Posted on Leave a comment

مختارات نبوية | أعلى الناس رتبة في الخير

الحديث الرابع: أعلى الناس رتبة في الخير

عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي. الترمذي وابن ماجة بسند صحيح 

المعنى العام: 

في هذا الحديث الشريف البليغ واسع المعنى على قلة كلماته ووجازة ألفاظه يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن معيار الخيرية وميزان التفاضل بين الناس وأعلى الناس رتبة في الخير هو: من يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في معاملته لزوجه، والعكس كذلك أن شر الناس هو سيء الخلق والمعاملة مع زوجه وأهله، وكثير من الناس اليوم يكون في أعلى درجات حسن الخلق مع الناس خارج البيت فيكرمهم ويؤثرهم على نفسه ويمازحهم ويلاطفهم ويطيل الحوار والاستماع إليهم ولكنه لا يفعل عشر ذلك مع زوجه فتراه في البيت عبوسا متجهما يقتر على زوجه في النفقة قليل الحديث والتحاور معها، لا يحسن إلى أهلها كما تحسن إلى أهله، لا يحسن عشرتها في الجملة. ويلاحظ في الحديث الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم عبر عن الزوجة بالأهل يعني أن الزوجة من أهل الزوج الذين هم أقرب الناس إليه والتعبير يوحي بالقرب العاطفي والنفسي بين الزوجين والذي عبر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187]، وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] ، وعليه فمن أراد التحقق بالخيرية وأن يكون من أعلى الناس رتبة في الخير فليكن في علاقته بزوجه كعلاقة النبي صلى الله عليه وسلم بزوجاته ومن أهم مظاهر تلك العلاقة: عدم الإيذاء أو الضرب؛ فلم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب زوجة من زوجاته ولو مرة في حياته كلها بل ثبت عنه النهي عن الضرب فقال: «لَا تَضْرِبُوا إِمَاءَ اللَّهِ» سنن أبي داود (2/ 245)، كان في خدمة أهله صلى الله عليه وسلم فعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ عَائِشَةَ: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، ” كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيَخِيطُ ثَوْبَهُ، وَيَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ كَمَا يَعْمَلُ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ ” مسند أحمد ط الرسالة (42/ 209) ولنا أن نتخيل أن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم مع كثرة أعبائه ومسؤولياته وأعدائه وتحدياته الداخلية والخارجية يجد وقتا ليكون في خدمة أهله لا يقطعه عنه إلا الصلاة، وهو رد عملي على من يعتبر وظيفة المرأة الكبرى القيام بشؤون البيت والزوج لا يساعدها فيها. 

ومنها: وفاؤه لزوجته بعد موتها وتصريحه بحبها فعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا عَلَى خَدِيجَةَ وَإِنِّي لَمْ أُدْرِكْهَا، قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَبَحَ الشَّاةَ، فَيَقُولُ: «أَرْسِلُوا بِهَا إِلَى أَصْدِقَاءِ خَدِيجَةَ» قَالَتْ: فَأَغْضَبْتُهُ يَوْمًا، فَقُلْتُ: خَدِيجَةَ فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا» صحيح مسلم (4/ 1888)

ومنها: حواره مع زوجاته وسماعه لهن: كما في حديث أم زرع الطويل، ومنها: الترويح عنها بصور وأشكال الترويح المتاحة في عصره، فكان يسابق السيدة عائشة رضي الله عنها فيسبقها وتسبقه، وكان يأخذها إلى التلاع أي أماكن الخضرة والطبيعة، ومنها مشاورته لزوجته في أعقد الأمور وأصعبها كمشاورته للسيدة أم سلمة رضي الله عنها في التحلل من الإحرام بالعمرة، وغير ذلك من صور حسن العشرة من النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجاته فمن أراد أن يكون خير الناس وأفضلهم عند الله فليكن كالنبي صلى الله عليه وسلم في حسن معاملته لأهله.

رسائل الحديث: 

  1. ميزان الخيرية ومعيار التفاضل هو بمقدار حسن خلق الرجل مع زوجه وإحسانه إليها كما أحسن النبي صلى الله عليه وسلم. 
  2. شر الناس من يحسن لغير أهله ولا ترى زوجه منه إلا كل عيب ونقيصة. 
  3. الزوجة منزلتها من الزوجة بمنزلة أهله وعائلته في وجوب الإحسان إليها والبر بها وإكرامها في حياتها وبعد موتها. 
  4. الميزان الذي نزن بها سلوكنا ومعاملاتنا مع زوجاتنا هو الميزان النبوي لا الأعراف والعادات والتقاليد التي تهين الزوجة أو تنتقص من كرامتها. 
  5. الزوج الصالح يتقرب إلى الله بحسن خلقه واقتدائه بالنبي صلى الله عليه وسلم في معاملته لأهله. 
  6. على الزوجة كذلك أن تبادل إحسان زوجها إليها بإحسان مثله وأكبر منه، وأن تكون في حسن عشرتها وتبعلها كما كانت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم. 

الحديث الخامس: فضل العبادة في وقت الغفلة

عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ» أخرجه مسلم.

المعنى العام للحديث 

هذا الحديث يبين فضل الثبات على الدين في زمن غربته وقلة المتمسكين به، وعِظم الأجر والثواب على ملازمة الطاعات في أوقات الغفلة، فالهرج هو الفتن واختلاط الناس وكثرة الكذب وانتشار ترك الطاعات، فمن عبد الله واستمسك بدينه في هذه الأوقات كان كمن هاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة وثواب الهجرة عظيم كبير كما في قوله تعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران: 195]، والعلاقة بين العابد في زمن الغفلة والمهاجر في سبيل الله من وجوه: أن المهاجرين كانوا قلة وكذا العباد في أوقات الفتن والغفلات قلة، ومنها: أن المهاجر يقاوم رغبته في البقاء في وطنه مع أهله وماله ويضحي بتركها لله، وكذا العابد في وقت الغفلة يقاوم رغبته وشهوته في أن يسير مع الناس فيما يفعلون من ترك للطاعات واقتراف للمحرمات فكلاهما فرَّ بدينه من الناس، ومنها: أن الهجرة ومفارقة الأوطان في سبيل الله دليل على حياة القلب وارتفاع منسوب الإيمان، تأمل موقف صهيب الرومي رضي الله عنه حين ترك كل ما يملك ليلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وبشره النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم بقوله: ربح البيع أبا يحيى ربح البيع. فقلب صهيب الحي التارك للدنيا وراء ظهره هو قلب العابد التارك للشهوات في أوقات الغفلات والفتن. 

وهذا الحديث يتنزل على كل مسلم أو جماعة مسلمة تواجه تحديات للالتزام بدينها وتقدم تضحيات للثبات عليه وإعانة الناس على حفظ دينها، كالمسلمين في الغرب حيث يواجهون تحديات وصعوبات في الالتزام بدينهم والبقاء عليه تختلف كثيرا عن غيرهم ممن يعيشون في بلدان أكثريتها مسلمة ونظمها وقوانينها تتوافق مع تعاليم الإسلام، وهو المعنى الذي أشار إليه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم حين قال لمهاجري الحبشة: ” ولكم أنتم أصحاب السفينة هجرتان” وذلك جوابا عن سؤال من أسماء بنت عميس رضي الله عنها وهي إحدى المهاجرات للحبشة حيث عارضها عمر بن الخطاب قائلا لها: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم؟ وإنما ضاعف النبي صلى الله عليه وسلم الأجر لمهاجري الحبشة عن المهاجرين معه إلى المدينة؛ لأن جهادهم للثبات على الدين مع أولادهم أعظم ممن هاجروا معه. 

وتظهر قيمة العبادة في وقت الغفلة في مواسم الغفلات والفتن في الغرب كاحتفالات رأس السنة وغيرها، وحين يجد الشاب أو الفتاة نفسه أمام طوفان من المغريات والفتن فيعتصم بالله ويذهب إلى محرابه ومصحفه. 

رسائل الحديث

  1. الثبات على الدين في زمن غربته والتشكيك في قطعياته وثوابته أجره يعدل أجر المهاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. 
  2. بلوغ رتبة العبَّاد في أوقات وأزمنة الفتن والغفلة يكون بتعهد القلب وتزكية النفس في أوقات الرخاء ولزوم الأوراد العبادية من ذكر وتلاوة للقرآن وصيام وقيام نفلا وفرضا. 
  3. الصلاح عند فساد الناس وإصلاح ما أفسد الناس والأخذ بيد الناس للثبات على الدين مما يبلغ به المرء درجة المهاجر إلى الله ورسوله. 
  4. قبل النظر إلى كثرة الفتن والتحديات علينا أن ننظر إلى عظم الأجور والمثوبات، فمن لمح فجر الأجر هان عليه ظلام التكليف. 

القلة العابدة العاملة خير من الكثرة المنحرفة العاطلة، فهنيئا لشاب أجلبت عليه الشهوات والفتن بخيلها ورجلها فاستعصم بربه ولاذ إلى مصحفه ومحرابه، وأنعم بفتاة تمسكت بلباسها واحتشامها رغم كثرة نداءات النفس وضغوط الصحبة بين شهوة وشبهة قالت: معاذ الله. 

بقلم الدكتور: خالد حنفي.

Posted on Leave a comment

ماذا بعد شهر رمضان؟

بعد انتظام العبد وتأمله في هذا الدرس العظيم طوال شهرٍ كاملٍ يكتسب ملكة المراقبة لله تعالى واستشعار نظره إليه واطلاعه عليه، وأن الملائكة تسجل عليه كل شيء، فيصبح ضميره هو رقيبه في القيام بواجباته تجاه ربه، وتجاه أسرته، وتجاه مجتمعه، فلا يفرط في عمله، ولا يجترأ على المعصية، وإن وقع في ذنب سارع واستغفر وعزم على التوبة النصوح. وهذا هو تعظيم الحرمات.

 الصيام وكسر الأنا

الإعجاب بالنفس والخيلاء من أدواء العصر، ذلك لأننا نعيش زمان الفردانية وتضخيم الذات.

 لقد غفل الإنسان أنَّه صغير في هذا الكون، وأنَّ كل ذرة في جسده تفتقر لرعاية الله تعالى وحفظه.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) سورة فاطر

وثناء أهل الجنة هو الحمد للواحد ونسبة الهداية إليه سبحانه وتعالى.

قال تعالى: 

وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ۖ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ۖ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ۖ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43) سورة الأعراف 

مسكين هذا الإنسان حينما يظن نفسه في الكون رقماً صعباً، ونسى أنه لم يكن شيئاً مذكوراً.

وكم كان يكره الرسول ﷺ كلمة (أنا).

عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال: أتَيْتُ رسولَ اللهِ ﷺ فدقَقْتُ البابَ فقال: (مَن ذا)؟ فقُلْتُ: أنا فقال: (أنا أنا) – مرَّتَيْنِ – كأنَّه كرِهه.

 صحيح ابن حبان: 5808  

 يمكن للمرء أن يُحرز سبقاً في علمٍ أو فنٍ من الفنون، فهل ذلك يسوغ له أن يمشي في الأرض مرحاً أو يخال أنه سيبلغ الجبال طولاً؟!

لا بأس أن يفرح المسلم بما أنجزه من عمل، كأن يكون كتب مقالاً نافعاً، أو ألف كتاباً ماتعاً، أو علَّم طالباً، أو بنى لله مسجداً، أو نصر مظلوماً، أو قهر ظالماً، أو ساهم في نشر الخير في أي بقعة من الأرض.

هذا الفرح بفضل الله تعالى والرضا عن النفس أن هداها لطريق السعادة، إنما فرحٌ بفضل الله، والصائم يفرح حين فطره، بل إن هذا الفرح هو من علامات الإيمان، إنه انشراح الصدر بالطاعة والقربات.

إنما الفرح المذموم والمهلك هو فرح البطر والخيلاء المصحوب بالمن والأذى ونسبة النجاح والإنجاز للذات والقوة والقدرة والذكاء والمواهب. حينها يهلك المرء.

عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ: «لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين فيصيبه ما أصابهم» رواه الترمذي 

ما أهون المرء عند الله عندما يذكر نفسه وينسى فضل ربه.

وما أعظمه حينما يرى أن الصانع في الكون كله هو الله تعالى.

والصيام يعلمنا ويشعرنا بحجمنا وصغرنا، فالفقراء والضعفاء والأغنياء والأصحاء سواء في الشعور بالجوع والعطش والافتقار إلى حاجات الجسد.

 والملوك والسوقة يمتنعون عن المباحات طواعية، فعلام الاختيال والعجب؟!

بل إن كثيراً من العجائز والمرضى يأبون الإفطار ويصرون على الصوم تعبداً وامتثالاً.

فالصوم يكسر النفس ويستل منها الشعور بالاستعلاء على الآخرين.

  إنَّ لحظة انكسار وتذللٍ لله رب العالمين تستخرج منك داءً هو فيك ولا تشعر.

حين ترفع يديك عند فطرك وتدعو متأملاً في القبول وجميل المثوبة والمغفرة.

ومن أسرار الصيام كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي: “أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقا مضطرباً بين الخوف والرجاء، إذ ليس يدري أيقبل صومه فهو من المقربين؟ أو يرد عليه فهو من الممقوتين؟”

 إحياء علوم الدين ج /1 308

والخوف دون إفراط يُسلم لك عملك، والرضا دون اعتداد يمنعك من اليأس.

يقول ابن عطاء الله السكندري:

” أصل كل معصيةٍ وغفلةٍ وشهوةٍ الرضا عن النفس، وأصل كل طاعةٍ ويقظةٍ وعفةٍ عدم الرضا منك عنها، ولأنْ تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه، خير لك من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه..”

وحين تأتي ليال العشر وتشمر عن الجد وتترقب ليلة الغفران وتذرف دموع الندم على ذنبك وتقصيرك.

والتذلل لله تعالى هو عين العز والحرية، وكلما زدتَ إليه افتقاراً زادك الله غنى.

ويعجبني أن نعود سريعاً لإحدى الحكم العطائية:

“تحقَّق بأوصافك يمُدك بأوصافه، تحقَّق بذُلك يمُدك بِعِزه، تحقَّق بعجزك يمُدك بقدرتك، تحقَّق بضعفك يمُدك بحوله وقوته “

 فإذا انسلختَ من شهر رمضان وقد أقبلتَ فيه صادقاً على مولاك عدتَ لفطرتك الطيبة النقية التي تعرف نفسها بالافتقار في كل لحظة للخالق جل في علاه.

وأختم هنا بأبيات لأبي العتاهية:

خانك الطرف الطموح    أيها القلب الجموحُ

لدواعي الخير والشر      دُنوٌ ونزوحُ

هل لمطلوبٍ بذنبٍ     توبةٌ منه نصوحُ

كيف إصلاح قلوبٍ    إنما هنَّ قروحُ

أحسن الله بنا      أنَّ الخطايا لا تفوحُ

فإذا المستور منا    بين ثوبيه فضوحُ

كم رأينا من عزيزٍ    طُويت عنه الكشوحُ

صاح منه برحيلٍ   صائح الدهر الصدوحُ

سيصير المرء يوماً   جسداً ما فيه روحُ

بين عيني كل حي   علم الموت ينوحُ

نح على نفسك يا  مسكين إن كنت تنوحُ

لست بالباقي لو   عمرتَ ما عمر نوحُ

الصيام والمواساة

  إنًّ عالمنا المعاصر عاكف على نفسه مشغول بهمومه متشوف في غده لمتعٍ جديدةٍ. قد استغنى كثيرٌ من الناس بأنفسهم عن غيرهم وتوارى الاهتمام بضعفاء الناس خلف حُجُب كثيفة.

إلى متى يبقى العالم في هذا الشرود والصدود؟ ومن للضعفة ومن ألمَّت به الأوجاع وخيَّمت على قلبه الأحزان؟

ويأبي الله تعالى الرحمن الرحيم إلا أن يجعل للعبادات في الإسلام أبعاداً خيريةً إنسانيةً، وبقدر احتراق العبد في محاريب العبادات بقدر ما يقطر قلبه رقَّة للفقراء والمساكين، ويده نداوةً للمحتاجين وأخلاقه ليناً وسِعة لكل عباد الله.

لهذا رغب الإسلام في الصدقة بوجه عام وفي شهر رمضان بوجه خاص، وفرض كذلك صدقة الفطر.

 ويأتي شهر رمضان ليذكرنا بأن هناك من لا يجد قوتاً ولا يملك من متاع الحياة شيئاً، روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ” كان رسول الله ﷺ أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيُدارسه القرآن، فَلَرسول الله ﷺ أجودُ بالخير من الريح المُرسَلة”.

 وتتدفق أيدي المؤمنين بالخير حتى بعض عُصاة المسلمين يبادرون في تفطير الصائمين حول العالم، وترى كثيراً من المسلمين حول العالم يسارعون في الإطعام وإخراج الصدقات في وجوه الخير.

 شهر رمضان شهر المواساة والإحساس بمن سيقضي شهر رمضان وحيداً لا أنيس له، غريباً لا صديق له، شريداً لا مأوى له، حزيناً يحتاج إلى من يخفف ألمه ويذهب وحشته ويواسيه في محنته.

بقلم الشيخ: طه عامر

Posted on Leave a comment

مختارات نبوية | فقه التعامل مع الإساءة للمقدس

مختارات نبوية | فقه التعامل مع الإساءة للمقدس

عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال: كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَكْرَهُ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكِي قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ فَتَأْبَى عَلَيَّ فَدَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا بِدَعْوَةِ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا جِئْتُ فَصِرْتُ إِلَى الْبَابِ فَإِذَا هُوَ مُجَافٌ فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ فَقَالَتْ مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ قَالَ فَاغْتَسَلَتْ وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا فَفَتَحَتْ الْبَابَ ثُمَّ قَالَتْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ قَالَ فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا أَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْشِرْ قَدْ اسْتَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَكَ وَهَدَى أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ خَيْرًا قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيْنَا قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَحَبِّبْ إِلَيْهِمْ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا خُلِقَ مُؤْمِنٌ يَسْمَعُ بِي وَلَا يَرَانِي إِلَّا أَحَبَّنِي. صحيح مسلم

مفردات الحديث 

 فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا: مَسْرُورًا مُنْشَرِحًا.

 مُجَافٍ: أَيْ مَرْدُودٌ. 

خَشْفَ قَدَمَيَّ: صَوْتَهُمَا، وَقِيلَ: حَرَكَتَهُمَا وَحِسَّهُمَا 

خَضْخَضَةَ الْمَاءِ: أَيْ تَحْرِيكَهُ، وَقِيلَ: صَوْتُهُ

 لَبِسَتْ دِرْعَهَا: أَيْ قَمِيصَهَا 

وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا أَيْ: تَرَكَتْ خِمَارَهَا مِنَ الْعَجَلَةِ

المعنى العام للحديث

هذا الحديث أصل في فقه الدعوة إلى الله والتعريف بالإسلام وأفضل السبل للتعامل مع الإساءة للمقدس، والمسلمون في الغرب اليوم هم أحوج الناس إلى مدارسة هذا الحديث والعمل بفقهه ورسائله؛ لكثرة وتعدد صورة الإساءة لمقدساتهم ونبيهم، فسيدنا أبو هريرة رضي الله عنه توجه بدعوة أمه إلى الإسلام فأسمعته في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكره لعلمها بحبه له فكان يبكي لفعل أمه وفرط حبه لنبيه، فلم يرد على إساءتها بإساءة وإنما طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها فدعا لها فأجاب الله دعاءه، وأسلمت فور دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لها فطلب أبو هريرة من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ولأمه أن يحببهم في عباده الصالحين فدعا له فما سمع به مسلم إلا وأحبه. 

والحديث أصلٌ في عدم جواز الاعتداء على ساب النبي صلى الله عليه وسلم أو قتله؛ إذ لو صح لأمر النبي أبا هريرة به أو لفعله أبو هريرة ابتداءً، وأصرح في الدلالة عليه حديث سلمة بن الأكوع قال: فَلَمَّا اصْطَلَحْنَا نَحْنُ وَأَهْلُ مَكَّةَ، وَاخْتَلَطَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ، أَتَيْتُ شَجَرَةً فَكَسَحْتُ شَوْكَهَا فَاضْطَجَعْتُ فِي أَصْلِهَا، قَالَ: فَأَتَانِي أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَجَعَلُوا يَقَعُونَ فِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَبْغَضْتُهُمْ، فَتَحَوَّلْتُ إِلَى شَجَرَةٍ أُخْرَى، وَعَلَّقُوا سِلَاحَهُمْ وَاضْطَجَعُوا، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ نَادَى مُنَادٍ مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي، يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، قُتِلَ ابْنُ زُنَيْمٍ، قَالَ: فَاخْتَرَطْتُ سَيْفِي، ثُمَّ شَدَدْتُ عَلَى أُولَئِكَ الْأَرْبَعَةِ وَهُمْ رُقُودٌ، فَأَخَذْتُ سِلَاحَهُمْ، فَجَعَلْتُهُ ضِغْثًا فِي يَدِي، قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ، وَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ، لَا يَرْفَعُ أَحَدٌ مِنْكُمْ رَأْسَهُ إِلَّا ضَرَبْتُ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاهُ، قَالَ: ثُمَّ جِئْتُ بِهِمْ أَسُوقُهُمْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَجَاءَ عَمِّي عَامِرٌ بِرَجُلٍ مِنَ الْعَبَلَاتِ، يُقَالُ لَهُ: مِكْرَزٌ يَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَرَسٍ، مُجَفَّفٍ فِي سَبْعِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «دَعُوهُمْ، يَكُنْ لَهُمْ بَدْءُ الْفُجُورِ، وَثِنَاهُ»، فَعَفَا عَنْهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْزَلَ اللهُ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24] الْآيَةَ كُلَّهَا. صحيح مسلم (3/ 1434) 

فلو كانت عقوبة ساب النبي صلى الله عليه وسلم هي القتل لقتلهم سلمة ولم يذهب بهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ولما عفا النبي صلى الله عليه وسلم عنهم؛ لأن الحد لا يسقط إذا بلغ الحاكم لقوله صلى الله عليه وسلم: “تَعافُوا الحُدُودَ فِيما بَينَكمْ، فمَا بَلغَنِى من حَدٍ فقدْ وجَبَ”

رسائل الحديث

  1. أولى الناس بالدعوة إلى الإسلام والحرص على هدايتهم هم الأقربون وفي مقدمتهم الأم؛ لذا حرص أبو هريرة على دعوة أمه وتحبيبها في الإسلام. 
  2. وجوب استمرار الأبناء في البر بوالديهم بعد إسلامهم وإن بقوا على الكفر، فأبو هريرة لم ينقطع عن أمه بعد إسلامه ولم يعاديها رغم سبَّها لأحب الناس إليه. 
  3. للدعاء أبلغ الأثر في الهداية وتقليب القلوب على ما يحبه الله، فلنكثر من الدعاء لأولادنا ليثبتوا على الإسلام، ولنكثر من الدعاء لمن ندعوهم للإسلام من غير المسلمين. 
  4. مشروعية طلب الدعاء من الصالحين فلم يكتف أبو هريرة بدعائه هو وإنما طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم. 
  5. من فقه التعامل مع الإساءة للمقدس تجاهل الإساءة ومقابلتها بالإحسان ورجاء الهداية للمسيء، وعدم توسيع نشر وإذاعة إساءته فلعله يهتدي يوما ما؛ قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112]، وقال: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل: 10]
  6. من فقه التعامل مع الإساءة للمقدس عدم سب أو إيذاء أو قتل المسيء، فلم يفعل شيئا من ذلك أبو هريرة وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على فعله واستجاب لطلبه داعياً لأمه. 
  7. على المسلمين في الغرب أن يتحلوا بأعلى درجات الرفق والحكمة والرحمة بمن يتعرض لمقدساتهم بالإساءة وأن يأخذوا على أيدي إخوانهم من المسلمين حول العالم في توجيه وترشيد غضبهم وغيرتهم لنبيهم إذا أسيء إليه ودراسة أي سلوك أو توجه في الرد على الإساءة حتى لا تأتي بعكس مرادهم. 
  8. لا تستبعد الهداية والاستقامة على أحد مهما اشتدت عداوته للإسلام ونبيه فقد يصبح الرجل كافراً ويمسي مؤمنا، فبين إسلام أم أبي هريرة وكفرها لحظات ودعوات، وقد رأينا هذا في عدد من المسيئين للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسم كيف اهتدوا وأسلموا وحسن إسلامهم وبكوا حبا وندما على ما كان منهم تجاه نبيهم قبل إسلامهم.  
  9. اغتسال أم أبي هريرة قبل إسلامها لا يدل على وجوب الاغتسال للكافر قبل إسلامه كما هو رأى الجمهور، والذي نرجحه أن يسلم الكافر مباشرة دون غسل وأنه مستحب لا واجب كما هو رأي أبي حنيفة، وهو الأنسب للتيسير على الداخل في الإسلام ولقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]
  10.  فضل أبي هريرة رضي الله عنه ومكانته في قلوب المسلمين، فقد استجاب الله دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة وأمه، فأحبه كل من سمع به، وهو صاحب فضل في نقل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا، وقد قيَّض الله له من يدافع عنه ضد أي افتراء عليه بتصنيف المصنفات والكتب. 

بقلم الدكتور: خالد حنفي

Posted on Leave a comment

شهر رمضان وتعظيم الحرمات

شهر رمضان وتعظيم الحرمات

ذكر الإمام ابن القيم في تفسير هذا الآية:

ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ۗ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ۖ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)

قال جماعة من المفسرين: حرمات الله ها هنا مغاضبه، وما نهى عنه، و” تعظيمها” ترك ملابستها.

قال الليث: حرمات الله ما لا يحل انتهاكها. وقال قوم: الحرمات هي: الأمر والنهي. وقال الزجاج: الحرمة ما وجب القيام به، وحرم التفريط فيه. وقال قوم: الحرمات ها هنا المناسك، ومشاعر الحج زماناً ومكاناً.

والصواب: أن الحرمات تعم هذا كله.

وهي جمع حرمة. وهي ما يجب احترامه وحفظه من الحقوق والأشخاص والأزمنة والأماكن.

فتعظيمها: توفيتها حقها، وحفظها من الإضاعة، والخروج من حرج المخالفة وجسارة الإقدام عليها، بتعظيم الأمر والنهي، خوفاً من العقوبة، وطلباً للمثوبة.

تهذيب مدارج السالكين/ عبد المنعم صالح الغزي ص 286

  إن نعيش زماناً يُغرق أهلَه بالغفلة، ويغريهم بتجاوز حدود الله، ويوقعهم في مقارفة الإثم، إلا من رحم الله.

ورحم الله شيخنا محمد الغزالي، كان يقول: “ما كان قاصراً على الملوك أصبح ميسوراً لكل صعلوك”.

وللشيطان على المرء مسالك ومداخل، فإن وجده مستعصياً أبيَّاً على الكبائر أغراه بالصغائر وزينها له وهون منها في نظره، كما في رواية أنس بن مالك رضى الله عنه:

 إنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أعْمالًا، هي أدَقُّ في أعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إنْ كُنَّا لَنَعُدُّها علَى عَهْدِ النَّبيِّ ﷺ مِنَ المُوبِقاتِ.

رواه البخاري.

بل إن التوسع في المباحات أضعف من همة الناس في الطاعات والإقبال على العبادات.

فنحن بحاجة أن نعظم حرمات الله تعالى في القلوب وهذا هو السائق لاهتبال نفحات أيام الله ومجانبة السوء.

لذلك قال تعالى:” ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) سورة الحج.

فالقلب هنا هو المحور في شأن تعظيم الأمر والنهي.

وشهر رمضان يعلمنا ويدربنا على تعظيم الحرمات من خلال جملة من الأمور، منها: 

– تترقب الأمة كلها قدوم الشهر الكريم في أنحاء العالم الإسلامي عبر العصور، عبر مؤسساتها الدينية والشعبية.

– الاحتفال والاحتفاء بقدوم شهر رمضان بكل مظاهره سِيمَّا في البلاد الإسلامية.

وما أحوج المسلمين في الغرب أن يبدعوا في وسائل الاحتفال والابتهاج بهذا الشهر العظيم حتى تتعلق الأجيال قلبياً بشهر رمضان.

 – ترقب ساعة الإفطار، واحتياط المسلم في وقت الإفطار، وقد نجد من يقول لأخيه باقي دقيقة على الإفطار.

كذلك يمتنع ويحذر المسلم قبيل الفجر عن المفطرات. وبعضهم يمسك قبل الوقت بخمس عشرة دقيقة أو أقل أو أكثر

– إذا أتى رمضان وجدنا كثيراً ممن لا يصلون سائر العام يهدى الله قلوبهم للانتظام في المساجد.

 وهذه الظاهرة لا يفسرها سبب واحد فقط، إلا أنَّ من أهم عواملها تعظيم حرمة الشهر الكريم في نفوس المسلمين.

 ويقذف الله في قلوبهم محبة العودة إليه والوقوف بين يديه والتماس الرحمات والتعرض في شهر رمضان للنفحات.

ولا شك أن الحالة الإيمانية الجماعية تلعب دوراً كبيراً في الالتزام بالطاعات وتعظيمها.

– تعظيم الحسنة ومضاعفتها وتعظيم الذنب ومضاعفته بحسب شرف الزمان والمكان.

 فالحسنة مضاعفة في المسجد الحرام، وكذلك السيئة كما نص على ذلك العلماء ومنهم الإمام العز في قواعد الأحكام.

لهذا يحترس كثير من الصائمين من الوقوع في المعاصي حتى لا يكون حظهم من الصوم الجوع والعطش كما جاء في الحديث، وما ذلك إلا تعظيما للشهر الكريم.

– كثرة أسئلة المسلمين عن فقه الصيام، وتتكرر الأسئلة كل عام حول سنن الصيام وآدابه ومفطراته إلخ، ويعكس ذلك تعظيم المسلمين للعبادة وحرصهم على صحتها.

– يتسابق كثير من الأطفال في الصيام رغم مشقته عليهم، ونحن ندعو إلى نهج الصحابة الكرام الذين كانوا يأخذون بأيدي أولادهم للطاعات بالترغيب وتزيين العبادات إلى قلوبهم وعقولهم.

– الصيام عبادة سرية فريدة بين العبادات، ولا يمنع المسلم من الإفطار إلا تعظيمه لله تعالى وأنه مطلع عليه وناظر إليه.

وتلك هي التقوى التي يقصدها الصوم. {لعلكم تتقون}.

بقلم الشيخ: طه عامر

Posted on Leave a comment

في ذكرى فتح مكة عِبَرٌ دانية

ماذا يعني أن يُنزل الله سبحانه في واقعة الحديبية سورة من المفصّل. ويسمّيها سورة الفتح. في حين أنّه اختصر فتح مكّة – الذي وقع بعد ذلك بعامين – في سورة من القصار. وهي سورة النّصر؟ وهل يسبق الفتح النّصر؟ ومعلوم أنّ مكّة فتحت في العشرين من رمضان. ولكن هل كان الفتح مقصودا؟

الحقّ أنّ مكّة فتحت بالقوّة (بتعبير الفلاسفة) يوم وقّعت قريش على مصالحة مثيرة للجدل بين الصّحابة أنفسهم. إذ عدّوها دنيّة في الدّين بتعبير الفاروق عمر عليه الرّضوان وإيّاهم جميعا. بل فتحت مكّة يوم أخفق حصار قريش وغطفان للمدينة – وبعد زهاء شهرين كاملين – من اجتياز الخندق. لم يكن خندقا غائرا في الأرض تهابه خيولهم فحسب. بل كان خندقا ظاهره نيران الخيبة تؤجَّج في صدور الغزاة وباطنه رمز لصفّ إسلاميّ واحد معبّإ بالأمل. كان الخندق مقبرة جماعية لمكوّنات الجبهة العربية التي سمّاها القرآن (الأحزاب). كان خاتمة ملحمة ثأرية فاشلة بدأت بواقعة بدر وثنّت بواقعة أحد. وممّا يسّر عليه (عليه السّلام) تغيير عنوان المقاومة (من التّحصين الدّاخليّ إلى ملامسة تخوم الشّاهد الدّوليّ) انهيار مكوّنات الجبهة الإسرائيلية وبالسّرعة ذاتها التي انهارت بها الجبهة العربية (من بني قينقاع حتّى خيبر مرورا ببني النّضير وبني قريظة وبني المصطلق). ولم يكن الخيط النّاظم لانهيار الجبهة الإسرائيلية في غضون سنوات خمس فحسب سوى عنوان الخيانة لدستور المدينة الذي اعترف بوجودهم ومنحهم حقّ الحياة ضمن نظام إداريّ يحلو لي أن أخلع عليه الصّفة الفدرالية التي تتيح للأقلّيات أكثر الحرّيات في إدارة شؤونها الداخلية. كانت واقعة الخندق إذن تأشيرة عبور إلى المناطق المجاورة فكانت (الحديبية) محطّة أولى على درب ذلك العبور. ولم تكن (الحديبية) إلاّ محطّة سياسية أولى مع الجبهة العربية. وكانت حصيلتها الكبرى: تمزّق تلك الجبهة لأوّل مرّة. إذ التحقت قبيلة عربية مشركة مهمّة بمعسكر الإسلام تحالفا عسكريا وسياسيا (قبيلة خزاعة التي ستكون هي السّبب المباشر لفتح مكّة). وهو أوّل متغيّر سياسيّ عسكريّ في العلاقة بين الوجود الإسلاميّ والجبهة العربية. وهو ثمرة من ثمرات الفشل المدوّي لتلك الجبهة في غارة الخندق. لا يعنيني كثيرا إن كانت إدارة ملفّ الحديبية وحيا يوحى أم تدبيرات نبوية. والرّأي عندي أنّه تدبيرات نبوية تربّعت على عرش الذّكاء السّياسيّ الوقّاد من عقل نبيّ لم تبخل عنه الجبهة العربية نفسها بعنوان الصّدق والأمانة طيلة أربعة عقود. فكيف وقد تقلّد بعد ذلك وسام النّبوّة؟ لماذا نبخل عنه بأنّه قائد عسكريّ سياسيّ من طينة لا عهد للبشرية بها؟ وثيقة الحديبية وحدها كافية وزيادة شهادة على ذلك. وفي إثر ذلك التّدبير الموغل في الرّجحان والحصافة نزل الوحي وهو يخلع عليه عنوان الفتح المبين. أيّ فتح والمسلمون أعيدوا من حيث جاؤوا ولم يكحّل المهاجرون منهم أعينهم بأطلال مهدهم؟ أيّ فتح والقارئ المتعجّل لوثيقة المصالحة يرى دنيّة ظاهرة؟ أليس عليه (عليه السّلام) ألاّ يحول دون مرتدّ عنه إلى قريش؟ أليس عليه ألاّ يستقبل مؤمنا جديدا فارّا إليه من فتنة قريش؟ لا أستطيع خلاصة من ذلك إلاّ أن أضيف إلى علمي لبنة جديدة عزيزة محكمة هي: كلّ علم شرعيّ لا يرتقي إلى موقف شرعيّ استقراء لموازين العمران والاجتماع من مصالح ومفاسد هو علم فاسد لا ينفع بل يضرّ. فساد العلم معناه فساد منهاج صاحبه في توظيفه وتصريفه. بتعبيرنا المعاصر: فتحت مكّة بالقوّة يوم أحسن (عليه السّلام) قراءة المشهد الدّوليّ النّافذ. فعلّمنا أنّ الفتح الذي يعقبه النّصر إنّما هو فتح حقوق الانتماء والولاء في وجه كلّ إنسان دون خوف من أيّ إكراه. ثمّ يتنزّل الوحي ليعلّمنا أنّ الفتح في القاموس الإسلاميّ يعني هدم حواجز الخوف واندياح الحرّيات وفق قوله سبحانه (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). وأنّ الفتح هو فتح طريق الحوار. وأنّ كلّ فتح بهذا المعنى معقوب بنصر فوق الأرض. لذلك توسّع الوحي في ثقافة الفتح وفقه الحوار في سورة الفتح ولم يفعل مثل ذلك في النّصر. لأنّ النّصر ثمرة لفتح. السؤال المعاصر المحرج هو : أنّى لنا بنصر ونحن غير واعين بضرورة فتح سابق له؟ خلاصة إذن: فتحت مكّة بالقوّة يوم الأحزاب أوّلا ثمّ يوم الحديبية ثانيا.

بخزاعة فتحت مكّة:

خزاعة التي أحسنت قراءة التّوازنات الدولية في الحديبية وانتمت سياسيا وعسكريا إلى أمّة الإسلام (في فارقة مغامرة غير معهودة ولكنّها محسوبة) كانت هي السّبب المباشر في فتح مكّة. إذ استنجدت بحليفها محمّد (عليه السّلام) لمّا تعرّضت لعدوان أحمق من قريش. وكذلك ترتّب أقدار الله الغلاّبة الماضية تدبيراتها: يُسدّد (عليه السّلام) في إدارة مرحلة مدنية ملغومة من كلّ الجوانب والجهات تسديدا عسكريا وسياسيا. وتتراكم حماقات قريش لتكون في نهاية المطاف عدوانا على حليف لمن وقّعت معه قبيل شهور فحسب مصالحة لعشر سنوات كاملات. وتكون الفرصة مواتية لتأديب قريش التي أثخنتها الحروب الفاشلة. وكان فتح مكّة باستسلام جامع من قريش التي تقود الأمّة العربية. لا أجد عبرة أعظم من هذه (ومن يتّق الله يجعل له مخرجا). هو قانون مطّرد لا يتخلّف. ومن التّقوى الاستقامة للعهود ورعاية المواثيق. ويتحقّق وعده سبحانه إيّاه في الرّؤيا ويدخل المسجد الحرام آمنا. ولو دخله في الحديبية ولمّا يتزيّل المؤمن عن المشرك لكانت فتنة. هي تدبيرات قدرية وترتيبات من الذي يعلم سبحانه. ولكلّ أمر أوانه الأنسب لولا الاستعجال البشريّ. فتحت مكّة بداية بتقهقر الجبهة العربية وبإدارة نبوية حسنة للحديبية ثمّ بوفائه لعهده مع قبيلة مشركة هي خزاعة. وبحماقة قرشية سرعان ما انهارت بها الهدنة من سنين عشر إلى عامين فحسب.

خلاصة :

ما توسّع الوحي في كلّ ذلك عدا ليكون لنا نحن اليوم من ذلك منهاج قوامه أنّ فتح قنوات الحوار أسبق من النّصر. وأنّ الفتح عند الله أعظم من النّصر. الفتح يدوم والنّصر قد يتعرّض إلى عواصف. منهاج قوامه أنّه علينا تقوى الله تقوى سياسية وعسكرية. إذ لم يتردّد الوحي نفسه في التّصريح بأنّ رعاية قوانين السياسة تقوى (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إنّ الله يحبّ المتقين). أمّا تقوى الله خلاصا فرديا فحسب بلزوم العبادات وشعائرها وبعض شؤون الأسرة فهي تقوى مغشوشة. منهاج قوامه حسن قراءة المشهد الدّوليّ وحسن تقدير مكوّناته قوّة وضعفا. منهاج قوامه أنّه عندما تكون أرصدة الإسلام في ارتفاع فإنّه علينا تضييق مساحات (الجهاد الفرضويّ) الذي يحمل سمّه النّاقع في دسمه المغري. وتوسيع دوائر التّحرّر والانعتاق والحوار والتّعريف بالإسلام. لا بفرقه ومذاهبه وتيّاراته. منهاج قوامه أنّه لا فتح ولا نصر قبل أن يعود صفّنا الإسلاميّ صفّا واحدا حتّى وهو متنوّع كلّ التنوّع. إرادة ربانية. وليس شغبا منّا. منهاج قوامه فقه سياسيّ معياره المصلحة والمفسدة وليس الحلال والحرام (تحالفه عليه السّلام مع خزاعة لتمزيق الجبهة العربية هو مثال واحد من أمثلة كثيرة). منهاج قوامه الاطمئنان العقديّ على ما نكره. والإيمان كلّ الإيمان بأنّه سبحانه يعلم ونحن لا نعلم. وأنّه لن يطلعنا على الغيب. وأنّه لا فتح ولا نصر حتّى نفتح قلوبنا وعقولنا معا (أجل. معا) للوحي فهما. وليس تباريا في حسن الصّوت فحسب. وحتّى نفتح صدورنا لبعضنا بعضنا حوارا عاقبته ليست إلغاء المختلفات بل شدّ الصفّ ونسج عرى التّآخي. ولولا ذلك المنهاج الذي يحقّق لنا فتحا ثمّ نصرا بإذنه سبحانه ما كان الوحي ليسجّل الحديبية وقبلها الأحزاب ويتوسّع فيهما. ولم يكن ذلك مطلقا لإحسان التّلاوة تعاويذ تقشعرّ منها الجلود والقلوب لاهية عن معانيها والعقول غافلة عن رسالتها. بكلمة واحدة لا ثاني لها: لا فتح ولا نصر حتّى نقرأ القرآن لأجل معالجة تحدياتنا نحن وعلى رأسها المقاومة لتحرير القدس السّليب. ولا فتح ولا نصر حتّى نستنير بالمنهاج النّبويّ في إدارة المعركة مع الجبهة العربية والإسرائيلية والرومية وجبهة النّفاق. مكّتنا المعاصرة التي علينا عبء تحريرها وفتحها هي شقيقة مكّة التي فتحها عليه السّلام. هما شقيقتان صنويان: شقّة في الحرمة وكلاهما محرّم. وشقّة في العبادة وكلاهما مثابة عبادة (تلك بمائة ألف صلاة وهذه بخمسمائة صلاة). أمّا الدّموع التي تذرف حول الكعبة البيت الحرام ولا تتمعّر وجوهها وهي ترى الصّلف الصهيونيّ والنّفاق العربيّ فهي دموع قُدّت من التّماسيح. القدس آية من آيات الكتاب ومن ضيّعها فقد ضيّع الكتاب. كذلك قال أحد المصلحين قبل عقود.

بقلم الشيخ: الهادي بريك

Posted on Leave a comment

توجيهات وضوابط في نصرة القدس والمسجد الأقصى ضد العدوان الصهيوني

الحمد لله ولي المتقين وناصر المستضعفين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين. 

تتوالى عمليات استهداف الأقصى وتهويد بيت المقدس من قبل قطعان المستوطنين والعصابات الصهيونية، عبر إذلال المقدسيين واغتصاب أرضهم وهدم منازلهم والاستيلاء على أملاكهم. إضافة إلى استهداف المسجد الأقصى مباشرة عبر الحفر تحته وتهوين أساساته والاقتطاع منه ومن أوقافه سرا وعلانية.

وإن كان هذا العدوان على أهلنا ومقدساتنا في بيت المقدس سياسة قارة دائمة من قبل الكيان الصهيوني فإنه يزداد بطشا وصلفا في أشهر رمضان المبارك، حيث تغيضهم حشود القائمين المرابطين الذي باهى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:

“لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله. وهم كذلك”، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: “ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس” ( رواه أحمد والطبراني، وقال الهيثمي في المجمع ورجاله ثقات ).

وأمام ما تشهده ساحات المسجد الأقصى هذه الأيام من عدوان سافر على المصلين والمعتكفين من قبل جنود ومستوطني الكيان الصهيوني، من غير اعتبار لأي حرمة إنسانية أو قداسة دينية، فإن المجلس الأوروبي للأئمة يدعو الأئمة والدعاة  وخطباء المنابر إلى أن لا يألوا جهدا في التعريف بقضية المسجد الأقصى وبيت المقدس ومعاناة المسلمين الفلسطينيين المهددين في أنفسهم وبيوتهم ورزقهم ومساجدهم ومقدساتهم، وحث المسلمين على تقديم الدعم المالي والإعلامي والتضرع في هذه الأيام الرمضانية المباركة أن يحفظهم الله ويكف عنهم كيد الكائدين.  

كما يتقدم المجلس الأوربي للأئمة بالشكر والامتنان لكل من يساهم في حملة التضامن الأوروبية مع أهلنا في فلسطين، للتنديد بالمجازر الصهيونية والانتهاكات العنصرية التي تمارسها القوات الإسرائيلية وقطعان المستوطنين على أرواح الفلسطينيين ومقدساتهم وممتلكاتهم، وبخاصة التطهير العرقي في مدينة القدس وتدنيس المسجد الأقصى الشريف والعدوان الغاشم على غزة وأهلها.

ومما يبشر في جهود الدعم هذه:

  • تنوع المناشط والفعاليات الرافضة للعدوان وتوسعها.
  • مشاركة كثير من الأوربيين في هذه الفعاليات.
  • انخراط الشباب المسلم في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية.    
  • تزعزع التوجه الرسمي الأوروبي التقليدي المؤيد للكيان الصهيوني، وتعرضه إلى إرباكات عديدة على المستوى الإعلامي والمؤسساتي.
  • بروز أصوات منصفة في الدوائر الأوربية الرسمية، تدعو إلى التوازن ومراعاة الحقوق الفلسطينية.  

والمجلس الأوربي للأئمة، إذ يبارك كل هذه التحركات، فإنه يذكر أعضاءه وكل مناصري العدالة والحرية، بالمسائل التالية:

توجيهات عامة:

أولاً؛ الاستمرار في دعم القضية الفلسطينية واعتماد آليات ثابتة في التعريف بحقوق الشعب الفلسطيني وفضح الممارسات العنصرية الصهيونية.  

ثانياً؛ اعتماد البناء المؤسساتي لخدمة القضية الفلسطينية، عبر إنشاء جمعيات قانونية في مجالات الإغاثة والإعلام وحقوق الإنسان.

ثالثاً؛ توفير المواد الإعلامية والدراسات العلمية المتعلقة بأبعاد القضية الفلسطينية وحقوق شعبها باللغات الأوربية.

رابعاً؛ الحرص على استقطاب مؤسسات المجتمع المدني الأوروبي، المتعاطفة مع القضية الفلسطينية للمشاركة في الفعاليات التضامنية.

رابعاً؛ تأهيل الشباب وتشجيعهم على حمل راية الدفاع عن الحقوق الإنسانية عامة والحقوق الفلسطينية خاصة.

خامساً؛ تكثيف التواصل مع السياسيين والإعلاميين والشخصيات المؤثرة على الساحة الأوربية، لتبيين الحقائق وحثهم على اتخاذ مواقف منصفة.

سادساً؛ تشجيع المسلمين على المشاركة في الحياة السياسية والحقوقية الأوربية لمواجهة تأثير الدوائر الصهيونية، والانحياز الرسمي لدولة إسرائيل.  

ضوابط عامة

  1. حصر الاحتجاجات في الانتهاكات والتجاوزات الإسرائيلية على أرض فلسطين، وعدم استهداف أي فئة أو طائفة خارج هذا الإطار.
  2. تجنب أي شكل من أشكال العنف اللفظي أو العملي، أو تعطيلٍ لمصالح الناس، وعدم الانجرار وراء أي استفزاز.
  3. احترام قوانين البلاد ومراعاة التراتيب والإجراءات المعمول بها، سواءً في تنظيم الاحتجاجات أو جمع التبرعات أو أي نشاط آخر.
  4. تجنب كل ما يثير الرأي العام المحلي، ويصادم ثقافته بأي قول أو عمل أو شعار، والحرص على استعمال اللغة الرسمية في التحركات والدعايات.    
  5. عدم المبالغة في استعمال الشعارات الدينية في التحركات العامة، لأنها قد تؤدي إلى نتيجة عكسية، والتركيز على البعد القانوني الحقوقي الإنساني لقضية فلسطين.
  6. التأكيد على أن المظاهرات والاحتجاجات مجرد وسيلة للتعبير عن الرأي والتعريف بالقضية، ويجب التحلي بالفطنة والشجاعة لتجنب أو إلغاء أي منشط قد يحيد عن هذا الهدف.
  7. تجنب الانفعالات العاطفية وتحري الدقة والموضوعية في عرض القضية، واعتماد الوسائل والمناهج المستساغة في البيئة الأوروبية.

كلمة إلى إخواننا الأئمة

لا يخفى ما للأئمة من دور محوري في خدمة قضايا الأمة ونصرة المستضعفين ودعم قضايا التحرر، حيث تتطلع إليهم أنظار المسلمين في كل مكان طلبا للريادة والتوجيه.

لذلك ننبه إخواننا الأئمة إلى النقاط التالية:

  • تخصيص خطبة الجمعة والدروس في هذه الفترة لبيان الأبعاد الدينية الإسلامية للقضية الفلسطينية والمسجد الأقصى، وحث المسلمين على نصرتها ودعمها، وبيان الضوابط والمحاذير المتعلقة بذلك.
  • تذكير المسلمين بأهمية الصدقات للفلسطينيين والدعاء لهم بأن يخفف الله عنهم وينصرهم ويجعل لهم فرجاً ومخرجاً
  • قنوت النوازل في الصلوات.
  • مد جسور التواصل مع الهيئات الدينية المحلية – إن أمكن – لاتخاذ موقف مشترك ضد العدوان الإسرائيلي.

أخيراً

قد يتوقف العدوان قريباً، ولكن الاحتلال الإسرائيلي للأقصى والأراضي الفلسطينية، والحصار اللاإنساني على شعب غزة منذ سبعة عشر عاماً لن يزول، لذلك نهيب بأصحاب النفوس الأبية والضمائر الحرة أن يبقوا قضية الشعب الفلسطيني المظلوم حية في نفوسهم، وأن يعملوا لها بمنهج ثابت وسعي دائم.

وذلك واجب فرضه علينا الإسلام في نصرة المستضعفين ورد الظالمين عموما، فما بالك إذا كان الأمر متعلقاً بمسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولى القبلتين وثاني الحرمين.

ندعو الله تعالى أن ينصر عباده الصالحين ويرفع الظلم عن المظلومين وأن يجعل لأهل فلسطين فرجا ومخرجاً. إنه قريب سميع مجيب الدعاء

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.   

المجلس الأوروبي للأئمة

Posted on

القدس والمسجد الأقصى | خطبة جمعة

الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله وعلي آله وصحبه ومن والاه.

القدس في القرأن

 القدس أرض مباركة نص القرآن على بركتها في عدد من المواضع منها:

بسم الله الرحمن الرحيم

{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ..}

{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}

{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}

القدس في الحديث النبوي الشريف

وردت أحاديث كثيرة في بيان فضل القدس ومكانتها وواجب الحفاظ عليها، منها:

القدس في التاريخ وشبهة اختصاص اليهود بها

عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله. أيُّ مسجدٍ وُضِعَ في الأرضِ أوَّل؟ قال: (المسجدُ الحرَام)، قلت: ثم أي؟ قال: (المسْجِد الأقْصَى)، قلت: كَمْ بينهما؟ قال: (أربعُونَ سنة) متفق عليه.

يتبين من هذا الحديث الصحيح، أن بين بناء البيت الحرام والمسجد الأقصى أربعين عاماً، ومن المعلوم أن بين إبراهيم عليه السلام مجدد بناء الكعبة بعد بناء آدم الأول- وبين سليمان عليه السلام ما يقارب الألف عام؛ مما يؤكد قطعاً أن المسجد الأقصى بُنِي قبل سليمان بمئات السنين.

وإنما كان لسليمان عليه السلام شرف إعادة البناء والتجديد الثاني؛ كما فعل ذلك أولياء الله من أنبيائه بمساجد الله ومواضع عبادته، وكما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من خلفاء الإسلام.

ومن المقرر في القرآن أن دينَ الأنبياء واحد، وإن اختلفت تفاصيل الشريعة؛ فكلهم دعوا إلى الإسلام والتوحيد، وإلى إفراد الله – تعالى – بالعبادة، وطاعته في شرعه وأحكامه.

وهذه الأحكام تتنوع من أمةٍ إلى أمة ومن رسولٍ إلى رسول؛ لذا فإن كلَّ نبيٍّ يرثُ أرضَ الله بكلمته ورسالته؛ فهذا إبراهيمُ ولوطٌ – عليهما السلام -، وهما قبل يعقوب وإسحاق وسليمان؛ يقول الله عنهما: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء:71) قال الحسن: (هي الشام).

وهكذا تبقى فلسطين – والمسجد الأقصى خاصة – مآلها لعباد الله المؤمنين؛ من قبل أن يولد يعقوبُ (الذي هو إسرائيل) وأبوه إسحاقُ بن إبراهيم. ثم إنه بعد مئات من السنين أنجا الله – تعالى – بني إسرائيل من ظلم فرعونِ مصر، وهاجر بهم موسى – عليه السلام – من مصر إلى سيناء.

وأمرهم بدخول الأرض المقدسة لكنهم أبوا وقالوا: ﴿ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24]، ولم يُجِبْ موسى منهم إلا رجلان فقط، وكتب الله – تعالى – عليهم التِيه في الأرض أربعين عاما؛ توفي فيها موسى -عليه السلام-؛ حتى خرج جيلٌ آخر أكثر صدقاً من آبائهم؛ فدخلوا الأرض المقدسة ضيوفاً على أهلها، وليسوا فاتحين: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 58]، قال قتادة: القرية هي بيت المقدس.

وكتب الله عليهم الإخراج إذا أفسدوا في الأرض وطغوا؛ فكان ما كتبه الله، إذ أفسدوا وطغوا؛ فأُخرِجُوا وتشرذموا في الأرض بعد ثلاثة قرون فقط.

ثم إنه بعد سنين؛ أورث الله الأرض المؤمنين أتباعَ عيسى عليه السلام؛ لأن الأرض لله يورثها من يشاء؛ فكما كانت للمؤمنين قبل بني إسرائيل؛ فقد كانت للمؤمنين بعدهم: ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ [الأنبياء: 105].

حتى أذن الله – تعالى – ببعثة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وكان فتح بيت المقدس إحدى بشاراته صلى الله عليه وسلم – كما في صحيح البخاري -، وكانت وراثته ووراثة أمته للأرض المباركة؛ هي سنة الله الممتدة على مرِّ العصور، ومنذ عهد إبراهيمَ عليه السلام.

وكانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء في (بيت المقدس) ليلةَ الإسراء؛ إعلاناً بأن ما جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو كلمة الله الأخيرة إلى البشر، أخذت تمامها على يد محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأن آخر صبغة لـ (المسجد الأقصى) هي صبغة أتباع محمد صلى الله عليه وسلم؛ فالتصق نسبُ المسجد الأقصى بهذه الأمة الوارثة.

وفي السنةِ الخامسةِ عشرة للهجرة؛ تحققت بشارة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ودخل المسلمون (بيتَ المقدس)، وجاء عمر رضي الله عنه من المدينة المنورة إلى فلسطين، وتسلم مفاتيح (بيت المقدس) تسلماً شريفاً في قصة تكتب تفاصيلها بمداد النور.

هذا هو الطريق إلى فلسطين، دخل عمر بعزة الإسلام، ولم يهدم صومعةً، ولا كنيسةً، ولا معبدًا، ولا داراَ، بل ترك للناس دور عبادتهم، وكتب لأهل البلد عهداً وأماناً وأشهد عليه.

وعلى هذا النهج سار المسلمون إلى يومنا هذا، وشهد التاريخ أن اليهود والنصارى عاشوا أسعد فترة في ظل حكم المسلمين لفلسطين، ومارسوا عبادتهم بحرية لم يجدوها في ظل أي حكم قبله أو بعده.

إن المسلمين هم الوارثون الحقيقيون لكل شريعة سماويةٍ سابقة، وهم الأولى بكل نبي ورسول سابق، وفلسطين -تاريخاً وأرضاً ومقدساتٍ ومعالمَ- هي إرث المسلمين، دافع عنها المسلمون أجيالا بعد أجيال. وقدموا لها التضحيات تلو التضحيات، ولا يزالون كذلك لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ.

لا أحد يكره السلام ولا أحد يريد الحرب، ولكن عندما تُغتصبَ أرضٌ؛ وتُهجَّر أسرٌ؛ ويُنفى شعبٌ؛ ويُعبثَ بمقدساتٍ؛ ويُزوَّرَ تاريخٌ؛ وتُغيَّرَ معالـمٌ؛ ويقعَ ظلمٌ شديدٌ بشعبٍ ما زال يُسقى المرَّ منذ عشرات السنين؛ عند ذلك، يبلغ الظلم مداه! ولا يفت الحديد بعد ذلك الا الحديد.

إنك لتعجب من هذا العالم الذي يدعي التحضر واحترام حقوق الإنسان، كيف لا يحرك ساكنا أمام هذا العدوان السافرعلى الإنسان والمقدسات في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس.

وإن كان الأولى العجب من العجز العربي، والخذلان الرسمي، عجب ممزوج بألم وحيرة عبر عنها عمر أبو ريشة في قصيدته:

أمتي هل لك بين الأمم *** منبر للسيف أو للقلم
أتلقاك وطرفي مطرق *** خجلاً من أمسك المنصرم
ألإسرائيل تعلو راية *** في حمى المهد وظل الحرم ؟
كيف أغضيت على الذل ولم *** تنفضي عنك غبار التهم ؟
أو ما كنت إذا البغي اعتدى *** موجة من لهب أو دم ؟
اسمعي نوح الحزانى واطربي *** وانظري دمع اليتامى وابسمي
رب وامعتصماه انطلقت *** ملء أفواه الصبايا اليتّم
لامست أسماعهم لكنها *** لم تلامس نخوة المعتصم
أمتي كم صنم مجدته *** لم يكن يحمل طهر الصنم
لا يلام الذئب في عدوانه *** إن يك الراعي عدو الغنم

المسجد الأقصى
صورة أرشيفية للمسجد الأقصى

الخطبة الثانية

القدس معناه مطهر، منزه، مقدس..

ذكرها الله تعالى بالبركة في 5 مواضع من القرآن..

هي أرض النبوات، ومهد الرسالات..

ديار أيوب ومحراب داود وعجائب سليمان ومهد المسيح ومهاجر الخليل..

منتهى الإسراء ومبتدأ المعراج..

أرض المحشر والمنشر، أرض الرباط والثبات..

عظمتها الملل، وأكرمتها الرسل، وتُليت فيها الكتبُ الأربعة المنـزلة من الله – عز وجل -: الزبور والتوراة والإنجيل والقرآن..

هي قبلة المسلمين الأولى وأية المسلمين الكبرى..

أرض الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة..

هي الأرض التي صلى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بالمرسلين إماما إيذانا بإمامة هذه الأمة لغيرها من الأمم.

هي التي ارتبطت بالمسجدين الشريفين الآخرين ارتباطا وثيقا محكما: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ..}

فالمبتدأ المسجد الحرام / والأقصى: المسجد الأقصى / والقصي المسجد النبوي

هذا الرباط المحكم الوثيق لا تستطيع قوى الأرض ولو اجتمعت أن تفك عراه

القدس أعظم من بلفور ووعده، وهي أشرف من كراسي الرؤساء وعروش الملوك التي يحافظ عليها أصحابها بتقديم الرشى وتضييع الحقوق والتفريط في الاقصى.

واجبنا كمسلمي أوروبا في هذه المرحلة التاريخية الصعبة:

  • إن للمسلمين في الغرب حضوراً فاعلا على الساحة الأوربية، وقد تشكلت لديهم قاعدة مادية وفكرية صلبة وشبكة علاقات قوية مع مكونات المجتمع الأوروبي المختلفة.   وواجبهم تجاه قضية المسجد الأقصى وبيت المقدس كبير، وذلك من خلال المساهمة في نقل الرواية الصحيحة حول ما يجري في بيت المقدس – كلٌّ بحسب موقعه ومساحاته المتاحة – وإظهار زيف الرواية الصهيونية التي تشوه عقول الغربيين وتحرف مواقفهم من القضية الفلسطينية العادلة.
  • التواصل مع الجهات الفاعلة في بلادنا الأوروبية الديمقراطية التي تنادي بحقوق الإنسان، فإن ما يقوم به الاحتلال في فلسطين ينافي كل المبادئ الإنسانية الأوروبية، ومن واجبنا أن تتخذ بلادنا الأوروبية المواقف المنسجمة مع قيمها ومبادئها، وأن نحرضها على ذلك بكل الوسائل القانونية الممكنة
  • تفعيل كل وسائل الدعم الإنساني لأهلنا في فلسطين عامة وبيت المقدس خاصة لتثبيتهم، بالكلمة والمقالة ووسائل التواصل الاجتماعي والمال والدعاء، ضمن القانون وعبر الوسائل الرسمية ومن خلال الجهات المختصة الموثوقة، والباب مفتوح لكل الصادقين، ولن يعدم المخلصون الوسائل.

وختاماً القدس إسلامية وستبقى إسلامية، ولا يجب أن يفت من عضدنا أو يوهن من عزائمنا ما نشهده من تآمر وخذلان، بل يجب أن نستغل هذه المناسبات لتأكيد الحقوق وتثبيت المبادئ، وربما تكون هذه الاعتداءات الصارخة فرصة لإيقاظ الأمة من سباتها. وتفعيل طاقاتها.

وليحاول كل واحد منا أن يكون وعد الله ووعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيْنَ هُمْ قَالَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِس.

المجلس الأوروبي للأئمة

Posted on Leave a comment

إذا كان القرآن شفاء فما بالنا مرضى؟

أخبر القرآن الكريم عن نفسه أنّه شفاء. ورد ذلك عامّا ثمّ خصّص بقوله سبحانه (يا أيّها النّاس قد جاءتكم موعظة من ربّكم وشفاء لما في الصّدور). ولكن عندما نقرأ القرآن بأعيننا لا بأفئدتنا فإنّنا لا نلقي بالا لهذا التّخصيص. وعندما نقرأ القرآن الكريم مجزّأ مشتّتا فإنّنا لا نظفر منه بشيء. إذا كان القرآن الكريم شفاء عامّا مطلقا غير مقيّد فأيّ معنى لقوله (شفاء لما في الصّدور)؟ وإذا كان شفاء للأبدان والأجسام فلم كان يوجّه (عليه السّلام) المرضى من صحابته إلى طبيب مشرك هو (الحارث بن كلدة)؟ ولماذا ازدهرت مهنة الطّب في بغداد وقبل ذلك وبعده حتّى جمع بعض العلماء في التّاريخ بين علمي الدّين والطبّ؟ وعندما يقضي الله سبحانه بأن يبرأ سيّد قبيلة لديغ بسبب قراءة سورة الفاتحة عليه فهل يعني ذلك نسخ آيات طلب العلم في كلّ المجالات والحقول؟ ماذا لو فهم ذلك المسلمون الأوّلون؟ إذن لما كان ابن رشد وابن سينا وغيرهما ممّن جمعوا بين الدين والدنيا.

ما هي العاهات العربية التي عالجها القرآن؟

إذا كان الصّحابة هم الذين حملوا هذا الشّفاء بقوّة إلى واقعهم فأصلحوه فهل لنا اليوم أن ننسخ المنهاج الذي وضعوه فشفاهم الله به؟

من أكبر العاهات العربية لمّا نزل هذا الشّفاء تأبّيهم عن الانقياد والانضباط والاجتماع أنفة وكبرا. ولمّا فقهوا أنّ إجتماعهم شفاء حملوا أنفسهم حملا عجيبا على بناء سقف واحد يؤويهم ولكنّه لا يصادر حرياتهم ولا يشطب تنوّعاتهم. لا زلت على رأيي القديم أنّ تلك المعجزة لا تضاهيها معجزة. معجزة هذا الشّفاء العظمى هي توحيد الصفّ العربيّ تحت سقف سياسيّ واحد. وكلّ واحد منهم كان قبيل ذلك بقليل مارجا من نار يفور أبّهة. من العاهات كذلك حالة الأمّية التي كانت تستبدّ بالوجود العربيّ. كلّ ضروب الأمّية: الابتدائية والحضارية العمرانية. ولمّا عالجوا أنفسهم بهذا الشّفاء فإنّهم قادوا الأرض كلّها بعلومهم ومعارفهم في كلّ التخصّصات الكونية. وأضحت عواصمهم السياسية قبلة طلبة العلوم والمعارف (من دمشق إلى بغداد و من غرناطة إلى القسطنطينية). والحقّ أنّه من لم يدرس كلّ ذلك من كتاب المستشرقة الألمانية (سغريد هونكه) ” شمس الله تسطع على الغرب ” لن يقدّر هذا الشّفاء قدره. وهل قامت حضارة الغرب المعاصرة سوى من بعد استيرادها لتلك العلوم والمعارف في إثر حروب الفرنجة؟ تلكما عاهتان نجح العرب في شفاء أنفسهم منهما إذ فقهو كيف يعالجون أنفسهم (عاهة التفرّق أنفة وعاهة الأمّية).

منهاج تناول الشّفاء القرآنيّ:

١- الجمع بين الكتاب والميزان. بمثل ما ورد في الوصفة الطبية في سورة الحديد. إذ لا يتحقّق مقصد القيام بالقسط حتّى يؤخذ بكفتي الشّفاء معا (الكتاب + الميزان).

٢- الجمع بين حرف القرآن وحدّه معا. كما قال حبر الأمّة (يأتي على النّاس زمان كثير قرّاؤه قليل فقهاؤه).

٣- الوعي الكافي برسالة القرآن الكريم أنّها رسالة تحريرية جامعة شاملة. كما صدع بذلك واحد من الذين تشرّبوا هذا الوعي الصّحيح وهو يثقب بسيفه بلاط فارس. (ربعيّ بن عامر: جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد).

٤- تناول الشّفاء القرآنيّ أنّه حركة جماعية لا فردية. وأنّه جاء ليشفي النّاس. وليس أمّة بعينها فحسب. أو فردا بعينه فحسب. ولولا ذلك لما صاغ كلّ نداءاته بضمير الجمع خطابا للمؤمنين وللنّاس ولبني آدم.

٥- توظيف كلّ الولاءات الجزئية والانتماءات الفرعية لأجل رصّ صفّ واحد وتشييد سقف واحد. وليس تحكيم الفرعيّ في الكلّيّ.

٦- الوعي منذ البدء بأنّ إصلاح النّفس ليس مقصودا لذاته. بل تأهّلا لخوض معركة الإصلاح أمرًا بالمعروف ونهيا عن المنكر. أمّا تزكية النّفس لأجل الفرار من النّاس بزعمه أنّهم هلكوا فهو أحبولة شيطانية.

٧- فقه سنن الاجتماع وقوانين العمران جنبا إلى جنب مع فقه الدين في أوامره ونواهيه وحلاله وحرامه. وليس تضخيم هذه وإهمال تلك.

ما هي عاهاتنا المعاصرة؟

١- جاء الشّفاء القرآنيّ يأمر بالعلم والمعرفة. ولكنّ حصيلتنا المعاصرة من ذلك هي : أكثر من ثلاثة أرباع المسلمين هم أمّيّون بالكامل. أيّ نصيب لك أن تتصوّره لأمّة عنوان دينها (اقرأ) وسلاحه (القلم) وهي أمّية في عالم يتنفّس علما ومعرفة؟

٢- جاء الشّفاء القرآنيّ يعلّمنا أنّ الاختلاف إرادة ربانية ماضية مطّردة. وأنّ التدين هو تركيب الخلافات في بوتقة التعاون. ولكنّ حصادنا هو: صوفية تكفّر السّلفية. وسلفية تكفّر الصوفية. ووهابية تزدري الأشعرية. وثكنة عسكرية تسمّي نفسها (أهل السنة والجماعة) تقصي من تشاء وتؤوي من تشاء.

٣- جاء الشّفاء القرآنيّ يأمر بإقامة العدل والحكم به بين النّاس وفق منهاج عنوانه (طاعة الله أوّلا ثمّ طاعة رسوله ثانيا ثمّ طاعة الاجتهاد من أهله في محلّه ثالثا). وليس كسبنا مذ دهسنا الشّرعية عام 40 هجرية عدا إعادة إنتاج بليد لنظام كسرويّ هرقليّ وراثيّ عشائريّ قبليّ ما جاء الإسلام إلاّ لتحرير البشرية منه.

٤- جاء الشّفاء القرآنيّ يأمر بالجهاد تحريرا للأرض المحتلة والعرض المنهوك. ولم يكن حظّنا من ذلك سوى تنافسا محموما على التّطبيع مع الكيان الغاصب لأغلى أرضنا (مسرى محمّد عليه السّلام وثالث الحرمين وأولى القبلتين). 

خلاصة:

١- القرآن الكريم شفاء لما في الصّدور أوّلا. في الصّدور شخصية معنوية تتركّب من العقل والرّوح والنّفس والعاطفة والذّوق. وهو في الآن ذاته شفاء نفسيّ ووقاية من الأمراض الرّوحية. هو لقاح عنيد يقوّي المناعة الداخلية. وعندما يأذن له الله أن يبرىء علّة بدنية فهو استثناء. وليس هو القاعدة الأصلية.

٢- القرآن الكريم شفاء ككلّ شفاء. أي أنّ الذي وصفه أرفق معه بمنهاج وقائيّ وعلاجيّ. كما يفعل كلّ طبيب يفحص مريضا. لا يصف له دواء حتّى يشترط عليه لزوم منهاج تناول ذلك الدّواء. حمل الشّفاء القرآنيّ معه منهاج تناوله وشدّد في ذلك على أمرين: الميزان الذي ينزّل ذلك الشّفاء من جهة وإتّباع محمّد عليه السّلام. إذ هو خير من تشرّب ذلك الشّفاء وخير من عالج به الإنسان. القرآن الكريم شفاء لمن يؤمن به أنّه كذلك ثمّ يتوقّى به من الأمراض توقيّا ثمّ يعالج به الحياة. أمّا الحبّ وحده فلا يصنع شفاء ولا يطرد علّة.

٣- القرآن الكريم شفاء يعالج كلّ زمان وكلّ مكان. فإذا تناولناه لمعالجة أدواء ذهبت في سبيل حالها فإنّا لا نجني عدا قعود وعطالة وبطالة وكسلا. هو شفاء متجدّد ينبض حياة. ومؤهّل لمن يفقهه لمعالجة كلّ تحدّ جديد. وهو شفاء يبرئ الأحياء الذين يسمعون. أمّا الموتى فلا يشفيهم. وهل يحتاج الموتى إلى شفاء؟

القرآن الكريم شفاء دون ريب.

ولكن كيف ندّعي به وصلا ونحن مرضى منذ قرون سحيقات غابرات؟

ذلك هو السّؤال المفتاحيّ الصّحيح.

بقلم الشيخ: الهادي بريك.