خطبة جمعة | أهل غزة.. كتاب مفتوح في الصبر والاحتساب
خطبة جمعة
أمّا بعد،،
فقد قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) سورة آلِ عمران 200.
شهورٌ ثلاثة انقضت .. ولا زال غزّةُ صابرةً محتسبة .. لا زال أهلُها كما عهدناهم صابرين مُحتَسبين .. رغم الأهوالِ التي تُصبّ فوق رؤوسهم صغاراً وكباراً على مدار اليوم والليلة .. رغم الشدائدِ التي تفوق الاحتمال والمآسي التي تَشُقّ على البشر ..
إنّ هذا الصبرَ والاحتسابَ عظةٌ مشهودة .. وكتابٌ مفتوحٌ .. ونموذجٌ مُلهِمٌ للنّاسِ جميعاً .. وهو يُذكِّرنا بهذه الخِصلَةِ النبيلة .. التي لها من الفضل العظيم ما نبّهنا إليه كتابُ الله تعالى في مواضِعَ عدّة .. وأشار إليه نبيُّنا صلى الله عليه وسلم في مقامات شتّى ..
ومن فضل هذه الخِصلة أن اختصّ الله تعالى الصابرين بالمعيّه والحُبِّ .. قال تعالى في آية البقرة: (إنّ اللهَ مَعَ الصَّابِرينَ) سورة البقرة 153 .. وقال عزّ وجلّ في آيةٍ آلِ عِمْران: (وَاللّهُ يُحِبُّ الصّابِرِينَ) سورة آل عمران 146.
يا لها من منزلةٍ .. أن يكون المرءُ في معيّة الله تبارك وتعالى .. وأن يحظَى بحبِّه عزّ وجل.
وقد أنبَأنا تعالى ببُشرياتٍ للصابرين .. منها قوْله عزّ وجلّ (وَبَشّرِ الصّابِرينَ * الّذِينَ إذا أصَابَتَهُم مُصِيَبَةٌ قَالُوا إنّا للهِ وَإنّا إلَيهِ راجِعُونَ * أُولئِكَ عَلَيهِم صَلَواتٌ مِن رّبِهِم وَرَحمَةٌ وَأولئِكَ هُمُ المُهتَدُونَ) سورة البقرة 155 – 157.
إنّ من يصبر ويحتسب .. ينتظره فوزٌ عظيم .. ومن ذلكم قولُه تعالى: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) سورة فُصِّلَت 35، وقولُه عزّ وجل (إنَّمَا يُوَفَى الصَابِرُونَ أجْرَهُم بِغَيرٍ حِسابٍ) سورة الزمر 10.
والصبرُ على أنواعٍ وضُروب .. فمنه الصبر على التزام الطاعات واجتناب المعاصي .. ومنه الصبر عند الغضب أو كظْم الغيْظ .. ومنه الصبر عند المصائب والشدائد .. ومنه الصبر على المحن والابتلاءات .. ومنه الصبر على العِلم والعمَل والكسْب ..
وقد امتازَ أهلُ غزّة بالصبر على أشدّ المحن والابتلاءات والمصائب والشدائد .. مِن فَقْد الأهلِ والوَلَد والأحبّة .. وتدمير البيوت وقطع الأرزاق .. والعطش والجوعِ والبرد والأسقام .. واحتمالِ الترويعِ الذي يُطاردهم في كلِّ لحظة .. فلا يحظّوْن بفرصةٍ ولو كانت يسيرة لراحةِ الأبدانِ وإغماضِ الأجفان .. فالسقوفُ قد تهوي على رؤوسهم في كلّ حين .. ولهيبُ القصفِ قد يلتهمُ أبدانَهم من حيث لم يحتسبوا ..
فتأمّلوا يا عبادَ الله .. تأمّلوا أحوال هؤلاء الصابرين المحتسبين .. فمنهم مَن يَقْضُون أياماً ولياليَ تحت الأنقاض .. بلا شربةِ ماء ولا لقمة غِذاء .. ولا سبيل لاستنقاذهم .. وتلهَجُ ألسنتُهم وأفئدتهم بذِكرِ الله تعالى إلى أن تصعد الرُّوحُ التوّاقةُ إلى البشرى من الله .. فتفارق الأبدان المنهكة إلى طلب الأجر العظيم من بارئها ..
وإن أُخرِجَت الأشلاءُ من تحت الأنقاض .. تجد الأهالي من حولها صابرين على ما أصابهم .. محتسبين ذلك عند الله تعالى ..
وإنّا لنحسب أهلَ غزة من الصّابِرِينَ فِي البأساء وَالضّراء وَحِينَ البأسِ .. وهؤلاء ممّن قال فيهم تبارك وتعالى (أُولَئِكَ الّذَينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَقُونَ) سورة البقرة 177.
الذين صدقوا .. لأنّهم صبروا على المَكارِهِ التي نزلَت بهم .. والأهوالِ التي صُبّت عليهم .. والأذى الذي تعقّبَهم .. صبروا على ذلك واحتسبوه عند الله تعالى .. وهذا من الفلاح في امتحانِ البلاء .. قالَ تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِين) سورة محمد 31.
وقد جُعِل من ثواب الصابرين ما أورده كتابُ الله تعالى في آيةِ الرعد: (وَالملائكةُ يَدخُلُونَ عَلَيِهِم مِن كُلِ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيكُم بِمَا صَبَرتُم فَنِعمَ عُقبَى الدّارِ) سورة الرعد 23–24.
ومن الصبرِ .. صبرُ الأنبياء .. كما في ثناءِ اللهِ تعالى على نبيِّه أيّوب عليه السلام بقوله: (إنّا وَجَدنَاهُ صَابِراً نِعمَ العَبدُ إنَهُ أوابٌ) سورة ص آية 44.
ولو تأمّلنا كتابَ الله تعالى .. لوجدنا أنّ الصبر جاء مقروناً في مواضع عدّة منه بأمورٍ عظيمة .. فيأتي الصبرُ مع الصلاة .. ويأتي مقروناً بالتقوى .. ويأتي مُلازِماً لشكر الله تعالى .. ونجد الصبر مع المرحمة .. ونجده مع الصدق .. وفي هذا كلِّه ما يؤكِّدُ منزلةَ الصبْر .. وأنّ هذه الخَصلَةَ تجسيدٌ عمليٌّ للصلاحِ والاستقامة ..
وإنّنا إذ نرى من أهل غزّة هذا الصبرَ العظيم .. فإنّه يُلهِمنا ويُلهِمُ الناس في التأسِّي بهم .. ونُدرِكُ أنّ صبرَهم ما كان له أن يكون .. دون إيمانٍ عميق .. ويقين راسخ .. وأنّ احتسابَهم كلّ ما يلقوْنه من المصائب والأذى عند الله تعالى ما كان له أن يكون .. دون انفتاحِ أفئدتِهم وعقولِهم على حقيقةِ أنّ هذه الدارَ دارُ فناء لا دارَ بقاء .. وأنّ الآخرةَ خيرٌ وأبقى ..
أما وقد أدرَكْنا صبرَهم واحتسابَهم وتضحياتِهم .. فإنّ علينا أن نُدركَ واجبنا نحوهم .. واجبَنا في أن نساندَهم في اصطبارهم وثباتِهم .. وأن نسعى في التخفيف عنهم بكل ما يمكن تقديمُه لهم .. وأن نرفعَ أصواتَنا لدعم الحقّ والعدلِ وفي مواجهة الظُّلمِ والعدوان .. وأن يدركوا أنّهم ليسوا وحدهم .. وأنّ لهم أمّةً تقف إلى جانبهم .. وضمائرَ حرّة تلتفُّ حول قضيّتهم .. كي لا ينالَهم شعورُ الخُذلانِ المرير .. فالوقوفُ إلى جانبِ فلسطينَ وشعبِها .. ومساندةُ غزّةَ الجريحةَ وآهلَها .. هو من أعظم الواجبات في هذه الأيّام .. بعد شهورٍ ثلاثةٍ من الإبادةِ الجماعية .. والتطهيرِ العرقي .. والفظائعِ الرهيبة ..
يا أهْلَ غزة .. يا شعبَ فلسطين .. لا تَهِنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون بإيمانكم ..
يا أهل غزةَ الصابرين .. بشراكم اليوم من الله تعالى .. ألم يَقُل عزّ وجلّ في كتابِهِ الكريم: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)؟ سورة البقرة 155
يا أهلَ غزّة .. إن يَمْسَسْكُم قرحٌ فقد مَسّ القوْمَ قَرْحٌ مِثلُه .. وتلكَ الأيّامُ نُداولها بين الناس .. ولِيَعْلَمَ اللهُ الذين آمنوا ويتّخِذَ منكم شهداء ..
يا أهْلَ غزّة .. نسألُ الله تعالى أن يتقبّل تضحياتِكِمُ العزيزة .. وأنْ يَرْبِطَ على قلوبِكُم .. وأن يُؤتِيَكم ثوابَ الدُّنيا وحُسْنَ ثوابِ الآخِرَة ..
اللهم بَرداً وسلاماً عليكم .. اللهم برداً وسلاماً على غزّة .. اللهم برداً وسلاماً على الضِّفة .. اللهم برداً وسلاماً على القُدس .. اللهمّ برداً وسلاماً على فلسطين ..
اللهم رُدّ كيْدَ المعتدين .. وارْبِط على قلوبِ المكلومين .. اللهم ارحم شهداءهم واشفِ جرحاهم واجبُر كَسْرَهم ..
اللهم نسألك صلاةً جامعةً في المسجد الأقصى المبارك .. وقد رُفِع الكرب عن القدس وانجلت الغُمّة عن فلسطين .. ولا تحسبنّ الله غافلاً عمّا يعمل الظالمون ..
(.. استكمال الخطبة .. ثمّ الدعاء)
- الكلمات الدلالية
- خطب
إدارة الإعلام