الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ﷺ وبعد:
أيام قليلة ورياح الشهر الكريم تنثر عبقها المفعم بأعمال البر والخير على الأمة الإسلامية، التي يتسارع الناس لاغتنامه ويتسابقون لحصد جوائزه، كل واحد يبحث عن مدخل جديد يدخل به على الشهر الكريم في مجلسه وسلطانه، بنية جديدة وبقول حسن وبفعل محمود، لعله يظفر به أجرا ويناله تغيرا وتحسينا ويدخره شفاعة ودفاعا غدا؛ كما روى أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيُشفَّعان»
ومن خلال هذا المقال أطرح سنة نبوية فريدة في بيان أحد أبواب الدخول على هذا الشهر والتعامل الكريم معه أقامها النبي الأمينﷺ مع الأمين جبريل عليه السلام في ثنايا الأعمال الثابتة المهمة التي فعلها النبي ﷺ في رمضان (اللقاءات المثمرة في رمضان)
فعند البخاري ومسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ»
هذا الحديث منهجية رائعة في هدي نبوي فريد يمثل في حقيقة الأمر سنة مهجورة قل من بلتفت إليها أو يفعلها ودلالاته العظيمة تكمن في النقاط التالية:
أولا: أفراد اللقاء: كيف لمجلس يجتمع فيه الرسولين رسول السماء جبريل عليه السلام مع رسول الله في أرضه محمد ﷺ؟!؛ أعظم الملائكة مع أعظم البشر، لقاء يجمع القدوات والأسوة الحسنة والطهر الكامل، هو أشبه باجتماع معقود بين العالمين بين أهل السماء ممثلا في رئيسهم وأهل الأرض ممثلا في نبيهم ﷺ ، كما أنه اجتماع المعلم والموجه جبريل عليه السلام بالمتعلم القائد رسول الله ﷺ، والشاهد في هذا أن كلما سمى أفراد اللقاء طهرا وكلما تواجد أفراده دينا كلما كان لقاءا عظيما لا تحصى ثمرته المادية والمعنوية وكلما كتب له القبول وطرد عنه الأفول
ثانيا: زمن اللقاء: أنه في رمضان أعظم الشهور عند الله وأجلها في المنزلة الشهر الذي وضعت فيه من الامتيازات ما ليس في غيره، واستصحب أجواء إيمانية لا تكون في غيره، وشرف بنزول أشرف الكلام وأعتمد فريضة وركنا لأهل الإسلام، كما أنه في الليل مناط السكون ومنبت الإخلاص ومغيب الرياء، وفي وقت نزول الملك إلى عباده، فاختيار الزمن مهم في اللقاءات المثمرة للوصول لأفضل وعي وإدراك وتحقق نشاط، والخلوص بأعلى الفوائد والنتائج، فكيف بانعقاد واجتماع فيه على تجديد عهد أو استذكار علم أو تغيير نفس أو ارتباط بمنهج أو انتقال بحال، إنه مهم والالتفات إليه دائما موجه
ثالثا: مدة اللقاء: أما مدة اللقاء فهو لقاء مستمر كل ليلة كما جاء في الحديث: ” وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ ” لقاء طويل مهم لشرف موضوعه وممتد لاغتنام جوائزه، ومتجدد لاستكمال أعماله لا عجلة فيه ولا مزاحمة عليه ولا شواغل تصرف المجتمعين عنه، كلما طالت مدته جنى أفراده من جميل ثمرته
رابعا: موضوع اللقاء وفكرته: إنه اللقاء على مدارسة القرآن الكريم على أفضل اجتماع وأحسن استماع، اجتماع يجمع التلاوة ، والتدبر ، والتعليم ، والبيان، والتذكير، ويؤسس لمنهجية التدارس حول القرآن نقرأ فنقف ونستفهم ونسأل ونمرر على القلوب والحياة آيات رب الأرض والسموات، نستوقف النفس سؤلا فيه عند كل آية إقبالا أم إدبارا، تفعيلا أم هجرا، يطرح الأفكار ويخاطب العقل، ويعالج الخلل، ويستكمل النقص، مدارسة لا تجعل القرآن دقلا ولا قراءته هذّا، أنه كلام الله ومنهجه لأمته الذي جاء يشمل حياة الإنسان جميعا من ترسيخ عقيدة، وتعديل أنماط وسلوك، وتصويب عقل ، وتبصرة وعي، وبناء حضارة ، وتفعيل حضور على كافة أصعدة المسلم حضاريا وسياسيا وفكريا واقتصاديا كيف لا يكون الأمر فيه كذلك وما زالت الأقلام التي تكتب عنه وتستخلص منه مع كل ما كتبته لم تتجاوز رطوبة شاطئه فضلا عن ولوج لججه وأمواجه.
خامسا: ثمرة اللقاء: إنه الانطلاق والانتقال إلى أعلى درجات الأداء الحياتي من الإنسان في مجالاته المتنوعة في تعبده وعلاقاته وإحساسه وتعميره تامل وصف عبد الله بن عباس لفعل رسول الله ﷺ “وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ” كيف لا وقد خرج من لقائه المثمر بمزيد همة وعمل ودوافع لتصل بالمرء إلى حالة خاصة في الإنتاج والابداع والسرعة والحركة المحمودة المجودة
رأينا ذلك في كثير من لقاءات النبي ﷺ بأصحابه كلما دارسهم كتاب الله وذكرهم بهم كيف كانت هذه المدارسات مفعلة ومهيجة لأعمال كثيرة تأمل كيف أثمرت يوما كوماتين عظيمتين أمام النبي من مال وطعام وثياب في حديث المضريين، وكيف أثمرت بستان أبي طلحة وبيرحاء، وكيف دفعت عثمان بتجهيز جيش بأكمله، كل ذلك من ثمرة هذه اللقاءات المثمرة وتفعيل واختصاصها بمدارسة القرآن العظيم
وعلى صعيد الواقع الأوربي: الذي يكسوه استوحاش البعد والفرقة والغربة والذي تعتركه المادية القاحلة فإن هذه السنة العظيمة في رمضان من أهم ما ينبغي الحرص عليها بين أبناء الوجود الإسلامي بل لربما أعلنت من خلال هذا المقال على مشروع تفعله المراكز الإسلامية يسمى مشروع “المدارسات القرآنية في الأيام والليالي الرمضانية” فيجتمع الناس اثنين أو جماعات في محاولة لتفعيل هذه السنة فيتدارس كل اثنين القرآن وردا واستظهارا وتدبرا ومعايشة ووجبا عمليا يخرجان به ويتعهدان بعضهما كل يوم في تنفيذه وغير ذلك كثير مما يحتاج المسلمون هنا للخروج بأفضل نسخه رمضانية منهم قدموها على مدار عمرهم
وأخيرا أقول إن في الحديث سنن مهمة: فاللقاء على القرآن في كل ليالي رمضان سنة، تخصيص الاجتماع بالمدارسة سنة، والتقاء رموز الأمة وعلمائها فيه سنة، وتبادل الأدوار بين الجميع في التدبر والمدارسة سنة، وتفعيل اللقاء بمعقبات الأعمال الصالحة سنة، فلا تترك أمر فعله نبيك واجتماعا أقامه الوحي الأمين معه، تقبل الله منا صالح العمال وجعلنا من اهل الإخلاص والقبول
تحياتي
بقلم الدكتور/ أحمد طه