path

خطبة عيد الأضحى المبارك | عيد التضحية والفداء

article title

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين،

الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد،

وبعد،، فإن عيد الأضحى يرتبط بفريضة الحج وترتبط فريضة الحج ارتباطا وثيقا بسيدنا إبراهيم عليه السلام، فهو الذي أمره الله تبارك وتعالى أن يؤذن في الناس بالحج فقال: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ [الحج: 27]، وهو الذي رفع القواعد من البيت مع ولده إسماعيل، وهو الذي قام بتطهيرها للطائفين والعاكفين، وقد كان التركيز على سيدنا إبراهيم في الحج مما التفت إليه الدكتور مراد هوفمان رحمه الله؛ حين أكد على أن هذه الشعائر ترسخ التوحيد الخالص لله، إذ خلت من الذكر المباشر لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مما يؤكد على عالمية الرسالة وصدق محمد في نبوته ورسالته.

وعيد الأضحى هو بمثابة جائزة من الله تعالى لسيدنا إبراهيم لثباته ونجاحه في الابتلاء الكبير بذبح ولده في رؤيا منامية، ورؤيا الأنبياء وحي، ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الصافات: 102]؛ لهذا كان أكثر الأنبياء الذين أكد الله تعالى على اتباع ملته فقال: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} النحل: 123، وضرورة الاقتداء به قال تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ [الممتحنة: 4]، وكان من شعائر صلاتنا أن نسأل الله تعالى أن يصلي على نبينا محمد كما صلى وسلم وبارك على سيدنا إبراهيم، وكذا تكرر ذكر سيدنا إبراهيم في القرآن الكريم 69 مرة.

والرسالة الكبرى من قصة سيدنا إبراهيم في عيد الأضحى هي أن نتعلم التضحية والفداء للدين والعقيدة والمبدأ، وخير من جسَّد التضحية والفداء دفاعاً عن الدين والأرض والعرض والمقدسات والمبدأ وعن كرامة العرب والمسلمين جميعا هم أهل غزة الأشاوس الكرام سادة الدنيا وأسيادها؛ حيث تتابعت الحرب عليهم شهرا تلو شهر وعيدا تلو عيد يواجهون حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في ثبات وصبر وصمود واحتساب أسطوري لا يكون إلا بمدد وتأييد من الله.

ذكَّرونا بثباتهم وصبرهم بتضحيات جيل الصحابة الكرام فأي تضحية أعظم من تضحية الطبيبة الفلسطينية آلاء النجار التي استقبلت جثامين أولادها التسعة وقد تفحمت لا تستبين صورهم ولا تملك وداعهم ثم يلحق بهم زوجها ولا يبقى لها من ذريتها سوى طفل واحد بين الحياة والموت، تستقبل الخبر برضا وثبات ويقين موقنة أنها ستلقاهم في الجنة، وأمثالها في غزة العشرات بل المئات من الرجال والنساء أهل الثبات والصمود. لقد خلَّد التاريخ ذكر الخنساء لأنها قدمت أربعة من أولادها شهداء في معركة القادسية واستقبلت خبر استشهادهم بالرضا والحمد، وها هي خنساء غزة آلاء النجار تسابقها وتسبقها بأولادها التسعة وزوجها في إشارة إلى خيرية هذه الأمة واستمرار عطائها إلى يوم القيامة، وأهل غزة رجالا ونساء، صغارا وكبارا قدَّموا ما عليهم ولكن الأمة خذلتهم، والعالم الغربي المتشدق بحقوق الإنسان والحيوان رسب بامتياز في اختبار أخوته الإنسانية!! كما رسب العالم الإسلامي في اختبار أخوته الإسلامية بامتياز كذلك!! إلا من رحم.

إذا كنا في يوم العيد نذبح الأضاحي قرباناً لله عز وجل، واستناناً بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، واقتداء بأبينا إبراهيم عليه السلام فعلينا أن نترجم قيمة ورسالة ومقصد الأضحية تضحية وفداء لديننا وأقصانا ومسرى نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن صور التضحية والفداء في عيد الأضحى ما يلي:

1.    التضحية نصرةً لغزة وأهلها: إن أولى وأهم وأوجب صور التضحية على المسلمين اليوم خاصة المسلمين في الغرب هي التضحية نصرة لغزة وأهلها، بالمال والجهد والوقت والمبادرة والعمل الفردي والجماعي، وميادين العمل والنصرة المتاحة والمباحة كثيرة جدا، وقد سبقنا إليها كثير من الأوربيين النبلاء الذين تحركت فيهم الإنسانية الحقة فنهضوا ينظمون القوافل المتجهة لنصرة غزة من إيرلندا وغيرها رغم علمهم بما قد يتعرضون له من ضغط وضر وأذى، وأولى بتلك التضحيات والمبادرات أمة العقيدة والولاء والخيرية والنصرة والفداء والتضحية في عيد الأضحى. 

2.    التضحية لحفظ الدين: يتضاعف الخطر على الدين والتدين اليوم خاصة في الغرب ويكثر التشكيك والإلحاد في صفوف الجيل الجديد من أولاد المسلمين في الغرب، وحماية أولادنا من التشكيك وضعف الالتزام الديني وتراجع الهوية يستلزم تضحيات هائلة وتنازلات كبرى من الأبوين ومن القائمين على أمر المؤسسات الدينية في الغرب، لابد من رؤية واضحة وعمل مستدام وإخلاص الوجهة لله، ورصد وتحليل الواقع بدقة فالسعي لابد أن يسبق بوعي ومن أخذ بأسباب الهداية والاستقامة بلَّغه الله مراده قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69]  

3.   التضحية لحفظ الأسرة: ركز القرآن الكريم على حفظ الأسرة فورد الحديث عنها في 50 سورة، و200 آية، وحديث مفصل عن أُسَر الأنبياء كأسرة سيدنا إبراهيم وسيدنا نوح وسيدنا لوط، وسيدنا يوسف عليهم السلام، ويستعرض القرآن الكريم 33 استراتيجية للشيطان في إغواء الإنسان أعلاها وأخطرها إفساد الأسرة وتشتيتها وهو ما فعله الشيطان مع سيدنا آدم عليه السلام ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ [البقرة: 36]، وحفظ الدين والهوية لن يتم في الغرب إلا بحفظ الأسرة، وحفظها يتطلب أقدارا هائلة من التضحية والتنازل والتشارك والتعاون من الزوجين وذلك قبل أن نكون أمام جيل ينفر من بناء الأُسر ويزهد في الزواج فنرسب في مسار آخر من مسارات الخيرية والشهادة على الناس.

4.  التضحية لتحقيق الوحدة واجتماع الكلمة: إن أكثر ما أضر بقضية فلسطين وأنتج حالة الخذلان والضعف والهوان التي تحياها الأمة اليوم هو تفرق الأمة وتشرذمها وعجزها عن الاتحاد والتكتل، فهل يستساغ شرعا وعقلا أن تختلف الأمة في وقفة عرفات وعيد الأضحى تحت أي ذريعة أو توجه فقهي؟! إن الواجب علينا اليوم خاصة في الغرب أن نبذل جهدنا لتحقيق الوحدة المنشودة فالتحديات كثيرة وما نحن مقبلون عليه مخيف ومقلق يوجب سبقه بالاتحاد والتراص، والتضحية لذلك بترك الهوى والمصالح المحدودة الضيقة وتقديم نموذج صالح للبناء عليه والاقتداء به من قبل غيرنا.

الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد

أيها المسلمون.. في هذا اليوم المبارك أحيوا سنة نبيكم وضحّوا إما في مكان إقامتكم ألمانيا وهو الأصل تحقيقا للسنة وترسيخا للدين والهوية، على أن تلتزموا بقوانين الذبح وأن توسعوا على أنفسكم وجيرانكم من المسلمين أو غير المسلمين، أو بالتوكيل في بلدانكم الأصلية أو في بلد أشد حاجة والأولى من هذا كله الأضحية في غزة واحتساب الكلفة العالية عند الله، ولا أرى صحة التبرع بالمال لغزة يجزئ عن الأضحية؛ لأنها سنة تعبدية لا يقوم مقامها التبرع بالمال.

 أيها المسلمون.. اجتمع لكم في يومكم عيدان عيد الأضحى وعيد الجمعة فمن شاء أجزأه العيد عن الجمعة؛ لحصول الموعظة والاجتماع في العيد، شريطة أن يصلي الظهر بدل الجمعة، ومن شاء صلى الجمعة معنا فإنا مجمعون إن شاء الله، والأمر واسع والاختلاف رحمة، ولا إنكار في المسائل الاجتهادية. 

أيها المسلمون.. صلوا أرحامكم في يوم العيد، وروحوا عن أنفسكم وأولادكم ترويحا منضبطا بضوابط الشرع واجعلوا غزة حاضرة في عيدكم، واعلموا أن عيدنا الأكبر يوم أن تتحرر مقدساتنا وتتوقف الحرب على أهلنا وإخواننا، وتجتمع كلمتنا، ونتخلص من غثائيتنا، وترتفع راية الحق والعدل والحرية في ربوع بلادنا.

اللهم اجعل هذا العيد عيدا مباركا على أمة الإسلام، وتقبل من الحجيج حجهم، وفرح قلوب أهل غزة بنصر مبين وغوث قريب يا أكرم الأكرمين، والحمد لله رب العالمين، وكل عام وأنتم بخير وأمتنا في عز ونصر وحرية وأمن وعدل.

..

د. خالد حنفي

مسجد المهاجرين، بون، ألمانيا

 6 يونيو 2025م 

إدارة الإعلام

أرشيف الكاتب

المقالات التالية:

مشاهد الفرح والأمل في عيد الفطر السعيد | خطبة

feather إدارة الإعلام

خطبة جمعة | متى تنتهي الحرب على مساجد غزة؟

feather إدارة الإعلام

اقرأ أيضا للإمام

article title

الحكمة في صلاة الكسوف والخسوف | العلامة يوسف القرضاوي

article title

بيان المجلس الأوروبي للأئمة حول التطورات الأخيرة في سوريا

article title

خطبة جمعة | متى تنتهي الحرب على مساجد غزة؟

banner title

مقالات مرتبطة

إدارة الإعلام

مشاهد الفرح والأمل في عيد الفطر السعيد | خطبة

إدارة الإعلام

خطبة جمعة | متى تنتهي الحرب على مساجد غزة؟

إدارة الإعلام

خطبة جمعة | غزة حركت ضمير العالم