك مرة أخرى لجعله ملتزما بذلك التوازن بين تيسير وتعسير كلّ في موضعه بلا طغيان ولا إخسار من ناحية ومميزا بين جريمة الفرد الأعزل وجرائم العصابات وما في حكمها ومثل ذلك بين جريمة عمّت بها البلوى كما يقول الأقدمون فشررها مستطير تأكل الأخضر واليابس وجريمة ربما تأخذ حكم اللمم الذي تحدث عنه سبحانه في سورة النجم.

الإمام إذن وهو يخاطب الناس أو يكتب لهم أو يتخذ المواقف عليه أن يجمع بين طرفي الخطاب تعسيرا في مكانه وموجها إلى أصحابه وفي زمانه ومكانه وليس هو بحاجة إلى ذكر الأشخاص والمؤسسات والهيئات والصفات وتيسيرا بمثل ذلك ومن ذا تتصحح صورة الناس عن الله سبحانه وعن نبيه عليه الصلاة والسلام وعن دينه وشريعته ذلك أن الناس قليلا ما يقرؤون أو يدرسون إلا قليلا منهم وإنما يكون الإمام هو الفضائية الدينية لهم.

والله أعلم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *