الإمام الأروبي: الإمام عدل يرسخ التوازن
أخرج البزار والطبراني والبيهقي وأحمد وغيرهم أنه قال عليه الصلاة والسلام: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وإنتحال المبطلين. تردّد المحققون في الحديث بين مضعّف ومصحّح وأيّا كان الأمر فإن معناه صحيح له شواهد كثيرة.
بقلم فضيلة الشيخ الهادي بريك
أخرج البزار والطبراني والبيهقي وأحمد وغيرهم أنه قال عليه الصلاة والسلام: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وإنتحال المبطلين. تردّد المحققون في الحديث بين مضعّف ومصحّح وأيّا كان الأمر فإن معناه صحيح له شواهد كثيرة.
أوّل ما ينبغي لك أن ترعاه هنا بلا فوت هو أنه عليه الصلاة والسلام إختصر الدين كله في العلم وهي إشارة غزيرة معناها أنه لا تديّن بلا علم وأن من فاتك في العلم فاتك في الدين ولا ينفي هذا قولهم الصحيح أن من فاتك في الخلق فقد فاتك في الدين ذلك أن الإسلام معادلة متكاملة نصفها علم ونصفها حلم ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام (قل آمنت بالله ثم إستقم). كما يعلّمنا الحديث الشريف أن الأمة ستظل حتى يوم القيامة متنوعة التركيب فلا مناص من وجود طائفة الغالين المحرفين على طريقة بني إسرائيل الذين عرفوا بتحريف الكلم عدا أن أولئك يحرفون الكلمة لحما ودما حتى آل الأمر إلى تحريف الكتاب كله أما هؤلاء فإنهم يحرفون المعنى.
كما أن الأمة لا مناص لها من طائفة الجاهلين الذين يقحمون أنفسهم في التأويل بلا أسلحة علمية ولا حتى أردية خلقية تجعلهم يهابون القول على الله بغير علم وأكرم به من ذنب شنعه القرآن العظيم كأكثر ما يكون الذنب شناعة ولأجل ذلك غضب عليه الصلاة والسلام على ثلة من أصحابه إذ أفتوا أميرهم بغير علم فمات ودعا عليهم بالقتل وقال (إنما شفاء العيّ السؤال). ولا مناص للأمة كذلك من طائفة ثالثة تزحم الأرض وهي طائفة المبطلين الذين ينتحلون التعاليم الإسلامية إنتحالا إبتغاء هدم الإسلام على رؤوس أهله من داخله وهو عمل المنافقين في القديم والحديث.
لمقاومة تلك الآفات الثلاث التي تنخر كيان الأمة أرشد عليه الصلاة والسلام الأئمة الذين سمّاهم هنا عدولا (وهم الرواحل في حديث سابق) إلى العلم بهذا التركيب الذي لا مناص منه أوّلا إنفاذا لأعلى قانون إلهي وسنة عمرانية ماضية أي ناموس التنوع والتعدد ومن بعد العلم بذلك فإنه على أولئك العدول مواجهة تلك الطوائف الثلاث مواجهة سلمية قوامها المداد والقلم واللسان والكلمة بمختلف تعبيراتها إذ منها الحزب والجمعية والمنظمة ومنها الفنون بأسرها تأليفا وإخراجا وأداء. تلك هي مهمة العدول ولك أن تلاحظ كذلك أنه سماهم عدولا بسبب أنهم يحرسون المنطقة الوسطى والمساحة اليسرى في الأمة فهم القوّامون عليها ولعل أجمل ما قيل في ذلك قالة الإمام عليّ عليه الرضوان (عليكم بالنهج الأوسط يفيئ إليه الغالي ويلحق به التالي). سمّاهم عدولا نسبة إلى أسمى مقاصد الإسلام العظيم أي مقصد العدل الذي أورده في الكتاب العزيز أنه إرادة إلهية وأمرا رحمانيا (إن الله يأمر بالعدل) و (قل أمر ربي بالقسط) وما ذلك سوى لأن مقاومتهم هي العدل نفسه وهي القسط ذاته وبذلك تحفظ الأمة إذ الأمور بأسبابها وسننها ولعلّ القرآن الكريم أطّر ذلك بدعوته التي لا تعرف توانيا إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والخير. ألم تشهد الأمة حتى في العهد الراشدي الأوّل طائفة الغالين المحرفين؟ ألم يتصدّ لهم الإمام عليّ كرم الله وجهه؟ بل إن تلك النعرة نشأت ومحمد عليه الصلاة والسلام بين ظهرانيهم إذ تقالّ بعض الشباب عبادته فغضب عليهم وعلمنا بالمناسبة النهج الأوسط والطريق العدل.
أمتنا اليوم تواجه تلك الطوائف الثلاث نفسها بل إن تلك الإتجاهات الفكرية إستوعبت ملايين مملينة من شباب الأمة رجالا ونساء ومن ذا فإنه لا مفرّ للعدول الرواحل من المقاومة الفكرية بالكلمة بل بكل ما تعنيه الكلمة أي بكل الوسائل الممكنة عدا إستخدام القوة التي يقدرها السياسيون وكيف نحتاج إلى القوة المادية وقد علمنا نبي الرحمة محمد عليه الصلاة والسلام أن أمضى سلاح هو سلاح الكملة التي تغير التصور وتعيد بناء العقل وذلك في حديثه الصحيح (سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله).
ليت شعري إذا كانت الكلمة بهذا المضاء والحدة في مقاومة الجور السياسي الذي تحميه دولة تحتكر كل مظاهر القوة فهي بتغيير العقول أولى وبإعادة إنتاج المعرفة الصحيحة أحرى ولكن كتب الله على الإنسان داء التعجل. أليس تنخر تلك الطوائف الثلاث اليوم أمتنا لتلتقي موضوعيا مع قوى خارجية نافذة تزيد الطين بلة ليس أوّلها الإحتلال ولا آخرها الدولة العربية التابعة. هي تديّنات ثلاثة ترزح تحت نيرها اليوم أمتنا فمن تدين يجعل التاريخ نموذجا للإسلام وأمته وكأن التاريخ وقف عند السلف عليهم الرضوان وهو بالمناسبة قرف يلتقي بالتمام والكمال مع التفكير الغربي الذي قال أصحابه في كتابهم الشهير (نهاية التاريخ لفوكوياما) .
ومن تدين عكف على التقليد عكوفا فهو أشد كفرا بالتجديد من كفره بالطواغيب. ألم يشنّ الإسلام الحرب بلا هوادة ضد التقليد؟ ألم يفعل ذلك سوى لأن المقلد لا تناط به نهضة لأمة؟ ولك أن تلاحظ بلا تردد أن الوحي الكريم لم يأمرنا ولو إستحبابا ولو مرة واحدة بتقليد خير من يقلد لو كان التقليد حسنة وهو محمد عليه الصلاة والسلام. إنما أمرنا دوما بالإتباع والفرق بين إتباع بإحسان بالتعبير القرآني في سورة التوبة وبين تقليد ببغاوي شاسع واسع. ومن تدين ثالث قلبه معلق بالغرب فهو أمله وأسوته ولكنه يعيش بيننا لحما ودما لصرم الصف الواحد وتعويق المقاومة وإنتحال تجديد هو في الحقيقة تبديد. ذلك هو الوضع الديني العام للأمة في هذه العقود وقد تبرجت تلك الطوائف الثلاث تبرجا عنيفا وواتتها ظروف مقصودة وغير مقصودة حجبت صوت العدل وقلم العدول وما على هؤلاء عدا مواصلة المقاومة.
كيف لا وقد وهبهم الله ما لم يهب غيرهم في السالفين إذ منّ عليهم بثورة إتصالات عارمة تدك الحدود دكا وتفرض سلاح الكلمة صوتا وصورة. وإن أنس فلن أنسى قالة سيدي الإمام القرضاوي يوم دشن موقع إسلام أون لاين قبل عقدين أو أزيد (الجهاد الإكتروني هو جهاد العصر). أجل. العدول الذين يبحث عنهم نبي الأمة عليه الصلاة والسلام هم فرسان الجهاد المعاصر والجهاد المعاصر هو جهاد الكلمة ولعلّ من أمضى ساحات الكلمة التي فرطنا فيها بغبش علمي وشغب علمي لا يليق بنا هي ساحة الفنون ذلك أن أمضى سلاح يؤثر في الناس ويعيد بناء العقول إنما هو سلاح الفنون خاصة في ساحة إعلامية هادرة لا ينافس فيها عدا الجادون المثابرون الذي يتحالفون مع أهل الدثور ومن ذا تصنع نهضة فكرية جديدة تحرر الأمة بحول الله سبحانه فلا يشفع للعدول يوم القيامة أنهم فقراء ولا أنهم محاربون مطاردون.
اللهم إجعلنا من العدول الرواحل الذين ينفون تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وإنتحال المبطلين. آمين
- الكلمات الدلالية
- بأقلام الأئمة
الشيخ الهادي بريك