Posted on Leave a comment

ليكن عيد الفطر في أوروبا هو عيد الطّفل

أؤمن أنّ فقه الحلال والحرام ليس هو العلم المقدّم في الإسلام. لذلك تأخّر تشريعه أزيد من عقد كامل. لماذا؟ لأنّ الفقه العمليّ ثمرة من ثمرات الفقه العقليّ والقلبيّ معا. لا يلتزم بالتّشريع إلاّ من قُدَّ فؤاده من العقيدة التي تصنع ذلك التّشريع. الغالب على ثقافتنا الإسلامية هو الاتجاه المضادّ. كان التّدوين الفقهيّ سيكون أوقع أثرا في أجيال ما بعد سقوط الخلافات المتعاقبة لو أنّه حضن أحكامه العملية في ظلال وارفة ظليلة من المقدّمات الفكرية والروحية التي يتشبّع بها تاليها فتذكّي فيه حبّها. ثمّ ينقاد بيسر إلى ثمراتها العملية. ممّا تميّز به الأصحاب الكرام عليهم الرّضوان جميعا تشبّعهم بالثّقافة العملية التي تلقّوها وهم يشهدون بأمّ أعينهم كيف كان عليه السّلام يعالج المواقف المختلفة وهو صامت أو يقول كلاما لم ينقل إلينا لسبب من الأسباب. الثقافة العملية ليست حكرا عليهم. يمكن لنا نحن اليوم كذلك تصوّر المشهد النّبويّ من جديد. ذلك هو علم الاستقراء الجامع الذي يجمع تفاصيل المشهد الواحد أو المشاهد المتناثرة ثمّ يستخلص منها ما شاء له الله من الحِكَم والعِبر. وهل جنينا على أنفسنا بأكثر من جناية النّظر المجتزإ والموقف المبتسر؟ نحن تلقّينا فقه الحلال والحرام قبل تلقّي الجذور الأوّلية الصّانعة لذلك الفقه. فقه الحلال والحرام مثل فقه قانون الطّرقات: لا ينفّذه خاليا وفي مأمن من العيون عدا من يعتقد قيمته.

أسئلة الأولياء عن أعياد النّصارى:

فكرة عنوان هذا المقال بسيطة ولكنّها مهمّة فيما أرى. تقوم تلك الفكرة على تأثيث عيدي الفطر والأضحى في أوروبا على أساس أن يكون بطلهما المقدّم أو العروس المحتفى به هو الطّفل المسلم. لماذا؟ لأنّ محطّات العيدين وجبات دسمة وأغذية نافعة على درب حفظ هوية الطّفل المسلم في أوروبا. ذلك الطّفل (ومثله الشّاب) يظلّ مشرئبّ العنق إلى المشاركة في أعياد كثيرة من أعياد غير المسلمين على امتداد عام واحد. وتظلّ أسرته متردّدة بين مشاركة مشروطة مقيّدة وبين منع صارم. وأكاد أجزم أنّ الضّحية في تلك المعركة إنّما هو (الإمام المسكين) الذي يُمطر بوابلات من الأسئلة: هل تجوز المشاركة في أعياد غير المسلمين؟ وهي في أوروبا محطّات كثيرة ويؤثّث لها أهلها تأثيثات فاخرة ساحرة كفيلة بفتنة التقيّ الورع فكيف بالطّفل الذي لمّا يشبّ عوده. ذلك الطّفل اليتيم في فصله الدّراسيّ وزملاؤه يروون له متعتهم البارحة في عيد كذا وحفلة كذا. وعندما يدخل الفصل يكون أوّل حديث للمعلّمة هو البحث عن شعور تلاميذها بعد حضورهم ذلك العيد. هي تفترض عدم وجود تلميذ حرم نفسه من تلك الفرصة أو تتعمّد ذلك. ويظلّ ذلك (الإمام المسكين) متردّدا بين إباحة مشروطة مقيّدة هي أشدّ غموضا من كسب الأشعريّ كما يقولون وبين منع. وتظلّ تلك الأسطوانة المشروخة حيّة مع كلّ عيد جديد: فلا يتوقّف وليّ الطّفل عن استفتاء (الإمام المسكين) ولا يطمئن (الإمام المسكين) لا إلى إباحة مقيّدة لا وجود لها واقعا ولا إلى منع.

المعالجة المثلى:

إذا كان ذلك كذلك فإنّ المعالجة المثلى في نظري إنّما هي تأثيث حفلات موازية وأعياد أخرى لأجل صناعة بديل ثقافيّ ترفيهيّ لذلك الطّفل. نحن مقصّرون كلّ التّقصير في صناعة ذلك. بعضنا يضنّ على ولده بمال ينفقه في تلك الحفلات. وبعضنا ينقصه الوعي الكافي بحيوية صناعة البديل. إذ الطّبيعة كما يقولون بحقّ تأبى الفراغ. والأمر فيما خبرت عائقه الوحيد هو تفرّقنا الذي جنى علينا كلّ جناية. ومن هنا فإنّ الحدّ الأدنى في صناعة ذلك البديل هو تأثيث حفلتي عيدي الفطر والأضحى على الأقلّ تأثيثا يدور كلّه حول متعة الطّفل ولهوه ولعبه ومرحه. ليكن عيد الفطر عيد الطّفل الذي يظلّ عاما كاملا يرنو إلى مشاركة أقرانه حفلاتهم ولكن يحبط كلّ الإحباط سواء أُذن له مع مراقبة بوليسية مغلّظة أو منع بالكلية. هناك خطر محقّق نحن عنه غافلون كلّ الغفلة وهو أنّ الطّفل الذي يقضي طفولته ثمّ شبابه وفق هذا النّبض المتردّد قد يصنع عقله صناعة سيئة على نحو يكون الإسلام في نفسه خصما للحياة والفرحة واللّهو والمرح والبهجة والسّرور. صناعة الطّفل معنويا أخطر فنّ مطلقا.

الهدية فريضة:

ممّا لا أتردّد في خطاب الناس به في مثل هذه المناسبات أنّ هدية الطّفل في عيدي الفطر والأضحى على الأقلّ واجب دينيّ وفريضة إسلامية في أوروبا. الهدية هنا عرف معروف. وعرفنا هو عرف النّاس الذين نسكن معهم البلاد نفسها وليس عرف مسلمين آخرين إلاّ أن يكون عرفا منكورًا شرعا. كيف يعود الطّفل الأوروبيّ إلى بيته في كلّ عيد بهدية ويعود الطّفل المسلم حتّى في أكبر عيدين في دينه مكسور الخاطر؟

نحن نملأ صدور طفلنا بعُقد خطيرة تظلّ تترسّب وتتراكم فلا ننتبه لها حتّى تنفجر في وجوهنا يوما إذ يقبض البوليس عليه في شبكة دعارة أو شبكة مخدّرات.

خلاصة:

ليكن عيد الفطر مؤثّثا كله على أساس أن يكون محطّة احتفال بالطًفل: نوفّر له كلّ ما يمكن – مجتمعين لا منفردين – أن يصنع له بديلا. عيد إسلاميّ يجمع فيه بين اعتزازه بدينه وأسرته ومسجده وبين الإغداق عليه كلّ الإغداق بمساحات واسعة من الفرح واللّهو. نحن لا نخشى على أنفسنا من ردّة إن شاء الله. إنّما نخشى على ذلك الطّفل أن يمتلأ صدره بما لا يليق عن الإسلام الذي بسببه حرم حتّى من هدية ومناسبة فرح. إذا عجزنا عن صناعة بديل متكامل شحّا أو جهلا فلا أقلّ من استثمار ما جاد به الإسلام من أعياد لأجل إعادة الاعتبار للطّفل. ليكن العيد محطّة تغذية دسمة يظلّ الطّفل يطعم حلاوة ذكراها كلّما ذكرها. ليكن العيد فقرة من فقرات حفظ الهوية. ليكن العيد مؤثّثا بخلفية صناعة بديل. نحن فرحنا في زمن مضى وفي مكان آخر عفوا من التحديات الخطيرة التي تواجه الطّفل المسلم الأوروبيّ.

الشيخ: الهادي بريك.